كان اليوم 5 أغسطس/آب 1990، أي بعد أيام قلائل من غزو عراق صدام حسين للكويت واحتلالها، يومها لم يكن لخطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أن يكون أكثر صراحة وحسماً من ذلك خلال حديثه من الحديقة الجنوبية في البيت الأبيض، معلناً: "هذا الوضع لن يستمر، هذا العدوان على الكويت لن يستمر". وعلى مدى الأشهر الستة التالية، أثبت بوش ذلك، بإرسال نصف مليون جندي إلى الشرق الأوسط وقاد التحالف الدولي الذي حرر الكويت.
بعد ثلاثة عقود، تبنى رئيس أمريكي مختلف تماماً سياسة أمريكية مناقضة تماماً. وها هي الولايات المتحدة بعد أن تخلت عن شركائها من المجموعات المسلحة الكردية في سوريا، ولم تفعل شيئاً إزاء مهاجمة الطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية منشآت النفط السعودية، موقفةً نصف إنتاجها اليومي مؤقتاً. تقف واشنطن عاجزة الآن، دون أن تفعل شيئاً، كما يرى ريتشارد هاس، الدبلوماسي الأمريكي، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية، في مقالة نشرت بموقع The Strategist الأمريكي.
الشرق الأوسط بعد خروج أمريكا
يقول هاس: لكي نكون منصفين، فإن هذه العبارة تمثل مبالغة نوعاً ما، لأن الولايات المتحدة لم تنسحب من المنطقة. الحقيقة أنها قد أرسلت مؤخراً قوات إضافية للردع، وإذا لزم الأمر، للمشاركة في الدفاع عن السعودية من أي هجمات إيرانية في المستقبل، وربما الرد عليها مباشرة. لكن ليس ثمة شك في الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن الولايات المتحدة قد قلصت من وجودها ودورها في منطقة لطالما سيطرت عليها منذ ما يقرب من نصف قرن.
ترجع جذور هذا الاتجاه إلى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الابن، الذي استحال قراره بشنِّ حرب اختيارية متهورة تفتقر إلى تخطيطٍ جيد ضد العراق ليصبح نقطةَ تحولٍ في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
فقد أدت التكاليف الباهظة والنتائج السيئة لتلك الحرب إلى تحول الرأي العام الأمريكي ضد التدخل العسكري في المنطقة، وهو الأمر الذي أثّر في الرئيس باراك أوباما ومنعه من المضي قدماً في تنفيذ وعيده للنظام السوري وتحذيره بأن استخدام الأسلحة الكيماوية يعدُّ تجاوزاً لـ"خطٍ أحمر"، سيستدعي عواقب وخيمة ردّاً عليه. وعلى إثر ذلك أيضاً، قرر أوباما عدم المشاركة في التدخل العسكري الذي قاده الناتو في ليبيا، والذي أطاح بنظام معمر القذافي، لكنه ترك وراءه بلداً منقسماً ودولة فاشلة.
ما الأسباب الأخرى التي تدفع أمريكا للانسحاب من المنطقة؟
يتقاسم الرئيس الأمريكي هذا النفور من أي تدخل عسكري في المنطقة. كما أن الإنتاج الأمريكي المتزايد من النفط والغاز قد أخذ يقلّص على نحو كبير من الأهمية المباشرة للشرق الأوسط بالنسبة إلى الولايات المتحدة خلال التنافس المتجدد بين القوى العظمى، في الوقت الذي ازدادت الحاجة بالولايات المتحدة إلى توجيه مواردها وتحويل انشغالها إلى أوروبا لمواجهة روسيا، وإلى آسيا لموازنة النفوذ الصيني.
وأخذت إدارة ترامب تنأى بنفسها عن الشرق الأوسط بكل سبيل ممكن، مبرهنة على تردد كبير لديها حيال استخدام قوة عسكرية أو إقامة تمركزات لجنود أمريكيين في مناطق الصراع. هذا إلى جانب غياب الدبلوماسية الأمريكية على نحو كبير. وهكذا اختار ترامب تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية ومصر، ولم تبذل إدارته أي جهود جدية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وبلغت حالة عدم اليقين في المنطقة ذروتها فيما يتعلق بالموقف من إيران. فقد انسحبت إدارة ترامب من جانب واحد من الاتفاقية النووية التي سبق التوصل إليها مع إيران في عام 2015، رغم امتثال إيران لها. ثم عمدت الإدارة إلى تطبيق سياسة "الضغط القصوى"، والتي تألفت على نحو أساسي من عقوبات اقتصادية قاسية، وكان لها تأثير واضح على الاقتصاد الإيراني، فقد أشارت بعض التقديرات أنها تسببت في تقلّص الناتج المحلي الإجمالي لإيران بنسبة 10% تقريباً هذا العام.
لكن إذا كان تأثير العقوبات واضحاً، فإن الغرض منها ليس كذلك. في حين أن المؤكد هو أن إيران شرعت في الرد على الحرب الاقتصادية الأمريكية عليها بشنِّ حرب خاصة بها. إذ علاوة على مهاجمتها منشآت النفط السعودية، هاجمت إيران بالفعل حركة ناقلات النفط التي تمر خلال المنطقة، وبدأت تدريجياً في التحلل من القيود والالتزامات التي فرضتها عليها الصفقة النووية. ومع اشتداد الضغوط الاقتصادية على النظام، ينبغي للولايات المتحدة وحلفائها توقع ردودٍ إيرانية أخرى.
أمريكا لن تستطيع تغيير النظام الإيراني
يطرح هذا معضلة أمام إدارة ترامب. إذ على الرغم من أن أولويتها غير المعلنة لكن الواضحة هي تغيير النظام في طهران، فإن النظام الإيراني لا يزال بعد مرور 40 عاماً على الثورة الإيرانية محافظاً على مرونته، رغم الاحتجاجات العامة. وقد يُفضي الرد عسكرياً على الهجمات الإيرانية إلى نوعٍ من الصراع الذي لا يريد ترامب خوضه خلال الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تجري العام المقبل.
لكن السماح لإيران بتحرير نفسها من قيود الاتفاق النووي يرفع من احتمالات مهاجمة إسرائيل لإيران، ويجرّ الولايات المتحدة إلى الحرب. وحتى إذا لم يحدث ذلك، فإن التقاعس الأمريكي قد يدفع واحداً أو أكثر من جيران إيران إلى السعي وراء امتلاك أسلحة نووية لموازنة القدرات الإيرانية، ومواجهة احتمال انسحاب الولايات المتحدة أكثر من ذلك من المنطقة. مثل هذا التطور في أكثر مناطق العالم اضطراباً بالفعل سيكون كابوساً على الجميع.
ومن ثم فإن أفضل طريقة للمضي قدماً هي أن تتحدث الولايات المتحدة بوضوح عن السياسات التي تريد من إيران تغييرها فيما يتعلق ببرامجها النووية والصاروخية، وكذلك فيما يتعلق بسلوكها في جميع أنحاء المنطقة، وما هي مستعدة لتقديمه في المقابل.
ويجب الإعلان عن هذه السياسة للرأي العام، وبالتالي إجبار النظام على أن يشرح للمواطنين الساخطين سبب امتناعه عن قبول تخفيف العقوبات، وهو الأمر الذي ينشده الإيرانيون بشدة، وسعيه بدلاً من ذلك إلى الاستمرار في أنشطته المزعزعة للاستقرار في المنطقة وبرامجِه النووية والصاروخية. وفي ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية الشديدة قد يوافق النظام على التفاوض، تماماً كما فعل عندما وافق على إنهاء حربه التي استمرت عقداً من الزمن مع العراق، عدوه اللدود. ومع ذلك، فحتى الآن، لم يكن ثمة إشارات عن مبادرة أمريكية وشيكة من هذا القبيل.
الخلاصة
خلاصة الأمر أن إدارة ترامب أخذت تدرك أن الانسحاب من الشرق الأوسط ليس أمراً سهلاً، وأنه لا يخلو من مخاطر وتكاليف، فالولايات المتحدة لا تزال لديها مصالح في المنطقة تتعلق بمكافحة الإرهاب، ومقاومة الانتشار النووي، ودعم التدفق الحر للنفط، وتعزيز أمن إسرائيل وشركاء الولايات المتحدة في العالم العربي كما يعرف الجميع. وربما تعيد الولايات المتحدة تفكيرها مجدداً بالاستعداد لإبداء أكبر لاستخدام قوة عسكرية محدودة، إذا لزم الأمر، وأن تتجه إلى ربط سياسة العقوبات بتحركات دبلوماسية واستعداد أكبر للتنازل والتفاوض المباشر. ولكن من غير الواضح أنها ستتجه لذلك أم لا حتى الآن.