عادت الحياة إلى طبيعتها جزئياً في قطاع غزة بعد أربعة أيام موحشة قرعت فيها طبول الحرب، وعاشها الفلسطينيون على وقع هجمات صاروخية إسرائيلية نثرت كتلاً من اللهب والدمار والدماء بأنحاء القطاع.
تلك الهجمات الملتهبة كان آخرها الليلة الماضية، عندما شنت مقاتلات الجيش الإسرائيلي سلسلة غارات على مناطق متفرقة في غزة، هذه المدينة المحاصرة التي لا تكاد تهدأ حتى تعود لتشتعل فيها النيران الإسرائيلية في حلقة من المآسي الإنسانية والجرائم الدموية المتواصلة منذ أكثر من 11 عاماً.
موجة العدوان الأخيرة بدأت الثلاثاء الماضي، عندما اغتالت إسرائيل بهاء أبو العطا، القيادي البارز في "سرايا القدس"، الذراع المسلح لحركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية بعد قصف منزله بمدينة غزة.
وحينها ردت الفصائل الفلسطينية المسلحة على حادثة الاغتيال بقصف المدن الإسرائيلية بالعشرات من الصواريخ محلية الصنع. وعقب هذه الصواريخ عادت إسرائيل لتوسع دائرة عدوانها بغارات جوية ومدفعية عنيفة استمرت على مدار 48 ساعة، وأسفرت عن استشهاد 34 فلسطينياً بينهم 3 سيدات و7 أطفال، وإصابة 111 آخرين.
ومنذ فجر الخميس، توقفت موجة التصعيد العسكري لساعات بعد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة "الجهاد الإسلامي" وإسرائيل بعد تدخل من السلطات المصرية والأمم المتحدة. لكن القصف الإسرائيلي على القطاع تجدد في ذات اليوم ليلاً، واستمر بشكل متقطع حتى فجر اليوم السبت، بذريعة الرد على صواريخ أطلقت من القطاع، مما ينذر باحتمالية انهيار الهدنة الهشّة.
حياة منقوصة
صباح السبت، بدأت شوارع القطاع تضج بالحياة من جديد لكنها "منقوصة" فقد غاب 34 فلسطينياً عن هذه الحياة، ولم يعد 6 طلاب كانوا من بين الشهداء إلى مقاعد الدراسة، كما لا يزال 111 جريحاً من بينهم 51 طفلاً، يتجرعون مرارة الألم في كل ليلة وغالبيتهم لما يغادروا أسرة المستشفيات.
وفي بيان لها، قالت وزارة التربية والتعليم العالي في غزة، إنها استأنفت العملية التعليمية بجميع مدارس القطاع، بعد تعليقها منذ الثلاثاء الماضي.
وبحسب الوزارة، فإن 6 طلاب كانوا من بين شهداء العدوان الإسرائيلي هم: محمد عطية حمودة، وإسماعيل عبدالعال، وأمير عياد، ومعاذ محمد السواركة، وشقيقه وسيم محمد السواركة، ومهند رسمي السواركة.
كما تضررت 15 مدرسة جراء الغارات، شملت انهيار جدران مدارس وتصدعات في فصول وتحطيم أبواب ونوافذ ووصول الحجارة وشظايا القذائف الإسرائيلية إلى داخل الفصول وساحات المدارس، وفق بيان الوزارة.
ورغم غياب الطلاب الشهداء إلا أن المدرسين في غزة لم يعتبروا أن من استشهد من تلاميذهم غائباً، وكتب أحد المعلمين على سبورة فصله بمدرسة "يافا" الثانوية شرقي مدينة غزة: "السجل (عدد الطلاب المسجلين) 49، الحضور: 48، الغياب: لا أحد لأن إسماعيل سجل حضوره في جنان النعيم".
وكان المعلم يشير بذلك إلى الطفل إسماعيل عبدالعال (16 عاماً) الذي استشهد في غارة إسرائيلية مع اثنين من أشقائه في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزلهم في حي التفاح، شرقي مدينة غزة.
المؤسسات الحكومية في القطاع عادت للعمل أيضاً بعد توقفها من الثلاثاء، بسبب التصعيد العسكري، بحسب ما أعلن المكتب الإعلامي الحكومي.
وكانت قوارب الصيادين الفلسطينيين أول من استأنف الحياة في غزة، فمنذ ليل الجمعة أبحرت بعرض البحر لتلتقط رزقها الذي تقيده السلطات الإسرائيلية بالسماح للصيادين بالعمل ضمن مساحة 12 ميلاً بحرياً فقط.
أسواق قطاع غزة استأنفت العمل أيضاً وعادت أصوات الباعة تنادي على البضائع، لكن بلا مجيب، كما كان عليه الحال قبل موجة التصعيد العسكري، فالقطاع يمر بواحدة من أسوأ الظروف الاقتصادية والمعيشية في تاريخه بسبب الحصار الإسرائيلي المتواصل عليه منذ ما يزيد عن 13 عاماً.
هدوء حذر وهدنة هشّة
لكن حالة الهدوء التي سادت القطاع منذ صباح اليوم، تبقى مشوبة بالحذر إلى حد كبير، فالعدوان قد يتجدد في أية لحظة. يقول الكاتب السياسي الفلسطيني، مصطفى الصواف، للأناضول: "أعتقد أن حالة الهدوء التي تعيشها غزة حالياً ستستمر لفترة لكنها لن تكون طويلة".
ويضيف: "الأمر منوط بحالة الاستفزاز التي يمارسها الاحتلال فطالما أن إسرائيل ملتزمة بالتهدئة فإن الفصائل الفلسطينية بغزة ستكون ملتزمة، لكن في حال عادت إسرائيل لهجماتها فإن الأمور ستتصاعد".
ولا يتوقع الصواف أن تلتزم إسرائيل طويلاً بوقف إطلاق النار، إلا أنه يرى أن الأمور ستأخذ منحى يميل نحو الهدوء خلال الفترة القصيرة القادمة، قبل أن يكون هناك موجة جديدة من الاشتباكات.
ويقول: "طالما أن هناك احتلالاً يعتدي على الشعب الفلسطيني ويريد فرض إرادته عليه لا أعتقد أن يكون هناك استقرار كامل في قطاع غزة، وإنما تكون حالة من الاستقرار والهدوء المشوب بالحذر".
تشديد الحصار سيزداد
ويستبعد الصواف أن تقدم السلطات الإسرائيلية أي تسهيلات معيشية للفلسطينيين في غزة خلال الفترة القادمة، إلا إذا مارست أطراف دولية ضغطاً عليها.
وتفرض إسرائيل منذ نحو 13 عاماً حصاراً مشدداً على غزة، ما أدى إلى زيادة كبيرة في نسب الفقر والبطالة في القطاع المكتظ بالسكان.
كما شن الجيش الإسرائيلي خلال السنوات الماضية، ثلاث حروب على غزة، أولها عام 2008، والثانية نهاية 2012، والثالثة عام 2014، نجم عنها مئات القتلى والجرحى، وتدمير آلاف الوحدات السكنية.