في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلن وزير الخارجية الباكستاني شاه محمد قريشي صراحةً، أن مشروع "الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان" (CPEC) –الجزء الباكستاني من مبادرة الحزام والطريق الصينية الكبرى- يمثل "أولوية كبرى" لبلاده. جاء تصريح قريشي بعد أسابيع فقط من إعلان ياو جينغ، سفير الصين لدى باكستان، أنّ المرحلة الأولى من مشروع الممر الاقتصادي، والتي تتكون من مشاريع بنية تحتية وتوصيلية بتكلفة 62 مليار دولار، توشك على الانتهاء، وأن المرحلة الثانية ستنطلق قريباً.
المرحلة المقبلة من المشروع الضخم
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن المسؤولين الصينيين والباكستانيين أخذوا على امتداد الشهر الماضي يتحدثون بصراحةٍ لافتة للنظر حول ما ستستتبعه هذه المرحلة الثانية من المشروع، وهو مشروع غامض بقدر ما هو مكلف.
وفي حين ركّزت المرحلة الأولى على الطاقة والطرق من المفترض أن تركز المرحلة الثانية على التصنيع والزراعة والتنمية الاجتماعية الاقتصادية، مع عناية مميزة بالمناطق الاقتصادية الخاصة. وقد زعمت تقارير لوسائل إعلام صينية أن الانطلاقة الرسمية لإنشاء إحدى تلك المناطق، ومقرها في إقليم خيبر بختونخوا [منطقة البشتون] الباكستاني، ستجري هذا الشهر و "ستوظّف مباشرةً للقيام بأعمالها 150 ألف شخص" في صناعات تشمل إنشاء وحدات الهندسة الميدانية الخفيفة، ومعالجة الأغذية.
توجد مفارقة هنا، إذ بالعودة إلى عام 2017 كانت جريدة Dawn الباكستانية ذات النفوذ نشرت وثيقةً تتناول خطة طويلة الأجل لمشروع الممر. وقدّمت الوثيقة، وفقاً لصحيفة Dawn، نطاقاً بعيد المدى وغير مسبوق لاستثمارات مستقبلية، تشمل مشروعات زراعية و "عموداً فقرياً وطنياً" لصناعات الألياف البصرية، ونظاماً جديداً للمتابعة والمراقبة يسعى إلى إدارة وضمان تنفيذ القانون وتطبيق النظام في المدن الباكستانية.
وقالت الصحيفة إن الخطة "تضع في تصورها اختراقاً عميقاً وواسع النطاق لمعظم قطاعات باكستان الاقتصادية والاجتماعية من جانب الشركات الناشئة الصينية وثقافتها". لكن الحكومة الباكستانية أنكرت ما ورد في تقرير الصحيفة، ووصفت الوثائق بأنها مفرطة في تطلعاتها، وأن المعلومات الواردة غير دقيقة، لكن ما يحدث الآن هو أن بعض الأهداف عينها التي وردت في تلك الخطة الكبرى، وتحديداً ما يتعلق بالاستثمارات الزراعية والمناطق الاقتصادية الخاصة، قد جرى تعيينها خلال الأيام الأخيرة أولويات للمرحلة الثانية من مشروع الممر.
مخاوف كبيرة
تقول فورين بوليسي، من الواضح أن العاصمتين كلتيهما كان لديهما خطط كبرى تتعلق بمشروع الممر. لكن إطلاق المرحلة الثانية من المشروع يأتي في وقت تواجه فيه باكستان تحديات متزايدة، لاسيما أن الحكومة الباكستانية الحالية بدت أقل حماسة للمشروع من سابقتها. فقد ورث عمران خان، الذي انتخب رئيساً للوزراء في باكستان العام الماضي، المشروعَ من حكومة لطالما كان ينتقدها ويتهمها بالفساد.
يتعيّن على إسلام آباد الآن السير على حبل مشدود: احتواء مشروع الممر وتحصيل فوائده، لا أضراره، على الاقتصاد الباكستاني، وفي الوقت نفسه إعادة تأكيد التزامها بمشروع حاسم لكل من مصالحها الخاصة ولحلفائها الذين لا غنى عنهم بالنسبة إليها في بكين.
هناك مخاوف كثيرة حول مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. وتشمل المخاوف:
- الافتقار إلى الشفافية
- والتكاليف العالية للمشروع
- والاعتماد الكبير على العمالة الصينية
- ومخاطر الديون الكبيرة على باكستان
وقد شكَّلت هذه المخاوف –التي كثيراً ما تبرزها دراسات بحثية، ويُعترف بها حتى في النقاشات مع مؤيدي المشروع في باكستان- جوهر انتقادات نادرة وجهتها الحكومة الأمريكية للمشروع، وصدرت عن السفيرة أليس ويلز، أعلى مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية بجنوب آسيا، في خطاب ألقته في "مركز ويلسون" في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، وللمفارقة أن تصريحاتها جاءت في اليوم التالي مباشرة بعد إعلان قريشي أن مشروع الممر يمثل أولوية كبرى لباكستان.
المخاطرة بـ "كارثة مالية"
من بين المخاطر التي يعجّ بها المشروع، تبرز مخاطر الديون على نحو أكبر. ولا شك أن كثيراً من مواعيد السداد النهائية لقروض مشروع الممر لن تحين قبل عشر سنوات على الأقل، وقد صرَّح مسؤول صيني مؤخراً بأن ديون المشروع حتى الآن تبلغ أقل من عشر إجمالي الدين الباكستاني.
ومع ذلك، فإن إسلام آباد تخاطر بـ "كارثة مالية" في المستقبل، في ظل حصولها على قروض هائلة من الصين، في وقت تعاني فيه بالفعل من عبء الديون. وتحاول بكين جاهدة التخفيف من المخاوف المتعلقة بديون مبادرة الحزام والطريق، لكن حالات مثل الاستيلاء على ميناء سريلانكي أثارت قلقاً كبيراً بين كثير من الدول ذات الصلة بالمبادرة الصينية ومشروعاتها.
وقد وصل الدين العام في باكستان بالفعل إلى مستويات تنذر بالخطر. ففي منتصف عام 2019، بلغ الدين نسبة هائلة من الناتج المحلي الإجمالي، بزيادةٍ قدرها 13.5 نقطة مئوية عن العام السابق. ويمكن أن تعزى هذه المشكلة جزئياً إلى الدين المحلي لشركات القطاع العام المتعثرة في باكستان، ومنها الخطوط الجوية الوطنية والسكك الحديدية، والتي ارتفعت ديونها بنسبة تقارب 250% بين عامي 2014 و2018. واستمرت هذه الشركات في الاقتراض على نحو كبير في عام 2019، في الوقت الذي لم تحقق إسلام آباد تقدماً كبيراً فيما يتعلق بخصخصة شركات القطاع العام.
على نطاق أوسع، فإن باكستان التي شهدت انخفاض إجمالي الناتج المحلي إلى 3.3% في السنة المالية 2019، بانخفاض قدره 2.2 نقطة مئوية عن العام السابق، باتت على مشارف التقشف الكامل. إذ إن العجز في الحساب الجاري والعائدات الحكومية إلى جانب حزمة إنقاذ جديدة مقررة لصندوق النقد الدولي تُلزم إسلام آباد باتخاذ خطوات كبيرة لخفض التكاليف.
وفي ظل هذه الديون، ومعدلات تباطؤ النمو، والتقشف، ومضي باكستان قدماً في الالتزام بمخاطر الإنفاق في مشروع الممر، فإن الحكومة تخاطر بضغوط أكثر على الاقتصاد الذي يعاني بالفعل.
إسلام آباد لديها مخاوف حقيقية من المشروع
وقد أبدى حزب "حركة إنصاف" الحاكم في باكستان بعض إشارات قلقٍ متعلقة بمشروع الممر الاقتصادي. إذ بعد وقت قصير من توليه السلطة، في أغسطس/آب 2018، أعلن عن مراجعة جميع اتفاقيات مشروع الممر، في سعي منه لمعالجة الادعاءات حول امتيازات خاصة للشركات الصينية في المشروع وغيرها من المخاوف المتعلقة بالفساد.
في الشهر التالي، اقترح وزير التجارة الباكستاني عبدالرزاق داود، خلال مقابلة أجراها مع صحيفة Financial Times، أن على باكستان إيقاف المشروع حتى تتم الحكومة مراجعتها: "أعتقد أننا يجب أن نعلق كل شيء لعام أو نحوه، حتى نتمكن من العمل معاً… ربما يمكننا زيادة الزمن المخصص للمشروع لخمس سنوات أخرى أو نحو ذلك". وقال داود في وقت لاحق، إن تعليقاته جرى إخراجها من سياقها، ولكن الرسالة كانت واضحة: إسلام آباد لديها مخاوف حقيقية جداً حول مشروع الممر الاقتصادي.
جاءت الأشهر اللاحقة بمزيد من المؤشرات على رغبة إسلام آباد في التمهل والحذر فيما يتعلق بمشروع الممر الاقتصادي. ففي مارس/آذار، أعادت الحكومة توجيه نحو 170 مليون دولار من الأموال المخصصة لمشاريع البنية التحتية المشتركة مع الصين، وخصصتها لأنواع أخرى من مشاريع البناء. وفي يونيو/حزيران، كشفت ميزانيتها الفيدرالية الجديدة عن تخفيض بمقدار 645 مليون دولار في الأموال المخصصة لمشاريع الحزام والطريق، عن العام السابق.
لا ينبغي أن نتفاجأ بمخاوف الحكومة الحالية حيال مشروع الممر الاقتصادي. فحزب "حركة إنصاف" الباكستاني ما انفكّ يُعرب منذ فترة طويلة عن تفضيله الاستثمار في المواطن الباكستاني على الاستثمار في البنية التحتية، وعن سعيه لهيكل أقل فساداً وأكثر شفافية للحكم. ولطالما زعم خان أنه محارب معاد للفساد، ولديه أحلام بكبح اعتماد باكستان على الدعم الدولي، وتحويل البلاد إلى دولة رفاهية مسلمة مكتفية ذاتياً. لكن مشروع الممر الاقتصادي يتعارض مع هذه المبادئ والأهداف كلها.
الاعتماد على المنح الصينية
ثم هناك التبعات الأوسع لاعتماد إسلام آباد المكثف على الهبات والمنح الصينية، وما تمنح من نفوذ لبكين على الحكومة. إذ لطالما كان خان قومياً صريحاً صنع اسماً لنفسه من خلال معارضته القوية لهجمات الطائرات بدون طيار، وللنفوذ الأجنبي في البلاد على نحو أكبر. حتى إنه صرّح ذات مرة قائلاً إن "الباكستانيين المولعين بالغرب كانوا يبيعون أرواحهم له… مقابل بضعة ملايين من الدولارات".
لم يسبق لخان أن انتقد نفوذ الصين العميق في باكستان، ولم يكن أي مسؤول باكستاني كبير ليجرؤ على إغضاب بكين، لكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون سعيداً حيال حالة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها رعايا الصين في باكستان.
ففي العام الماضي، على سبيل المثال، وقبل بضعة أشهر فقط من تولي حكومته السلطة، أعلنت مجموعة من المهندسين الصينيين العاملين في مدينة خانوال الباكستانية عن غضبهم، وامتناعهم عن مغادرة منشآتهم السكنية لزيارة "منطقة حمراء/ حي للمتعة" حضرية، دون حماية واطلاع على التفاصيل الأمنية، ليتصاعد الأمر بعد ذلك وتسود حالة من الهياج، وتهاجم المجموعة قوات الشرطة التي نشرت هناك لحمايتهم. ولم تتخذ الحكومة الباكستانية أي إجراء ضد الرجال الصينيين الذين قطعوا أيضاً التيار الكهربائي الذي تستخدمه الشرطة في المرفق الخاص بها.
إبان ذلك، ومنذ أن أصبح خان رئيساً للوزراء، عمد خان إلى التظاهر بالجهل على نحوٍ محير عندما سئل في مقابلات تلفزيونية عن الانتهاكات البشعة التي تمارسها الصين بحق الإيغور المسلمين، وقد اضطرت حكومته إلى الضغط على السلطات لإيقاف التحقيق مع رعايا صينيين في باكستان، اتُّهموا ببيع أكثر من 600 امرأة باكستانية كعرائس، وإرسالهن إلى الصين. إن استعداء الصين ببساطة ليس خياراً مطروحاً للحكومة الباكستانية، وهو ما قد يجعل حكومة إسلام آباد تبدو جبانة أو عاجزة عن اتخاذ موقف ضد الصين.
لا خيارات بيد حكومة خان
مع ذلك، فإن الحكومة الباكستانية جدَّدت التزامها بمشروع الممر الاقتصادي. ولا يقتصر الأمر على المرحلة الثانية من المشروع، لكن –وفقاً لما ورد بأنه بناءً على توصية من بكين- عمدت إلى تشكيل هيئة إدارة جديدة للمشروع تهدف إلى جعل عملية صنع القرار في المشروع أكثر كفاءة. ويقود هذه الهيئة الجديدة الجنرال الباكستاني المتقاعد عاصم باجوا، الذي سبق له أن كان المتحدث الرسمي باسم الجيش. وهذا التعيين ليس بالأمر الصغير في دولة لا يُداني السلطة السياسية للجيش فيها أحد.
أما إسلام آباد فلا خيار مطروحاً أمامها سوى المضي في حذرٍ وتذبذب، ليس فقط بسبب تصميم بكين على المضي قدماً في المشروع، وعوائد التنمية التي تأملها إسلام آباد من وراء المشروع، وإنما أيضاً بسبب انتقادات ويلز القاسية للمشروع (وهي انتقادات أثارت استنكار زعماء باكستانيين ودفعت مجلس الشيوخ الباكستاني إلى إصدار قرار بالإجماع يدين خطاب الدبلوماسية الأمريكية). إذ ليس ثمة موقف قد يكون أكثر سوءاً للحكومة الباكستانية من تحدّي حليفها الصيني، وإعلانها الرضوخ لضغوط واشنطن المتعلقة بإيقاف المشروع.
لحسن الحظ أن هناك فرصة متاحة هنا، فالحكومة الباكستانية تعرف أن صندوق النقد الدولي يطلب مزيداً من الشفافية فيما يتعلق بمشروع الممر الاقتصادي، ومن ثم يمكن لباكستان أن تحاجج بكين بأن فتح دفاتر تمويل المشروع ومراجعتها يمكن أن يخلق فرصة للجانبين لإعادة التفاوض بشأن القروض المتعذر سدادها، بحيث تصبح أكثر ملاءمة لظروف باكستان المالية، وفي الوقت نفسه أكثر جاذبية للصين.
فبكين لا تريد لديون الاقتراض الباهظة أن تعرّض مستقبل مشروع الممر الاقتصادي للخطر، في ظل أنه العنصر الأكثر فاعلية في مبادرة الحزام والطريق حتى الآن.
المخاطر التي تكتنف المشروع عالية. فقد تحول المشروع المتعثر إلى مشروع كبير جداً، بحيث لم يعد مقبولاً فشله، وأخذ يمضي في طريقه بسرعة عالية، ومن ثم يتعين على إسلام آباد، رغم مخاوفها، أن تجد طريقة لإبقائه على المسار الصحيح.