لقد كان العقد الماضي حافلاً بغضب الشارع، تنوعت بواعث هذا الغضب ما بين التردي الاقتصادي والفساد السياسي والاحتجاج على سلوكيات مجتمعية، ومع بقاء مسببات تلك التظاهرات التي غطَّت العديد من شوارع العالم فسيظل هناك ترقب لأزمات جديدة أكبر من العقد الماضي.
في تقرير لها تقول صحيفة Guardian البريطانية، إن العقد الماضي كان عقداً سريع الاشتعال. إذ خرج ملايين المُحتجين حول العالم في المسيرات والاعتصامات، وخيَّموا في الشوارع واحتلوها، وملأوا زنازين السجون، وشاركوا في أعمال الشغب والنهب، وهتفوا وطالبوا ومارسوا الضغط السياسي، ونشروا الهاشتاغات. وأسقطت تلك الاحتجاجات الطغاة، وأطاحت بالحكومات، وغيّرت شكل الجغرافيا السياسية، وأدَّت إلى وفاة وتحوُّل الأحزاب السياسية القديمة، وميلاد وصعود أحزابٍ جديدة.
وترى الغارديان أن التقدميين والليبراليين واليساريين قادوا تلك الاحتجاجات إلى حدٍّ كبير، ودعموا عادةً مطالب الفقراء والشباب والطلاب والعمال والأقليات والسكان الأصليين والنساء أعضاء النقابات العمالية والمُهاجرين. ولكنهم، في غالبية الحالات، أتاحوا فرصةً لليسار أكبر مما يُمكنه تحمُّله انتخابياً أو سياسياً. وكانت تلك الحركات، التي أذكتها الشبكات الاجتماعية، تميل إلى الاحتراق بوهجٍ لتتلاشى سريعاً وتُفسح المجال أمام أيّ شيءٍ سيأتي لاحقاً. وشملت تلك الحركات عادةً الأشخاص نفسهم الذين يتنقّلون من احتجاجٍ إلى الآخر -ويُنظمون الحملات أولاً حول الحرب واللامساواة والعنصرية ثم التمييز الجنسي- مما أكسب ثقافة الاحتجاج جودة التنقُّل.
وكان اليمين يخرج في مسيراتٍ أيضاً، إذ احتشد الناس ضد المُهاجرين وإعادة توزيع الثروات والفساد المزعوم، بدايةً من إفريقيا ووصولاً إلى أمريكا الجنوبية. وأثبت اليمين قدرته على بناء وجود أكثر استدامة، رغم كونه وجوداً فوضوياً بالقدر نفسه وأقل إثارةً للإعجاب فيما يتعلَّق بالأعداد والاستراتيجية. وأكَّدت الفاشية نفسها بوصفها أيديولوجيةً سائدة في أوروبا. أما في الولايات المتحدة، فقد خرج النازيون الجُدد في مسيراتٍ حاملين المشاعل وقتلوا في وضح النهار. كما نظَّموا انقلاباً في بوليفيا.
كيف ساهمت الأزمة المالية العالمية في إشعال التظاهرات؟
ومن طبيعة الاحتجاجات أن تُسلِّط الضوء على مشكلاتٍ هي غير مُجهَّزةٍ لحلّها بنسبةٍ كبيرة. ولا يُمثِّل العقد الجاري استثناءً لتلك القاعدة. إذ شهِدنا بعضاً من أكبر الاحتجاجات اليسارية وأكثرها انتشاراً في التاريخ، وسنُنهي العقد مع أكثر الحكومات يمينيةً في الذاكرة الحية. وتتجلَّى تلك التناقضات في الولايات المتحدة أكثر من غيرها، إذ شهدت أربعاً من أصل أكبر خمس تظاهراتٍ في تاريخها خلال النصف الثاني من العقد الجاري، والتي حرَّكها بشكلٍ أساسي انتخاب واحدٍ من أكثر الرؤساء رجعيةً في تاريخ البلاد.
وليس مصدر هذا السائل القابل للاشتعال لغزاً كبيراً. فبنهاية عام 2008، حدثت أزمةٌ مالية ضخمة انطلقت من سوق العقارات الأمريكية، وانتشرت في جميع أنحاء العالم مثل النار في الهشيم. وكانت الدولة هي الوحيدة القادرة على إنقاذ رأسمالية السوق الحرة من شر نفسها.
وفي حين تدخَّل المال العام لإنقاذ رؤوس الأموال الخاصة، كان الجمهور هو من عانى الأمرين. إذ انخفضت الأجور، التي ظلَّت راكدةً لفترةٍ طويلة، لدرجة أنَّ دولاً مثل بريطانيا لا تزال الأجور بها أقل من وقت بداية الأزمة. وتأثَّر الجميع، لكن الجميع لم يتأثَّروا بالقدر نفسه.
وفي غضون سنوات قليلة، عادت للمصرفيين علاواتهم، فاستثمروها بمكرٍ وتهوُّر. وفي الوقت ذاته، بلغ متوسط الثروة الصافية للنساء المُلوَّنات في أمريكا خمسة دولارتٍ فقط مع بداية العقد. وشهد جيلٌ كامل من الشباب المستقبل يخبو أمام عينيه، والشباب الإسبان هم مُجرَّد مثالٍ أوروبيٍّ بارز على ذلك.
ولم تكُن فكرة أنَّ العقبات التالية ستُسفر عن اضطراباتٍ اجتماعية فكرةً مُستبعدة، خاصةً في الدول التي مرّرت الألم مباشرةً إلى الطبقات الأفقر عن طريق التقشف، بل كان الأمر متوقعاً تماماً. فقبل أسابيع من بداية العقد، حذَّرت شركة Moody's للتصنيف الائتماني من أنّ ارتفاع الضرائب وخفض النفقات مُستقبلاً يُمكن أن يتسبَّب في اضطراباتٍ اجتماعية. وأقرَّت كريستين لاغارد بذلك الخطر الكبير، قبل أن تصير مديرةً لصندوق النقد الدولي بعد فترةٍ قصيرة.
اضطرابات على الطراز اليوناني
ورسم نيك كليغ، زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، سيناريو قاتماً خلال حملته الانتخابية في أبريل/نيسان عام 2010: "تخيّل أنَّ المُحافظين فازوا بأغلبيةٍ مُطلقة، وجمعوا 25% من إجمالي أصوات الناخبين المُؤهلين. ثم حوَّلوا وجههم بعد أسبوعٍ أو أسبوعين ليقولوا: سوف نزيد ضريبة القيمة المُضافة إلى 20%، وسنبدأ في خفض أعداد المُعلمين ورجال الشرطة، وتقليل فاتورة الأجور الحكومية في القطاع العام. أعتقد أنَّنا يُمكن أن نُعاني اضطراباتٍ على الطراز اليوناني… إذا لم نكُن حذرين في مثل هذا الموقف". وحصل المُحافظون على 23% من الأصوات المُؤهّلة. ولم يفوزوا بأغلبيةٍ مُطلقة، لكنّ كل ذلك حدث على أيّ حالٍ بمُساعدة كليغ في الحكومة الائتلافية.
وكانت تلك الأمور بمثابة السائل شديد الاشتعال، الذي يُصَبُّ بحريةٍ ومعرفةٍ على مدار العقد. لكن الشرارة التي أشعلته اختلفت من بلدٍ لآخر، رغم وجود بعض القواسم المشتركة. وكان التقشف من القواسم المشتركة الأساسية. إذ دخل اليونانيون العقد بحكومةٍ من يسار الوسط انتُخِبَت مؤخراً، وموجاتٍ من الإضرابات والتظاهرات، وخفض تصنيف السندات، وطلبات الإنقاذ المالي. وبحلول سبتمبر/أيلول عام 2010، انضم إليهم مئات الآلاف من المُحتجين والمُضربين في بلجيكا وإسبانيا والبرتغال وسلوفينيا وأيرلندا وليتوانيا في يومٍ أوروبيٍ من الحراك واسع النطاق ضد خفض النفقات وتقليل الوظائف. وفي دبلن، قاد رجلٌ شاحنة خلَّاطٍ إسمنتي ليصدم بها أبواب البرلمان الأيرلندي. أما في بريطانيا، فقد خرج الطلاب ليحتلوا الشوارع في جميع أنحاء البلاد بعد فترةٍ قصيرة، احتجاجاً على زيادة الرسوم الدراسية.
وصارت قضايا عدم المساواة، والرأسمالية العالمية، وهوية من يجب أن يتحمّل كلفة الأزمة من القضايا العالمية بعد احتلال منتزه زوكوتي في نيويورك خلال شهر سبتمبر/أيلول عام 2011 احتجاجاً على فساد الـ1% الأغنى وتضامناً مع الـ99%. وسرعان ما تحوَّلت حركة "احتلوا وول ستريت" إلى امتيازٍ وجد موطناً له في العديد من دول العالم.
إذ ازدهرت معسكراتها للمطالبة بإعادة توزيع الثروات والتغيير المُمنهج، بدايةً من أوجوتا في نيجيريا وسيوسفيورور في آيسلندا، مروراً بفانكوفر وملبورن، ووصولاً إلى بوسطن وبورنموث. وبرهن انتشار تلك الاحتجاجات على شعبيتها التي تنتقل بسهولة، ومراوغة الأهداف التي تُواجهها.
وفي ظل عدم تقيُّد العولمة الليبرالية الجديدة بالحدود الوطنية أو المساءلة الديمقراطية، باتت تُعتبر قوةً دون وجهٍ ومنظومةً دون مركز. وهي موجودةٌ في كل مكان -في معاشات تقاعدنا، ورهوننا العقارية، وخفض الإنفاق العام- حتى تُحاول تحميل الناس والمؤسسات المسؤولية عن الفوضى التي نعيشها، وحينها يتبخَّر كل شيء.
وأدَّت هذه الطبيعة المُراوغة دور القاعدة للتقدُّم اليميني في الكثير من المناسبات. وفي اللحظة التي ظلّ المسؤولون فيها عن الأزمة المالية بعيدي المنال تعرَّف الشعبويون الانتهازيون إلى الأهداف الأكثر وضوحاً، مثل الأقليات العرقية والدينية، والمُهاجرين، واللاجئين.
احتجاجات بعيدة عن السياسة
وعلى الجانب التقدُّمي، حدثت تلك الاحتجاجات على الأغلب دون مرجعيةٍ تتعلَّق بالسياسة الانتخابية. إذ ربما كانت الاحتجاجات مُناهضةً لقائدٍ أو سياسةٍ ما، لكنها لم تنبثق عن حزب ونادراً ما دافعت عن أحد الأحزاب. وهذا لا يعني أنَّها كانت بلا تأثيرٍ على الثقافة السياسية. إذ قالت أنيتا دون، مديرة اتصالات البيت الأبيض في عهد باراك أوباما، للمُراسلين في عام 2012 إنَّ حركة "احتلوا وول ستريت أعادت صياغة النقاش الوطني [لأنَّها] منحت الشعب تصريحاً بالنقاش المفتوح لأشياء لم يسبق نقاشها بحرية، ومنحت الكثير من أعضاء الحزب الديمقراطي المزيد من الثقة في الوصول إلى تلك المراحل من انتقاد السياسات الجمهورية". وفي واشنطن العاصمة، التي شهدت أكبر المسيرات النسائية على الإطلاق، سينتهي العقد بوجود نساءٍ مُنتخباتٍ داخل الكونغرس أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
لكن تلك الاحتجاجات بدأت في إعادة تشكيل الأحزاب السياسية القائمة
إذ خضعت أحزاب الوسط الديمقراطية الاجتماعية لتحولاتٍ جذرية إلى اليسار -ومنها حزب العمال بانتخاب جيرمي كوربن، والديمقراطيون بظهور بيرني ساندرز- أو تفوَّق عليها اليسار (كما حدث في اليونان وفرنسا وهولندا) الذي يدعم عادةً حكومات الائتلاف والأقليات (كما هو الحال في فنلندا والدنمارك والسويد وإسبانيا). وأثبت اليمين أفضليته في دمج نفسه داخل الهياكل المُحافظة الموجودة مسبقاً، لذا صعد إلى مناصب السلطة بسرعةٍ أكبر في الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل وبريطانيا. ولكن العديد من الاحتجاجات لا ينطبق عليها سرد اليسار مُقابل اليمين بالضرورة، مثل السترات الصفراء في فرنسا والاحتجاجات المُناهضة للفساد الحكومي في جنوب إفريقيا واحتجاجات تأييد الديمقراطية في هونغ كونغ.
والتقشُّف لم يكُن السبب الوحيد لتلك الاحتجاجات
إذ مثَّل الفساد والاستبداد أسباباً أخرى لها. ففي الـ17 من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، دخل البائع التونسي المُتجوِّل محمد البوعزيزي (26 عاماً) إلى مكتب المُحافظ في سيدي بوزيد احتجاجاً على المُضايقات البسيطة التي كان يُواجهها وليُطالب بإعادة ميزانه الذي جرت مُصادرته في وقتٍ سابقٍ من اليوم. وحين رفض المُحافظ لقاءه وقف في وسط الشارع وصرخ: "كيف تتوقَّعون مني أن أكسب لقمة عيشي؟"، ثم صبّ البنزين على رأسه وأضرم النار في نفسه.
وكان في التعامل مع البوعزيزي رمزيةً تُشير إلى احتقار القادة الكبير للمواطنين الذين عانوا طويلاً في المنطقة. وأعقبت الثورة التونسية انتفاضاتٌ كُبرى في اليمن وسوريا ومصر وليبيا والبحرين، إلى جانب تظاهراتٍ بارزة في المغرب والعراق والجزائر ولبنان والأردن والكويت وعمان والسودان.
وكشف الربيع العربي عن أزمة لم يستطع حلها، ونظراً لأنَّ الثورات تُطالب بإقامة نظامٍ جديد، وليس الإطاحة بالنظام القديم فقط؛ فقد فشلت غالبيتها في إتمام مهمتها. وانتهت الكثير منها إلى مزيدٍ من الاستبداد تحت إداراتٍ مُختلفة، وحروبٍ أهلية، أو تدخلاتٍ غربية مُتهوِّرة.
التظاهر من الاستبداد إلى العنصرية
وبعد ثلاثة أعوام، حين رقد جسد مايكل براون الذي فارق الحياة في الشارع بفيرغسون في ولاية ميسوري؛ تحوَّل التركيز من الاستبداد إلى أمريكا والعرق. وتحوَّل هاشتاغٌ أعقب تبرئة قاتل ترايفون مارتن إلى صرخةٍ حاشدة في صورة حركة "حياة السود مُهمة". وانتشرت التظاهرات المُناهِضة لإطلاق الشرطة النار على الأمريكيين من أصلٍ إفريقي. ولم تكُن عمليات إطلاق النار تلك خبراً جديداً بالمعنى التقليدي: إذ لم تكُن نادرة الحدوث أو ظاهرةً حديثة. لكنها سيطرت على عناوين الأخبار بسبب التأثير المُشترك للشبكات الاجتماعية وأدلة الفيديو، مما أجبر على تصفية الحساب مع الواقع الذي اعتاده الأمريكيون من أصلٍ إفريقي.
وينطبق الأمر نفسه على الاحتجاج الحاشد ضد التحرُّش الجنسي، الذي نجم عن مزاعم الاغتصاب والاعتداء الجنسي العديدة ضد قطب هوليوود هارفي وينشتاين. ومرةً أخرى، صعد الشعار الذي تأسّس قبل سنوات (إذ صارت "أنا أيضاً MeToo" شعاراً للتجمُّع على الشبكات الاجتماعية عام 2006) إلى الواجهة.
ومرةً أخرى لم تحدث الفضيحة لأنَّ الواقعة كانت جديدة، بل لأنَّها تحدث منذ وقتٍ طويل، والجميع يعلم ذلك. وماهية الانتصار بالنسبة للحركة تحديداً ظلّت محل جدل، لكنَّها أحدثت فارقاً، إذ زادت الوعي وقضت على الحياة المهنية للعديد من الرجال المُعتدين في صناعتي الأفلام والإعلام. وكانت حملات الهاشتاغات من هذا النوع مثيرةً للإعجاب، بسبب قدرتها على تغيير المُحادثة وتضخيم الأصوات التي لم تُسمع من قبل. لكنَّها كانت تفتقر إلى القاعدتين الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن التنظيم، من أجل الحفاظ على استمراريتها.
حتى المدارس حصلت على نصيبها من الاحتجاجات
وبنهاية العقد الجاري، وجدت سلسلةٌ من إضرابات المدارس بطلاً لملصقاتها في الطالبة السويدية غريتا ثونبيرغ (16 عاماً)، التي خاطبت قمة الأمم المتحدة للعمل من أجل المناخ في سبتمبر/أيلول. وفي الوقت ذاته قادت حركة "الثورة على الانقراض"، المجموعة البيئية الجامعة، حملاتٍ للعمل المُباشر السلمي والعصيان المدني، مما أسفر عن تعليق العمل في المطارات والمدن البريطانية. ونظراً لحشدها من مُختلف الأجيال؛ فقد كان هدفها مُحدَّداً -لإنقاذ الكوكب- وبعيد المنال في الوقت ذاته، إذ طالبت بأن تُغيِّر المُؤسّسات والأفراد من سلوكياتهم بوصفها مسألةً مُلحّة وجوهرية.
لذا فقد انتهى العقد كما بدأ، بمطالب التغيير المُمنهج التي تزعّمها الشباب، ومئات الآلاف من الناس في شوارع تشيلي وهونغ كونغ وإندونيسيا وهايتي وبيرو والسودان ولبنان وإسرائيل والعراق والولايات المتحدة. ومع تنامي المقاومة لتشمل عدم المساواة الاقتصادية، وقمع الدولة، والتعصُّب، والتمييز الجنسي؛ صارت الثقافات السياسية أكثر استقطاباً.
وفي غياب الرد المُمنهج على الأزمة المالية للحيلولة دون تكرارها، وغياب العقاب للمتسببين فيها؛ فسيظل العالم جالساً على حافة أزمةٍ جديدة، إذ إنَّ هناك المزيد من الوقود في الشارع، والمزيد من الشرارات لإشعاله. ويَعِدُ العقد المُقبل بحرائقٍ أكبر من العقد الماضي.