المظهر الوحشي الغريب الذي يتحول له، والصفات السحرية المنسوبة إليه جعلاه في خطر كبير رغم أنه مفيد جداً بالنسبة للبشر، إنه الضبع المخطط الذي يتعرض لخطر الاختفاء في لبنان، بسبب عمليات صيده.
رغم مخاوف الناس منه فإن حماية الضبع المخطط ليست مجرد ترف بيئي، ولكن صفات هذا الحيوان الفريدة تجعله مُهماً بصرف النظر عن التحولات الغريبة التي تحدث لجسده، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
صيد الضباع المشروع
كان الوقت يُقارب منتصف الليل، عندما جلس أبو سعيد على سطح سيارته "اللاند روفر" الصفراء زاهية اللون، وسلّط ضوء مصابيحها على صفحة الأرض أمامه، باحثاً عن ضِباع مُخطَّطَة. كشف ضوء المصابيح الأمامية عن ضباب كثيف أخذ يحيط بالسيارة. أصدر كاشف الخفافيش صوتاً، فقد رصد السونار صداها في المكان.
منذ بضع سنوات، عندما كان الدكتور أبو سعيد، وهو أستاذ متخصص بعلم حفظ الأحياء وخبير الضباع الـمُخطَّطة في الجامعة اللبنانية ببيروت، يُجري دراساته الخاصة بنيل شهادة الدكتوراه، طوّر نوعاً من الفخاخ لأغراض بحثية، وبينما ينتظر وحيداً في خيمته بإحدى الليالي، أصدر الفخ إشارات ضوئية حمراء واهتزازات عندما وقع فيه ضبع مُخطَّط، يقول أبو سعيد: "لقد بدا الضبع مخيفاً للغاية".
كانت المهمة البحثية التي خرج أبو سعيد فيها لرصد الضباع، قد أتت به هو وثلاثة مساعدين آخرين إلى نواحي كفر تون، وهي قرية تبعد مسافة 40 دقيقة عن الحدود السورية. رصدت أضواء كشّافاته عيون عناكب، وثعالب، وبومة صغيرة. ثم، في الصباح الباكر بينما كان يتجول بوادٍ بين منحدرَي تَلَّين، أبرز الكشّاف زوجين مما قد يكون عيون ضبع. لكن العينين أُغلقتا فوراً ولم تعاودا الظهور.
يتحول إلى حمار وحشي، ولكنه مهم جداً للإنسان بسبب صفاته الفريدة
الضَّبع المُخطَّط هو حيوان لبنان الوطني، وهو أصغر حجماً من الضبع المُرقَّط المنتشر في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ولديه لُبدة من خطوط شعر سوداء وبيضاء، عندما يشعر بالخطر ينتصب شعر هذه اللبدة، ليبدو كما لو أنه تعرَّض للصعق بالكهرباء في أثناء محاولته التحول إلى حمار وحشي.
يمثل الضبع المخطَّط جزءاً مهماً من النظام البيئي في محيطه، فهو حيوان قمَّام، لديه جهاز مناعي هائل يمكنه من اقتيات واستهلاك اللحوم المتعفنة والجِيَف بأمان، ليسهم في منع انتشار الأمراض.
لكنَّ الضباع المخططة يصعب الوصول إليها، وقليلة القيمة، وغير محبوبة إلى حد كبير.
ففي لبنان، يُطلق بعض الناس النار عليها إما خوفاً وإما خلال مطاردات الصيد، رغم أن النشاطين كليهما غير قانوني. وعلى النحو نفسه، في شمال إفريقيا وبأماكن أخرى من الشرق الأوسط، حيث توجد الضباع المخططة أيضاً، تُدهس أو تُسمَّم أو للقتل لأغراض الطب التقليدي.
يقول هشام يونس رئيس جمعية "الجنوبيون الخضر" اللبنانية، لقناة "الجديد"، إنه حيوان خجول وغير خطير إلا إذا هوجمت جِراءه أو أوكاره، ولكن لم تسجَّل أي حالةٍ بادر الضبع المخطط للهجوم فيها.
ويلفت إلى أن سبب إحساس اللبنانيين بأنه أصبح أكثر انتشاراً هو أزمة النفايات التي عانتها البلاد خلال السنوات الماضية، إذ تحاول الضباع إيجاد الطعام بها فيراها السكان.
ويشدد على أهمية هذا الحيوان في التعامل مع هذه الأزمة، لأنه يأكل النفايات كما يقضي على الأفاعي والقوارض، أي يحافظ على التوازن البيئي، فهو حاجة للبنانيين في ظل أزمات النفايات، لأنه باعتماده على الجيف بمنع انتشار الأوبئة.
المشكلة أن الناس تخلط بين الضبع المخطط الذي يعيش في لبنان ويعتمد على الجيف بشكل أساسي وهو ما يمنع انتشار الأمراض.
وانتشرت خرافات تقول إن له صفات سحرية ويطارد الناس حتى الموت، أو يجذبهم إلى أوكاره ليقتلهم، ولذا هناك من يستخدم أعضاءه لأغراض الممارسات السحرية.
"الضِّباع في فناء منزلنا!"
أمضى أبو سعيد معظم حياته المهنية محاوِلاً تغيير أسلوب تعامل اللبنانيين وموقفهم من الضباع. كانت أطروحته للدكتوراه، التي نُشرت قبل عقد من الزمان، أول دراسة كبرى لبيئة الضباع المخطَّطة وتوزيع أماكن وجودها في لبنان.
ويدير هو وزوجته ديانا "مركز التعرف على الحياة البرية"، وهي منطقة مفتوحة تضم حيوانات وبيئة برية طبيعية، وحديقة حيوانات صغيرة بالقرب من بيروت.
لقد شرعوا في إنشاء المركز في عام 1993 بالفناء الخلفي لمنزلهم، بعد مدةٍ وجيزة من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاماً.
يقول أبو سعيد: "ظنَّ الناس أننا مجانين. لقد كان الأمر مباشرة بعد الحرب، وبعض الناس لم يكن لديهم حتى الطعام. ونحن نفعل هذا؟!".
ظلّت الصراعات تؤثر في حياة الحيوانات وتشكّلها. فقد وُلدت "ستريْبي" إحدى الضباع المخطَّطة، على سبيل المثال، بالمركز في عام 2006، لكن الحرب التي كانت مشتعلة في ذلك العام بين إسرائيل وحزب الله، حالت دون إطلاق سراحها.
وعاد 19 من إخوتها الذين يتغذون على بقايا الحيوانات إلى البرية، لكن ستريْبي اعتادت قفصها وأصبحت الآن تميمة المركز وأقدم ساكن فيه.
الحل في تحويل الضباع إلى سفراء
وجدت آينات بار زيف، وهي طالبة دكتوراه في علم حفظ الأحياء بجامعة بن غوريون في النقب، أن تحويل ضباع معينة إلى "سفراء" يقدمون صورة عامة جيدة، وسيلة جيدة لتخفيف حدة الصراع بين الناس والضباع، حسبما ورد في تقرير الصحيفة الأمريكية.
عملت بار زيف، مع أنثى ضبع مخطط مروَّض تدعى روثي، على تبديد الفكرة المخيفة المتمثلة في أن الضباع تتحرك في قطعان ومجموعات.
في عام 2018، اصطيدت روثي، التي كانت تعيش بمدينة موديعين-مكابيم-ريعوت على بُعد 58 كيلومتراً من تل أبيب، وزوّدت بجهاز تعقُّب GPS، ثم أُطلق سراحها وجرت متابعتها 18 أسبوعاً، خلال مشاركتها في بيئتها.
وقالت بار زيف، في رسائل إلكترونية تبادلناها معها: "نحن نحاول أن نقول لسكان المدينة إن الضباع ليس شرطاً أن تكون في (قطعان) أو مجموعات. فالأمر ليس إلا أنثى ضبع واحدة تتجول دون أذى في جميع أنحاء المدينة".
نصف خفاش وهي تضحك كالإنسان!
نظَّم مركز الحياة البرية مؤخراً فعالية فيما يُعرف بـ "ليلة الخفافيش"، زحف الأطفال فيها عبر خيمةٍ وشبكة قماشية من "الكهوف"، في الوقت الذي تتدلى فيه خفافيش مطاطية جاحظة العينين فوق رؤوسهم. زمجرت ستريْبي عندما اقترب أبوسعيد من قفصها، ثم خدشت نفسها، في الوقت الذي أبرزت فيه بالهواء أحد المخالب الطويلة في قدمها. وبدا رأسها كما لو أنه على هيئة نصف خفاش ونصف كلب.
يقول أبو سعيد إن الآباء في لبنان يخوّفون أطفالهم من خلال نقر أظافرهم على سرائر نومهم كما لو أنها مخالب زاحفة: الضباع ستأكلك إذا لم تذهب للنوم. حتى إن بعض الناس يعتقدون أن الضبع يستخدم الخطوط على جسمه، ليجذبك إليه قبل أن يجرّك إلى مخبئه ويستدرجك إلى حتفك.
بدت الأسطورة منطقية عندما أطلقت ستريْبي أصوات لهاث متقطعة، بدت كما لو أنها أصوات إنسان في غمار ضحكه، يحاول التوقف عن الضحك لحظات لالتقاط أنفاسه.
ولهذه الأسباب تصعب مراقبتها
هناك أقل من 10 آلاف ضبعٍ مخطّط لا يزال يعيش على وجه الأرض. يُدرج "الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة ومواردها" الضباع المخطّطة بين الحيوانات المعرَّضة للانقراض، بسبب تناقص أعدادها. (وأشرف أبو سعيد على آخر مسح للحيوانات أجراه الاتحاد بلبنان في عام 2014).
تُجري المجموعة المختصة بالضباع في اتحاد الحفاظ على الطبيعة، حالياً، أكبر مسح عالمي لأربعة أنواع من الضباع، المرقّطة والمخطَّطة والغثراء والعسبار، منذ التسعينيات.
غدت البيانات متاحة بالفعل لثلاثة من هذه الأنواع، ليس من بينهم الضباع المخطَّطة، التي تعد الأقل خضوعاً للدراسة بين الأنواع الأربعة. تعلّق ستيفانيا دلونياك، وهي عالمة حيوان في جامعة ولاية ميشيغان وقائدة المجموعة المختصة بالضباع، على ذلك بالقول: "لدينا مناطق شاسعة مما نعتقد أنها قد تكون موطناً للضباع، لكن ليست لدينا أي تغطية لها أو بيانات عنها. ما تظهره الخرائط الأولية جعلنا نشعر بالقلق فيما يتعلق بالضباع المخطَّطة مقارنة مع بقية الأنواع الأخرى".
تصعب مراقبة الضباع المخطَّطة على وجه الخصوص، لأنها ليلية وتعيش بمفردها أو في أزواج، وتفضّل استيطان أماكن يتعذر الوصول إليها.
إنها تحبّ البطيخ.. وتستطيع أكل شيء حتى الفيلة!
نادراً ما تقتل الضباع حيوانات حية، لكنها تحب البطيخ، وتحصل من خلاله على الماء. غير أن البيانات عنها غير مكتملة. وغالباً ما يظن المزارعون خطأً أن الضباع التي تبحث عن الفاكهة، تسعى للانقضاض على قطعان ماشيتهم.
تقول دلونياك إن "الضباع بإمكانها أن تأكل أي شيء، من الفيل إلى اليرقة". ولا تتوافر لدى المجموعة المختصة بالضباع بيانات عن الضباع المخطَّطة بسوريا أو مصر أو ليبيا، في حين لديها بعض البيانات عنها في العراق وإيران، ومعلومات قليلة عنها في باكستان.
لا توجد أرقام يمكن الاعتماد عليها عن عدد الضباع البرية المخطَّطة في لبنان، رغم أنه من المحتمل أن تكون في حدود 100-200 ضبع.
لبنان الذي تبلغ مساحته 6 آلاف ميل مربع فقط، يشترك في حدوده مع إسرائيل، التي لا تزال في حالة حرب معه، من جهة ما، وسوريا التي ما تزال تشهد حرباً أهلية على أراضيها منذ فترة طويلة.
وأشارت دلونياك إلى أن التعاون عبر الحدود مهم للحفاظ على الحياة البرية، لكنه في بعض الأحيان يكون مستحيلاً. وقالت إن الأخبار الجيدة هي أن الضباع المخطَّطة يبدو أنها موجودة على نطاق أوسع مما كان يُعتقد سابقاً، فقد عُثر على ضباع في تركيا ونيبال وطاجيكستان، على امتداد أطرافها.
تعهدت "حيوانات لبنان" نفسها، وهي إحدى جمعيات رعاية الحيوانات، بمهمة حماية الضباع البرية من الأَسر. وفي أحد أيام الأحد مؤخراً، أحضر جاسون مير، المؤسس المشارك للجمعية، عدداً من موظفي الجمعية ومتطوعين آخرين إلى حديقة حيوانات خاصة في جنوب لبنان، لإنقاذ ثلاثة ضباع مخطَّطة. وكان هناك متطوعون من جمعية أخرى، عمرها عام، هي "جمعية الحياة البرية في لبنان".
يقول مير إن القائمين على حديقة الحيوانات أخطأوا في تصنيف معظم الحيوانات المحبوسة فيها تقريباً، فحيوان "الظبي الأسود" صنّف "إمبالة"، و "الذئب" كان خليطاً من كلب و "شيء آخر، ربما يكون ذئباً".
800 دولار مقابل كل رأس
كان صاحب حديقة الحيوانات، الذي كان يرتدي قبعة رعاة بقر وجينز، قد دفع 800 دولار عن كل ضبع، لكن جمعية حيوانات لبنان أقنعته بالتخلي عنها. احتفظت الجمعية بالضباع الثلاثة في حاوية واحدة من الصلب والخرسانة 4 × 6 أقدام. كان أحدهم يعاني جرباً، وكسوراً في أسنانه، وخرّاجاً وندبات من آثار الفخ الذي اصطاده.
في حين اتخذ الجِروانِ الصغيران ركناً لنفسيهما وناما فيه. حملت الجدران آثار ثلاثة خطوط أفقية ذات ارتفاعات مختلفة، كانت بفعل حوافر أقدام الضباع خلال قفزها في القفص.
والمهدِّئ لا يؤثر فيه
حقن الدكتور جيرهي معاصري، وهو طبيب بيطري متطوع ضمته جمعية الحياة البرية اللبنانية إليها، الضباع بمهدئات. وخلال انتظار سريان مفعول المهدئ، اعترف لنا بأنه كان يستورد حيوانات لحساب عملاء بغرض ضمها إلى مجموعة مقتنياتهم الشخصية من الحيوانات. وقال: "حتى أنا كان لديَّ مجموعتي الصغيرة الخاصة قبل الحرب".
لم تنجح المهدئات في مهمتها، فقد داخت الضباع لكنها لم تهدأ بما يكفي لجمع عينات الدم والشعر، أو لدمغ قياسات أقدامها في قوالب الطين. أمر مير بإيقاف العملية. في حين أنقذت جمعية حيوانات لبنان "وَلَّب" (حيوان يشبه الكنغر لكنه أصغر حجماً) قد صُنّف خطأ على أنه "كنغر" بدلاً من ذلك.
والاحتجاجات تفاقم المشكلة
بعد شهر من تلك الزيارة، شهد لبنان خروج مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع؛ احتجاجاً على فساد الحكومة وسوء إدارتها. كانت مجموعة الدكتور أبو سعيد قد رتّبت لحضور طبيب بيطري، هو الدكتور إيان سايرز، من المملكة المتحدة لتطعيم الضباع الثلاثة المحبوسة. وقد وصل بالكاد بعد أن أغلقت الاحتجاجات الطرق في جميع أنحاء البلاد.
عقد مير العزم على إتمام المهمة، رغم تخطيط المتظاهرين لتشكيل سلاسل بشرية تنتشر في جميع أنحاء البلاد. حُقن الجِروان، اللذان أطلق عليهما "حرية" و "وحدة"؛ تكريماً للاحتجاجات، بالمهدئات وسُحبا واحداً بعد الآخر من القفص.
وعندما رقدا على الأرض بألسنة متدلية، فحصهما الدكتور سايرز وأخذ العينات المطلوبة. استغل طائر إيمو مدهش ومثابرٌ، الفرصة وهرب من قفصه، وكُلّف متطوعٌ مهمة البحث عنه وإعادته إلى قفصه.
فُحصت أنثى الضبع الكبيرة في السن، وتلقت المضادات الحيوية اللازمة، وتُركت في حديقة الحيوانات، حيث قد تبقى لثلاثة أشهر أخرى، إذ بسبب الاحتجاجات، لم يتوافر الحصول على التصريح اللازم من الحكومة لإرسالها إلى "حديقة حيوانات سيرزا"، وهو مكان مُعَدٌّ لاستضافة ورعاية الحيوانات في فرنسا.
وها هم يطلقون الضباع في مواطنها
في حين وُضع الجِروانِ في قفص بالجزء الخلفي من شاحنة بيضاء. وجرى نقلهما على مدى ساعتين، خلال طرق وعرة ومتعرجة، بسبب الأمطار والبرد، إلى "محمية أَرز الشوف"، وهي محميَّة تشرف على وادي البقاع بها حقول من العشب الذهبي وأشجار الأرز الخضراء في الجبال.
توقفت الشاحنة في منطقة خلاء، وتركت الضباع وحدها لتلتقط أنفاسها وتهدأ من آثار الرحلة الطويلة. هدأت زخات المطر شيئاً فشيئاً لتتوقف في نهاية المطاف. حُملت الأقفاص إلى الهواء النقي. وبمجرد ما وضعت على الأرض، بدأ الجروان في الزمجرة والشِّجار. أخذ المشرفون نفَساً عميقاً، ثم فتحوا القفص، لينطلق الضبعان الصغيران "حرية" و "وحدة" من فورهما، دون نظر إلى الوراء.