واحدة من الاستراتيجيات الأساسية التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط لاكتساب نفوذ داخل الاتحاد الأوروبي تتمثل في الترويج لنفسها بأنها حامية الاستقرار والوسطية والتسامح. وتقدم أوراق اعتمادها كمدافعة عن الأقليات الدينية، وبالأخص المسيحيين، ضد تهديد الإسلام السياسي. ومع ذلك، يبدو أنَّ نجاح هذه الاستراتيجية وتأثيرها يقتصر على الفريق المحافظ في الساحة السياسية الأوروبية، بما في ذلك اليمين المتطرف، في حين يراود تياري الوسط واليسار مزيد من الشكوك بشأن هذه الروايات.
مصر نموذجاً
يقول إلدار ماميدوف، وهو دبلوماسي ومستشار السياسة الخارجية للجنة الديمقراطية بالبرلمان الأوروبي، في مقالة له بموقع Lobe Log الأمريكي، إن مصر تمثل نموذجاً واضحاً على ذلك. إذ دفع القلق من الانتقادات التي توجهها منظمات مثل البرلمان الأوروبي لسجلها الحقوقي، حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي لإيفاد بابا تواضروس الثاني -السلطة الدينية لمسيحيي مصر البالغ عددهم 15 مليون شخص- لصقل صورة مصر في بروكسل.
وخلال لقاء مع قادة البرلمان الأوروبي، ردَّد البابا تواضروس الثاني على النحو المطلوب منه السطور التي تدرب عليها جيداً حول أنَّ وضع مسيحيي مصر لم يكن في أية فترة أفضل مما هو عليه تحت قيادة الرئيس السيسي. وأدان عناصر مُخرِبة أجنبية على حوادث العنف التي استهدفت المسيحيين في الدولة.
ولم يمر أسبوع على انتهاء زيارته حتى تبنى البرلمان الأوروبي ما قد يكون أشد قراراته بشأن مصر إلى اليوم. وأدان البيان، الذي اعتمده البرلمان بأغلبية ساحقة في 24 أكتوبر/تشرين الأول، الاعتقال التعسفي لما يزيد على 4300 شخص كانوا يتظاهرون ضد "الفساد الممنهج، والقمع، والإجراءات التقشفية"، وطالبوا باستقالة السيسي.
انحياز فرنسا بقوة مع السيسي
وطالب البرلمان الأوروبي أيضاً حكومات الاتحاد بوقف تصدير معدات المراقبة إلى مصر وكذلك أية تكنولوجيا أخرى قد تسهِل الممارسات القمعية. ومع ذلك، لم تصل مطالبهم إلى فرض حظر كامل على تصدير الأسلحة نتيجة ضغوط حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "إلى الأمام" على أعضاء البرلمان الأوروبي.
وعلى الرغم من كون الحزب الفرنسي جزءاً من كتلة "تجديد أوروبا" الليبرالية في البرلمان، انضم "إلى الأمام" لصف تيار اليمين داخل البرلمان في ما يتعلق بهذه المسألة، ونظراً لموقفه القوي داخل الكتلة البرلمانية، نجح الحزب في شطب الإشارة إلى صادرات الأسلحة في البيان الذي أيدته بالفعل الأحزاب السياسية، من بينها هو نفسه. وتعكس هذه المناورة ارتفاع صادرات فرنسا لمصر من الأسلحة، وانحياز باريس الاستراتيجي بقوة مع السيسي.
لكن الجديد بخصوص هذا القرار، وما قيل إنه أثار بعض الاستياء داخل المفوضية الأوروبية -الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي- هو المطالبة بإجراء إصلاح شامل لعلاقات الاتحاد الأوروبي مع مصر. إذ احتج أعضاء البرلمان الأوروبي بأنَّ وضع حقوق الإنسان في مصر يستلزم "مراجعة جادة للدعم الذي تقدمه المفوضية لميزانية مصر". ويعني هذا الدعم ضخ تحويلات مباشرة من المفوضية إلى الخزانة المصرية، في إطار سياسة الجوار الأوروبية. وكانت هذه التحويلات قد جُمِّدت نظرياً فقط عقب مذبحة رابعة التي ارتكبتها قوات الأمن المصرية في عام 2013. لكن حتى إذا حدث هذا، وكما تقر المفوضية نفسها، لا تمثل هذه التحويلات سوى 27% من تعهدات الاتحاد الأوروبي الإجمالية نحو مصر، التي يقدمها على ما يبدو لتعزيز "الحكم الرشيد"، من بين أهداف أخرى. وضخت المفوضية ما يصل إلى 528 مليون يورو لدعم مصر بين عامي 2017 و2020.
ملايين الأموال الأوروبية توهب للسيسي
والسؤال الذي يطرحه أعضاء البرلمان الأوروبي هو ما إذا كان الاستمرار في صرف مئات الملايين من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين إلى مصر يُعَد سياسة سليمة. إذ كشفت الاحتجاجات الأخيرة، بالرغم من نطاقها الضيق، عن حدود النموذج المصري. فهو يقوم على الجمع بين الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية التي فرضها صندوق النقد الدولي وتستند إلى التقشف، مع قمع عنيف للمعارضة السياسية.
يقول ماميدوف إن السلطات المصرية تحاول تصوير المحتجين على أنهم "إرهابيون وإسلامويون"، لكن هذا تضليل متعمد. إذ اندلعت الاحتجاجات الأخيرة بسبب التكلفة الاجتماعية المدمرة لإصلاحات السيسي. فبعد ثلاث سنوات من بدء تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي، مقابل منح مصر قرضاً بقيمة 12 مليار دولار، أصبح 33% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، مقابل 28% في عام 2015. ووفقاً لإحصائيات البنك الدولي، يُقدَّر عدد الفقراء والمعرضين للفقر بنحو 60% من السكان، مع تزايد معدل غياب المساواة. يضاف إلى كل هذا وجود تقارير عن تفشي الفساد داخل الجيش، الذي يمثل الدعامة الأساسية لسلطة الرئيس.
وفي الأرجنتين، وهي بلد آخر أسفرت تدابير التقشف التي يتبعها صندوق النقد الدولي عن زيادة هائلة فيها في معدلات الفقر، أتيحت للناخبين فرصة الاحتجاج عبر صناديق الاقتراع. ففي 28 أكتوبر/تشرين الأول، انتخبوا مرشحاً من اليسار الوسط بدلاً من النيوليبرالي. لكن في المقابل، يُحرَم المصريون من حقهم في تغيير حكومتهم من خلال الانتخابات. ومع ذلك، طالما أنَّ السيسي يرفض تصحيح المسار الاقتصادي وتخفيف القمع السياسي، فحتماً ستتسع التصدعات في صرح استقراره المزعوم.
إضفاء الشرعية على القمع
يقول ماميدوف، بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإنَّ الاستمرار في ضخ الأموال في نموذج فاشل يمثل خطأً أخلاقياً واستراتيجية محدودة النظر من الناحية السياسية. إذ يضفي ذلك شرعية إلى القمع، ويجعل من لقب بطل العالم في حقوق الإنسان، الذي يصف الاتحاد الأوروبي نفسه به، أضحوكة.
وفي الوقت نفسه، يضر ذلك بمصالح أوروبا الخاصة على المدى الطويل. ويحتج مؤيدو استمرار الشراكة مع السيسي بأنَّ هذا أمر ضروري لحماية الاستقرار في مصر والتحكم في تدفقات الهجرة إلى أوروبا. وكانت هذه الحجة لتُعتبَر مقبولة، لو أنَّ حكومته قادرة على توفير استقرار حقيقي ومستدام. لكن في الواقع، ومثلما اتضح من الاحتجاجات الأخيرة والقمع العنيف لها، فمن المرجح أنَّ سياسات السيسي ستسهم في تفاقم التوترات في المجتمع المصري؛ مما سيؤدي في النهاية إلى انفجار عنيف، ومن ثم، فتح الباب على مصراعيه أمام فيضانات الهجرة غير المنتظمة التي يخشاها القادة الأوروبيون.
ما يخشاه الأوروبيون في مصر سيحصل بسبب سياساتهم الخاطئة
ويوضح القرار الذي تبناه البرلمان الأوروبي أنَّ بعض أركان المؤسسة الأوروبية على الأقل تدرك مخاطر الدعم غير المشروط للنظام المصري. ومع ذلك، فكما هو متوقع، حاول اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي دعم السيسي.
إذ صوَّتت ضد القرار كتلة "المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين"، التي تضم بين عضويتها حزب Vox الإسباني الذي يتوق لإحياء الحكم الديكتاتوري للجنرال فرانثيسكو فرانكو، وكتلة "الهوية والديمقراطية" اليمينية المتطرفة التي تصرح بعدائها للإسلام، وعلى رأسها الفرنسية مارين لوبان والإيطالي ماتيو سالفيني. لكن أصوات الأحزاب الرئيسية تجاوزت أصوات اليمين المتطرف بكثير، ورفضت أن تسقط فريسة لفزاعة الإسلاموية.
ويرى ماميدوف أن هذه النتيجة تسلط الضوء على عدم كفاية التأثير الذي ترغب الحكومة المصرية في إحداثه داخل الاتحاد الأوروبي. إذ لن تغير الحكايات عن تشييد دور عبادة مسيحية جديدة في البلاد، مهما كانت موضع ترحيب، وجهة النظر الشائعة داخل الساحة السياسية الأوروبي عن نظام السيسي. فالانتقادات المُوجَّهة لهذا النظام سياسية وليست روحانية؛ وبالتالي فالطريقة الوحيدة التي يمكن معالجتها بها بفعالية هي من خلال إجراء إصلاح سياسي ملموس.
أما كل ما هو خلاف ذلك، فيعد مخاطرة من القاهرة ستجعلها عالقة في تحالف بغيض يفرضه الواقع مع اليمين الأوروبي الذي تملؤه مشاعر الإسلاموفوبيا. وهذا يقوض مكانة مصر بوصفها فاعلاً "مهماً ومؤثراً" في المنطقة، مثلما تصف نفسها، ويضر بسمعتها في أوروبا والعالم الإسلامي، والأهم بين الكثير من المصريين أنفسهم.