توجد الآن 6 آلاف لغة نتحدثها نحن البشر، وبما أن اللغات أو النطق هو السمة التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، فكيف تمكن العلماء من دراسة تطور اللغات لدى أسلافنا، وصولاً إلى ما نحن عليه الآن؟ القصة في هذا التقرير.
مجلة ناشيونال إنتريست الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "لدينا أسئلة: كيف تعلم البشر الكلام.. لا يتحول الصوت أو اللغة إلى أحفوريات".
وحتى حين تطورت أنظمة الكتابة، فقد كانت تمثل لغات مكتملة التطور. فبدلاً من الاكتفاء بالخطوات الأولى نحو اللغة، تشكلت بالكامل، وتكونت من كلمات وجمل وقواعد ينقلها شخص إلى آخر عبر أصوات الكلام، مثل أي لغة من اللغات الـ6000 المستخدمة اليوم.
لذلك إذا كنت تعتقد، مثلما نعتقد نحن اللغويين، أن هذه اللغة هي الفرق الأساسي بين البشر والحيوانات الذكية الأخرى، فكيف يمكننا دراسة ظهورها بين أسلافنا؟
ماذا يعرف الباحثون عن اللغة؟
لحسن الحظ، يعرف الباحثون الكثير بالفعل عن اللغة؛ الكلمات والجمل والقواعد، والكلام، الأصوات التي تنقل اللغة إلى أذن شخص آخر بين الأشخاص الأحياء. لذلك، لا بد أنه بإمكاننا مقارنة اللغة بطريقة تواصل أقل تعقيداً بين الحيوانات.
وهذا ما قضينا نحن وزملاؤنا عقوداً في دراسته: كيف تستخدم القردة والنسانيس أفواهها وحلوقها لنطق أصوات الحروف المتحركة في الكلام؟ اللغة المنطوقة بين البشر هي سلسلة منسوجة بدقة من المقاطع تضم حروفاً ساكنة ملحقة بالحروف المتحركة الأساسية في هذه المقاطع، لذلك كان إتقان الحروف المتحركة مفتاح ظهور الكلام. ونعتقد أن النتائج التي توصلنا إليها والقائمة على تخصصات متعددة تُرجع تاريخ تلك الخطوة المهمة في تطور اللغة إلى 27 مليون عام.
أصوات الكلام
ردد هذه الكلمة "but". والآن ردد "bet"، و"bat"، و"bought"، و"boot".
كل هذه الكلمات تتشابه في بدايتها ونهايتها. إلا أن الاختلافات بين أصوات حروفها المتحركة هي ما تميز بينها في الكلام.
والآن تجاهل الحروف الساكنة وردد الحروف المتحركة. ستلاحظ أن الحروف المتحركة المختلفة لها سمات صوتية مميزة، وستشعر أيضاً أن نطقها يستلزم اختلاف حركة الفك واللسان والشفتين.
لذا يحدد تكوين المجرى الصوتي -أنبوب الصوت في الحلق والفم، من الحبلين الصوتيين إلى الشفتين- الصوت، وهذا بدوره يعني أن الصوت يحمل معلومات عن تكوين المجرى الصوتي الذي أخرجه. وهذه العلاقة هي جوهر فهم علم الكلام.
بعد قضاء أكثر من نصف قرن في البحث وتطوير تقنية تشكيل نماذج تشريحية وصوتية، أصبح بإمكان علماء الكلام تصميم نموذج للمجرى الصوتي وتقييم الصوت الذي سيصدره، أو العكس، تحليل الصوت لتقدير شكل المجرى الصوتي الذي أنتجه.
هل يقتصر الأمر إذاً على صنع نموذج للمجرى الصوتي لبعض الرئيسيات، وتسجيل بعض أصواتها، وسنعرف جيداً كيف تطورت لغة الإنسان؟ آسف، ليس بهذه السرعة.
التشريح الحديث للجسم البشري لا مثيل له
إذا قارنت المجرى الصوتي للبشر بالمجرى الصوتي للرئيسيات الأخرى، فستجد فرقاً كبيراً. خذ البابون كمثال.
صعوداً من الحنجرة والأحبال الصوتية للبابون، التي هي عالية وقريبة من خط الذقن، لا يحتل التجويف الذي يسمى البلعوم سوى مساحة صغيرة، وبعدها يمتد تجويف الفم الأفقي لمسافة طويلة، أما في البالغين الذكور من البشر، فمساحة البلعوم تماثل مساحة تجويف الفم. وفضلاً عن ذلك، لسان البابون طويل ومستو، أما لسان الإنسان فهو قصير داخل الفم، وينحني لأسفل في الحلق.
وهكذا، وعلى طول رحلة التطور، انخفضت الحنجرة في حلق الإنسان، ما جعل تجويف البلعوم أكبر بكثير من نظيره في الرئيسيات الأخرى.
ومنذ حوالي 50 عاماً، درس الباحثون هذه الملاحظة لصياغة ما أطلقوا عليه نظرية انخفاض الحنجرة لنطق الحروف المتحركة. وفي إحدى الدراسات الرئيسية، طور الباحثون نموذجاً من الجبس لمجرى صوت قرد المكاك. وفحصوا فم مكاك مُخدَّر لمعرفة مدى تباين تكوين المجرى الصوتي وأضافوا هذه القيم إلى نموذجهم. وأخيراً درسوا صوت الحرف المتحرك الناتج عن تكوينات معينة لمجرى الصوت. وكانت هذه الدراسة قوية ورائدة، ولا يزال يؤخذ بها إلى اليوم مع بعض التحديثات التكنولوجية.
ماذا وجدوا؟
وجدوا مصوتاً مخفياً أو "schwa"- صوت الحرف المتحرك الذي تسمعه في كلمة "but"- وبعض الأصوات القريبة جداً، ولم يتوصلوا إلى شيء كانت فيه الحروف المتحركة مميزة بما يكفي للفصل بين الكلمات في لغة بشرية. وعزوا ذلك إلى غياب الحنجرة المنخفضة والبلعوم الكبير.
وزعمت النظرية بعد تطورها أن نطق الحروف المتحركة البشرية باختلافها يتطلب وجود مجرى صوتي يضم تجويفين للفم والبلعوم متساويين في الطول تقريباً. ولم يتحقق ذلك إلا بعد تطور تشريح البشر، منذ حوالي 200 ألف عام، وعند البالغين فقط من البشر المعاصرين، لأن الأطفال يولدون وهم بحنجرة مرتفعة تنخفض بمرور السنوات.
وبدا أن هذه النظرية تفسر ظاهرتين. الأولى، منذ ثلاثينيات القرن العشرين وبعدها، لجأت العديد من التجارب (الفاشلة) إلى تربية حيوانات الشمبانزي في منازل البشر في محاولة لتشجيعها على التصرف مثل البشر، وخاصة في اللغة والكلام. وإذا كان انخفاض الحنجرة ضرورياً لنطق الحروف المتحركة البشرية، والحروف المتحركة الضرورية للغة، فلن يتحدث الشمبانزي أبداً.
والثانية، بدا أن الأدلة الأثرية على سلوك الإنسان "الحديث"، مثل المجوهرات والمرفقات الجنائزية ورسم الكهوف والزراعة والمستوطنات، لم تبدأ إلا بعد ظهور البشر بتشريحهم الحديث، الذي يضم حنجرة منخفضة. وكانت الفكرة هي أن اللغة ساعدتهم على الإتيان بهذه السلوكيات.
إعادة دراسة النظرية في ضوء أدلة جديدة
لذلك إذا كانت نظرية انخفاض الحنجرة تقول إن الأطفال والقردة وأجدادنا البشر لا يمكنهم نطق الحروف المتحركة المختلفة، وإنما المصوت المخفي schwa فقط، فكيف نفسر إذاً، على سبيل المثال، ملاحظات جين غودال عن ظهور سمات حروف متحركة مختلفة بوضوح في أصوات الشمبانزي؟
على أن هذا النوع من الأدلة لم يكن نهاية فكرة انخفاض الحنجرة. فحتى يتفق العلماء على رأي، خاصة لدحض نظرية قديمة ومفيدة، فإننا نحتاج إلى أدلة قاطعة، وليس مجرد قصص أو خرافات.
قضى أحدنا (لويس جان بو) أكثر من عقدين في تجميع الأدلة التي تعارض نظرية انخفاض الحنجرة. وقد شملت جهود الفريق متعدد التخصصات بناء نماذج للصوت والنطق، والبحث في لغة الطفل، وعلم الحفريات، وعلم الرئيسيات، وفروع أخرى.
وكانت إحدى الخطوات الرئيسية هي دراستنا لـ"مساحة الحرف المتحرك" لقرود البابون. فسجلنا أكثر من 1,300 حديث لها وحللنا أصوات الأجزاء التي تشبه الحروف المتحركة. وأظهرت النتائج أن درجة نطق الحروف المتحركة في بعض أحاديثها كانت مكافئة لمثيلاتها البشرية المعروفة.
وتفصل مراجعتنا الأخيرة هذه الحالة برمتها، ونعتقد أنها حررت أخيراً الباحثين في علم الكلام واللغويات وعلم الرئيسيات والتطور البشري من نظرية انخفاض الحنجرة، التي كانت تقدماً كبيراً في وقتها، لكن اتضح أنها خاطئة وأن عمرها تجاوز فائدتها.
الكلام واللغة في الحيوانات؟
تتطلب اللغة البشرية مفردات قد تكون ملموسة ("ظفر إبهامي") أو مجردة ("الحب" أو "العدالة") أو في مكان وزمان آخرين (مثل "لحية لنكولن") أو حتى خيالية ("لحية غاندالف")، ويمكن تكوين جمل منها حسب الحاجة باتباع قواعد معينة. على سبيل المثال، يحتفظ "الكلب الأسود" و"القط الكاليكو" بمكانيهما سواء "طارد الأول الثاني" أو "الثاني طارده الأول"، حيث يظل المعنى كما هو ولكن ترتيب الجملة يختلف.
والبشر وحدهم هم من يملكون لغة متكاملة، وتدور مناقشات مهمة حول ما إذا كان لدى الرئيسيات أو غيرها من الحيوانات، أو أسلافنا المنقرضين الآن، أي من هذه العناصر الرئيسية للغة. تقول إحدى النظريات الشائعة إن القدرة على ابتكار قواعد نحوية نشأت مع التطور الذي نتج عنه إنسان حديث، قبل حوالي 200 ألف عام.
يتعلق الكلام، من ناحية أخرى، بالأصوات التي تُستخدم لنقل اللغة في الهواء من شخص إلى آخر. يتطلب ذلك أصواتاً مختلفة بما يكفي لتمييز الكلمات. وتضم جميع اللغات المنطوقة أصواتاً مختلفة في كل من الحروف المتحركة والحروف الساكنة، وتُنظم في مقاطع صوتية تضم الحروف المتحركة في جوهرها.
القردة والنسانيس إذاً يمكنها "الكلام"، بمعنى أنه يمكنها إخراج أصوات الحروف المتحركة المختلفة. وبهذا المعنى المحدد، لم يبدأ الكلام قبل 200 ألف عام، ولكن قبل حوالي 27 مليون سنة، أي قبل عصر سلفنا المشترك الأخير مع قرود العالم القديم مثل قردة البابون والمكاك. وهذا التاريخ أقدم بمائة مرة من ظهور تكويننا البشري الحديث.
وما زال أمام الباحثين الكثير من العمل لمعرفة كيفية تطور الكلام منذ ذلك الحين، وكيف ارتبط باللغة في النهاية.