تطغى الظروف الاقتصادية الكارثية في لبنان على الجوانب السياسية رغم ارتباطهما بشكل وثيق، وذلك بسبب انعكاساتها على المواطنين الذين يدفعون حياتهم ثمناً للظروف المعيشية الخانقة، فما الأسباب الحقيقية لأزمة لبنان المالية؟ وهل يمكن الخروج منها؟
موقع فايننشال تايمز البريطاني نشر تقريراً، بعنوان: "أسباب أزمة لبنان المالية"، تناول فيه القصة من الناحية التاريخية سعياً وراء جذور الأزمة وبحثاً وراء إمكانيات التغلب عليها في حال كانت متاحة.
ما أبرز مؤشرات الأزمة؟
يَعلق لبنان، الدولة الشرق أوسطية المضطربة سياسياً والتي تنتمي إلى الشريحة العليا من الدول متوسطة الدخل، في أزمة مالية وسياسية، ومنذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، تغلق البنوك من فترة إلى أخرى، ويجد أصحاب الحسابات صعوبة في الوصول إلى الأرصدة الدولارية.
وعلى الرغم من أنَّ الحكومة لم تستحدث قيوداً على رؤوس الأموال رسمياً، يبدو أنَّ البنوك بادرت من تلقاء نفسها للحفاظ على السيولة ورؤوس الأموال بوضع حد أقصى للمبالغ التي بإمكان العملاء سحبها أو تحويلها إلى الخارج. وتسببت ندرة الدولار في ارتفاع سعر الأوراق الدولارية بنسبة 30% عن سعر الصرف الرسمي. (إذ يعتمد اقتصاد لبنان على الدولار الأمريكي والنقود الورقية اعتماداً كبيراً).
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول، اضطر رئيس الوزراء سعد الحريري، الذي يقود الآن حكومة تصريف أعمال عقب استقالته في 29 أكتوبر/تشرين الأول، إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ما الذي أوصل لبنان إلى هذا الوضع؟
لدى لبنان تاريخ طويل من معدلات الدين العام العالية والاختلالات الخارجية، يعود إلى فترة إعمار ما بعد الحرب الأهلية خلال التسعينيات. وعلى الرغم من أنَّ سلسلة من مؤتمرات المانحين، التي نسقها الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك في الفترة من 2011 وحتى 2007، تعهدت بتقديم مساعدة مالية ضخمة، فإنها فشلت في أن تحافظ على الاستدامة الخارجية والمالية، مثلما يتضح من الرسمين البيانيين التاليين:
متى كانت أول فرصة مهدرة؟
ويتضح من ذلك أنَّ الفترة التي أعقبت الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين ضُخَّت أرصدة بقيمة 30 مليار دولار إلى داخل لبنان (أي ما يعادل 100% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة آنذاك)، تعتبر فرصة مُهدَرَة كان يمكن استغلالها لتغيير الأوضاع.
إذ جاءت غالبية تلك التدفقات الوافدة، من عودة الأصول الأجنبية في ضوء انخفاض أسعار الفائدة عالمياً. وبينما استخدم المصرف اللبناني المركزي جزءاً من هذه التدفقات لتعزيز الاحتياطي الأجنبي، انتهى المطاف بثُلث هذه الأموال إلى تمويل زيادة عجز الحساب الجاري الذي كان ضخماً بالفعل. وفي الوقت نفسه، ارتبط أكثر من نصف الارتفاع في عجز الحساب الجاري، بزيادة في الإنفاق الحكومي (صافي أسعار الفائدة). وأدت كذلك التدفقات إلى تراجع معدلات التضخم، بعد أن وصلت إلى ذروتها عند 10% في عام 2008، وإلى ارتفاع هائل في قيمة الليرة اللبنانية.
وفي هذا السياق، أدى ارتفاع النمو الاسمي إلى انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، لكن كان في جعبة لبنان ما هو أكثر من ذلك لاستخدام الظروف العالمية المواتية لصالح تحسين الحسابات المالية للدولة، وجذب استثمارات إنتاجية إلى البلد لديها القدرة على تحفيز نمو طويل الأجل.
ما هي خطيئة البنك المركزي؟
لكن بدلاً من ذلك، ونتيجة تدفقات الأموال في عامي 2008-2009، أصبح المصرف المركزي مفرط الهوس بقدسية العملات الأجنبية، وبعد فترة وجيزة، أصبحت الاحتياطيات الأجنبية هي السياسة المُثلى للجميع، مع انزلاق المصرف المركزي إلى حالة من الذعر كلما بدأت الاحتياطيات الأجنبية في الانخفاض ولو بشكل طفيف، على الرغم من أنها حافظت على مستوى أعلى بكثير من ذلك الذي كانت عليه قبل الأزمة.
احتيال "بونزي" على الاحتياطيات الأجنبية
أدت الرغبة المتزامنة في الحفاظ على مستويات عالية من الاحتياطي الأجنبي وإنقاذ البنوك المتعثرة، في النهاية، إلى تنفيذ سياسات هندسية مالية غير تقليدية ومثيرة للجدل، وشملت هذه تقديم الدعم للبنوك التجارية التي كانت على استعداد لزيادة الودائع الدولارية في المصرف المركزي، وكشفت هذه السياسات عن تكاليف مالية كبيرة. لكنها من ناحية أخرى، تشبه أيضاً مخطط بونزي الاحتيالي، لأنَّ البنك المركزي كان يدفع أسعار فائدة أعلى من أي وقت مضى؛ لجذب الأموال بالدولار، على الرغم من أنَّ تلك الأموال لم تحقق عوائد كافية لسداد الفائدة ورأس المال.
إذ لفت صندوق النقد الدولي في هذا الصدد:
"… مع كل عملية إيداع جديدة بالدولار في مصرف لبنان المركزي، يربح بنكٌ فائدة بقيمة 6.5% بالدولار، وتتاح له فرصة اقتراض مبلغ أعلى بقليل بالليرة اللبناني بفائدة 2%، وإيداعها مرة أخرى في مصرف لبنان المركزي مقابل فائدة 10.5% لمدة 10 سنوات".
ومن المفارقات أنَّ محاولة حماية إجمالي الاحتياطيات الأجنبية أدت بعد ذلك إلى انخفاض كبير في صافي احتياطيات المصرف المركزي (أي إجمالي الاحتياطيات الأجنبية مطروحاً منها إجمالي الالتزامات بالعملات الأجنبية في البنك المركزي، بعد تسويتها وفقاً للقاعدة النقدية المقومة بالليرة اللبناني) التي تقدرها وكالات التصنيف الائتماني الآن بسالب 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
وصحيح أنَّ الحرب بسوريا، التي بدأت في عام 2011، فرضت ضغوطاً على الاقتصاد اللبناني، إلا أنه من غير المحتمل أن تكون هي السبب الأساسي للأزمة المالية، إذ انعكست آثار الحرب بالأساس على الصادرات اللبنانية وكذلك معدلات الهجرة (استقبل لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري منذ بداية الحرب).
وفي عام 2013، قدَّر البنك الدولي أنَّ التكلفة الإجمالية التي تكبَّدها لبنان بسبب تدفق الفارين من الحرب السورية إليه بلغت 2.6 مليار دولار، وهو المبلغ الذي عوضته، بل زادت عليه، مساعدات إنمائية بقيمة 8.1 مليار دولار، صُرِفَت إلى لبنان خلال الفترة من 2012 إلى 2018. وذلك مقارنة بمبلغ 3.9 مليار دولار من المساعدات حصل عليها بين عامي 2006 و2011. علاوة على ذلك، بدلاً من تسجيل حدوث صدمة مالية سلبية، تزامن بدء الحرب مع تسارع آخر في تدفقات الأموال، مدفوعاً بقيمة 13 مليار دولار من إعادة السكان تحويل الأصول الأجنبية إلى داخل الدولة خلال الفترة من 2012 وحتى 2014.
لحظة الحريري والسعودية
من المرجح أنَّ سبب الأزمة الحالية هو الاستقالة الغامضة لرئيس الوزراء سعد الحريري واختفاؤه بالمملكة العربية السعودية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، والذي ربما يكون قد أخاف المُودعين اللبنانيين الأثرياء وشجعهم على نقل الأموال إلى خارج لبنان، وقد انتهت هذه الواقعة الغريبة بإعلان الحريري استقالته من منصبه، في بيان متلفز من المملكة العربية السعودية، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
وبعد هذا الإعلان، فُقِد أثر الحريري أكثر من 10 أيام؛ وهو ما أثار مخاوف من احتجازه رهينة لدى القيادة السعودية، وفي النهاية، وبفضل تدخُّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -من خلال دعوته الحريري رسمياً لزيارة فرنسا- عاود الحريري الظهور، وتمكن من العودة إلى لبنان، حيث ألغى فوراً استقالته واستأنف عمله رئيساً للوزراء.
وبعد سلسلة الأحداث هذه تحديداً، وكما يتضح من الرسوم البيانية أدناه، انهارت الودائع المصرفية محلياً، وتراجعت أسعار الفائدة، وانخفض الإقراض المصرفي للقطاع الخاص، وهبط نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل 0.25%.
ولم يُفصَح عن المادة الرابعة من تقرير صندوق النقد الدولي الذي يغطي عامي 2017-2018 للجمهور قط (ربما لأنَّ السلطات اللبنانية لم توافق على نشره، وهو ما يعد حدثاً نادراً إلى حد ما). ومع ذلك، يتضح من البيانات أدناه، المُستخلَصة من إحصاءات مصرف لبنان المركزي، أنَّ الزيادة في أسعار الفائدة لم تُسفِر إلا عن زيادة تدهور الوضع المالي، ثم شيئاً فشيئاً، ازداد الوضع سوءاً مع انهيار الودائع الأجنبية في أوائل عام 2019:
كيف يمكن للبنان الخروج من هذه الأزمة؟
وضعت حكومة الوحدة الوطنية -التي تشكلت في أوائل عام 2019 من تحالف من جميع الأحزاب السياسية الرئيسية، والتي تمثل أيديولوجيات سياسية مختلفة إلى جانب طوائف دينية مختلفة- حزمة إصلاح اقتصادي، إلا أنها اعتُبِرَت عقاباً للمواطنين العاديين، من دون أن تتعامل مع الفساد المستشري الذي يفيد النخب السياسية والاقتصادية، وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول، انتشرت أنباء عن فرض ضريبة محتملة على خدمات الاتصال عبر الإنترنت، وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ أدت إلى اندلاع احتجاجات حاشدة وإغلاق البنوك.
ونظراً إلى أنَّ الوضع المالي والخارجي لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه، هناك حاجة إلى نوع من الخفض أو إعادة الهيكلة؛ للحد من الأزمة، لكن أي حل من هذا القبيل سيكون صعباً ومؤلماً. لذا، من المهم جداً أن توضع سياسات إصلاح تكون عادلة لمختلف الأطراف، خاصة بالنظر إلى الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية والدينية العديدة في لبنان.
في حين أنَّ خفض قيمة العملة بكثير من الأحيان يعد حلاً جيداً لاستعادة الاستدامة الخارجية، لا يُنصَح بهذا الخيار في لبنان؛ لسببين على الأقل: أولاً، ليس لدى لبنان أي قطاع تصدير تقريباً؛ لذا يجب أن يكون أي تعديل في العملة مصحوباً بانكماش الاستيراد. وهذا من شأنه أن تترتب عليه عواقب وخيمة على فئات المجتمع الأكثر احتياجاً. وثانياً، تعرُّض لبنان لديون دولارية يعني أنَّ خفض العملة سيؤدي إلى مزيد من التدهور في وضعه المالي، وسيترتب عليه كذلك آثار سلبية على الميزانية العمومية للقطاع الخاص. ومن ثم، يمكن القول إنَّ قرار فرض ضرائب على الواردات من سلع الرفاهية خيارٌ أكثر حكمة.
وبالمثل، نظراً إلى أنَّ العجز الأساسي في لبنان -أي إجمالي العجز الحكومي مستثنى منه مدفوعات الفوائد على الدين العام- منخفض؛ فإنَّ إعادة هيكلة الدين العام جيداً (أي إطالة فترة الاستحقاق بأسعار فائدة منخفضة دون تخفيض القيمة الاسمية) يمكن أن تسهم إسهاماً كبيراً في استعادة الاستدامة المالية. ومع ذلك، ستعود هذه الإجراءات بالسلب على البنوك التي تدين لها الحكومة بمبالغ كبيرة. وبينما قد يكون خفض أسعار الفائدة على الحسابات ضرورياً، من المهم عدم الاستمرار في إنقاذ حمَلة أسهم البنوك. علاوة على ذلك، من المهم معاملة جميع المودعين على قدم المساواة.
فعلى الرغم من أنَّ عديداً من المواطنين العاديين فقدوا حق الوصول الكامل إلى حساباتهم المصرفية، بعض المودعين ذوو العلاقات الجيدة تمكنوا من نقل أموالهم إلى الخارج. ومن ثم، فلكي تكون هذه الإجراءات الإصلاحية فعالة وعادلة حقاً، يجب تطبيق خفض أسعار الفائدة على الودائع المصرفية قبل أن تبدأ البنوك في فرض قيود على عمليات السحب، وربما في إعفاء المودعين الصغار من هذه الإجراءات الجديدة تعويضاً لهم عن هذه المعاملة غير العادلة.
ومع ذلك، يظل السؤال الأهم هنا هو: من سيفعل كل ذلك؟ فالشعب اللبناني فقد الثقة بنخبته السياسية، وهذا البرنامج المؤلم بحاجة لأن تنفذه بشفافيةٍ حكومةٌ ذات مصداقية.
إضافة إلى ذلك، يجب تنفيذه في أسرع وقت ممكن. وإذا مُنِحَت أية حكومة معينة طريقاً أسهل من غيرها، فقد يؤدي ذلك إلى خلق مزيد من الاضطراب في معادلة سياسية معقدة بالفعل، وربما نود أن نظل متفائلين، إلا أننا نخشى من أنه إلى حين ظهور حكومة تحظى بثقة الشعب اللبناني بالكامل، قد تزداد الأمور سوءاً.