انتفاضة الشعب اللبناني بجميع طوائفه بتلك الصورة وهذا الإصرار تقف خلفه قائمة طويلة من أسباب المعاناة طالت جميع الطبقات وكل جوانب الحياة اقتصادياً، وفي قلب هذه المشاكل الاقتصادية تتردد مشكلة الكهرباء على لسان الجميع، متظاهرين ومسؤولين، فلماذا يحمل ملف الكهرباء كل هذه الأهمية؟ وما مدى صعوبة إصلاحه؟
ما هو أصل مشكلة الكهرباء؟
منذ نهاية الحرب الأهلية التي استمرت عقداً ونصف العقد في لبنان ووضعت أوزارها عام 1990، ولبنان ليس لديها القدرة على توفير الكهرباء للمواطنين على مدار الساعة، وهذا جعل منازل كثيرة تعتمد على مولدات كهرباء أو على أصحاب مولدات خاصة.
وتفاقمت المشكلة مع استخدام محطات الكهرباء القديمة التي تديرها الدولة زيت وقود باهظ التكلفة، كما أن الاعتماد على محطات الكهرباء التي تعمل بزيت الوقود ومولدات الكهرباء التي تعمل بالسولار له مخاطر صحية أيضاً، حيث إنه يسبب تلوث الهواء الذي يمكن أن يؤدي إلى أمراض الجهاز التنفسي. وطبقاً لبيانات 2014 فإن تلوث الهواء في بيروت يزيد ثلاث مرات عن المعدلات التي تعتبرها منظمة الصحة العالمية خطراً.
ما هي مافيا المولدات؟
مع عجز محطات الكهرباء التي تديرها الدولة عن توفير الطاقة اللازمة للمواطنين، ظهرت المولدات الخاصة التي أصبحت عملاً تجارياً مربحاً للغاية، حيث يتقاضى أصحابها رسوماً باهظة كي تظل بضعة مصابيح مضاءة أو لاستمرار عمل الأجهزة المنزلية أثناء انقطاع الكهرباء اليومي المعتاد الذي يمكن أن يستمر لساعات.
ولا يخضع أصحاب المولدات الخاصة بشكل كبير لضوابط مسؤولين عن شبكة من كابلات الكهرباء في شوارع المدينة ويشتهرون باسم (مافيا المولدات)، ومن جانبهم يرى أصحاب هذه المولدات أنهم يوفرون خدمة لا تستطيع الدولة توفيرها.
ما هو حجم مشكلة الكهرباء؟
حتى نقف على مدى عمق المشكلة، نرصد ما تقوله الحكومة من أن صافي التحويلات لشركة كهرباء لبنان المملوكة للدولة يمثل الآن ما بين مليار و1.5 مليار دولار في العام وينفق معظمها على زيت الوقود، وهذا المبلغ يعادل نحو ربع عجز الميزانية العام الماضي البالغ 4.8 مليار دولار.
وبحسب صندوق النقد الدولي كانت التكلفة المتراكمة لدعم شركة كهرباء لبنان عام 2016، تعادل نحو 40٪ من إجمالي ديون لبنان، ويقول البنك الدولي إن نقص الكهرباء يأتي في المرتبة الثانية بعد عدم الاستقرار السياسي في عرقلة النشاط التجاري، وهو ما يجعل نمو الاقتصاد اللبناني سنوياً يتراوح بين 1 و2% فقط في السنوات الأخيرة، وتشير التقارير إلى أنه صفر تقريباً في العام الحالي، بحسب تقرير لموقع مونت كارلو الدولية.
كما أن هناك إجماعاً بين الحكومة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على أن إصلاح الكهرباء حيوي لخفض الدَّيْن الخارجي الذي يعادل الآن نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي.
لماذا لم تتحرك الحكومة من قبل لحل الأزمة؟
بذل لبنان جهداً بشكل متقطع لإنهاء انقطاع الكهرباء لعقود إلا أن جهوده أحبطها الصراع وعدم الاستقرار السياسي وتحديات صنع السياسات في نظام حكومي يعتمد على توازن دقيق للمصالح عبر التجمعات الطائفية في البلاد.
وظل لبنان بلا رئيس من عام 2014 حتى عام 2016 وباشرت حكومة مؤقتة عملها لمدة تسعة أشهر حتى فبراير/شباط من هذا العام بسبب التناحر السياسي على المناصب الوزارية.
وحتى بعد تشكيل حكومة فإنها لا تملك سوى موارد قليلة لا تكفي للإنفاق على البنية الأساسية للكهرباء؛ لأن نصف عائدات الدولة تقريباً مطلوب لخدمة الدَّيْن العام، وأدى ذلك إلى إصلاحات سريعة بدلاً من حلول طويلة الأمد مثل استئجار محطات توليد كهرباء عائمة تعمل بزيت الوقود على مراكب مدفوعة الأجر.
وقالت جيسيكا عبيد، المتخصصة في الطاقة بمنظمة استدامة البترول والطاقة في لبنان، إن شركات مولدات الكهرباء الخاصة لعبت دوراً في عرقلة الإصلاحات، ولكن المناورات بين الأحزاب السياسية المتناحرة كانت مسؤولة أيضاً عن ذلك.
ما الذي يجعل حل المشكلة صعباً لتلك الدرجة؟
هناك شقّان لإجابة هذا السؤال، شق يتعلق بوجهة نظر الحكومات اللبنانية المتعاقبة وهو ينصب على أن أسعار الكهرباء التي يتم تحصيلها من المواطنين لم تتغير منذ عام 1996، عندما كان سعر النفط لا يتجاوز 23 دولاراً للبرميل، والآن يقترب سعر النفط من 70 دولاراً، كما أن رفع سعر الكهرباء في وقت لا يحصل فيه المستهلك على خدمة جيدة يعد أمراً صعباً.
ولا يتجاوز متوسط قدرة محطات الكهرباء الرئيسية ألفي ميغاوات مقارنة مع طلب يبلغ في ذروته 3400 ميغاوات، وبالنسبة لبيروت التي تعد أفضل مدينة في لبنان يتم تزويدها بالكهرباء فإن هذا يعني انقطاعاً يومياً لمدة ثلاث ساعات، وبالنسبة لمناطق أخرى فإن ذلك يمكن أن يعني انقطاع الكهرباء معظم اليوم.
فتِّش عن الفساد
وجهة نظر الشعب المتظاهر لليوم الخامس على التوالي اليوم الإثنين 21 أكتوبر/تشرين الأول، مختلفة بالطبع عما تقوله الحكومة، وهذا منعكس في الشعارات المرفوعة في الشوارع والتي تريد تغييراً كاملاً للطبقة السياسية الحاكمة، التي يوجه لها المتظاهرون اتهامات بالفساد ونهب أموال الدولة.
ويتردد على لسان غالبية المتظاهرين اسم وزير الخارجية جبران باسيل في ملف الكهرباء تحديداً، فما هو السبب؟
كان رئيس الحكومة سعد الحريري قد أمهل التيارات السياسية في لبنان 72 ساعة تنتهي اليوم، وبحسب تسريبات صحفية، قدم الحريري ورقة إصلاحات اقتصادية، تسببت في اعتراضات من جانب جبران باسيل على عدد من البنود في الورقة الإصلاحية المقترحة، لا سيما ما يتعلق بأزمة الكهرباء، بحسب مراسلة قناة سكاي نيوز عربية.
لماذا يتردد اسم وزير الخارجية كثيراً في ملف الكهرباء؟
الاتهامات بالفساد موجهة من جانب المتظاهرين للنظام السياسي برمَّته، وفي ملف الكهرباء تحديداً يتعرض وزير الخارجية لاتهامات مباشرة بالفساد والتربح من وراء أزمة الكهرباء، وكمثال على ذلك كان الوزير السابق اللواء أشرف ريفي قد شنَّ هجوماً عنيفاً العام الماضي وعقد مؤتمراً صحفياً عرض فيه ما سمَّاه "بواخر جبران باسيل" مسمياً إياه "الفاسد الأول في الجمهورية اللبنانية، وبواخره تصلح لأن تدخل كتاب غينيس لجهة حجم الفساد"، وقال: "اضطررت لأعرض أمام الرأي العام بعضاً من نماذج الفساد الأسود لباسيل، لأن القضاء لم يستمع إليَّ".
وكان باسيل قد رفع قضية سب وقذف ضد ريفي، وحكمت المحكمة لصالحه بالحبس شهرين وغرامة مالية على ريفي، ثم أُلغي قرار الحبس مع الاكتفاء بالغرامة، على أساس أن ريفي لم يقدم للمحكمة أدلة تدعم اتهاماته.
وفي المؤتمر الصحفي قال ريفي: "إن موضوع الساعة هو: محاولتي فضح أكبر الفاسدين في الجمهورية اللبنانية، وأعني الوزير جبران باسيل. بلدنا صغير وكلنا يعرف بعضنا بعضاً. جبران باسيل ابن عائلة متوسطة الحال، كحالنا. لم تكن تملك من المال إلا اليسير… اليوم نسمع كثيراً، وعلى ألسنة أغلب اللبنانيين، تساؤلات كبرى عن ثروة باسيل ومن أين أتت".
وأضاف: "أما وقد جاء في حكم محكمة المطبوعات، أني لم أقدم الإثباتات المطلوبة لاتهامي الوزير باسيل، أنه الفاسد الأكبر في لبنان، فإني أجد نفسي مضطراً إلى أن أعرض أمام محكمة الرأي العام بعضاً من نماذج الفساد الأسود، للوزير جبران باسيل، على أمل أن أقدمها قريباً للقضاء اللبناني. إما إخباراً أو بعد الاستماع إليَّ. وأعتبر ذلك مهمة وطنية ومحاولة لوضع حد للنهب والجشع المنظم للمال العام".
"بواخر جبران باسيل"
وبحسب ريفي: "لقد شكَّلت تكاليف الكهرباء السبب الرئيسي في ازدياد الدَّيْن العام، إذ أنفق عليها أكثر من 36 بليون دولار من أصل 86 بليوناً هو حجم الدين العام. قصة بواخر جبران باسيل تصلح لأن تدخل في كتاب غينيس، لجهة حجم الفساد، ولجهة الخروج على القانون واحتقار للهيئات المعنية، من إدارة المناقصات أو هيئات الرقابة من التفتيش المركزي إلى ديوان المحاسبة. كلفت البواخر 755 مليون دولار في السنوات الخمس الأولى، من عام 2012 حتى عام 2017. هل نحن أمام فساد كبير أم أمام سوء إدارة؟ من يتابع تفاصيل القضية يدرك أننا أمام حال فساد وقح غير مسبوق. بدأت القضية بزيارة لباخرة من هذه البواخر إلى مرفأ بيروت، وكانت في طريقها إلى مرفأ البصرة. زارها الوزير باسيل بتاريخ 13/8/2010 وكان قبل الزيارة رافضاً لموضوع البواخر، وفجأة وبعد الزيارة، أصبح من المناصرين الشرسين للتعاقد مع هذه البواخر، وحاول إبان حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أن يتعاقد لخمس سنوات مع شركة "غارادينيز" وأن يروِّج بأن حل البواخر هذه هو الحل الأفضل للبنان"، بحسب صحيفة الحياة.
ثورة الكهرباء وليست ثورة الواتساب
ملف الكهرباء إذن هو المشكلة الأبرز في هذه الثورة التي كانت شرارتها "ضرائب الواتساب"، لكنَّ اللبنانيين لم يخرجوا بتلك الصورة الحاشدة وغير المسبوقة إلى الشوارع اعتراضاً على تلك الضريبة وإلا لكانوا عادوا لبيوتهم منذ اليوم الأول الخميس 17 أكتوبر/تشرين الأول بعد أن أعلنت الحكومة عن إلغاء تلك الضريبة.
لكنَّ أزمة الكهرباء مرتبطة بأبرز ما يعاني منه اللبنانيون وهو الفساد، حيث يحتل لبنان المركز 137 عالمياً من بين 175 دولة في مؤشر انتشار الفساد الذي تصدره الأمم المتحدة، وحل تلك الأزمة يخضع لتجاذبات من أطراف كثيرة مستفيدة من الوضع القائم الذي يسبب معاناة للشعب اللبناني أوصلته لنقطة التوحد تحت راية لبنان فقط بعيداً عن الرايات الطائفية والحزبية في بلد يعيش فيه 18 طائفة ويقوم نظام الحكم فيه على المحاصصة الطائفية.