خلال الصيف، ودون إشعار مسبق، أصدرت المملكة العربية السعودية مرسوماً ملكياً يقضي بإنشاء هيئة للبيانات والذكاء الاصطناعي. وأمر المرسوم أيضاً بإنشاء المركز الوطني للذكاء الاصطناعي والهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، يبدو أن السعودية في سباق مع الزمن للتوسع في مجال الذكاء الاصطناعي.
مُنح المسؤولون السعوديون 90 يوماً فقط (حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني) لاتخاذ الاستعدادات اللازمة. ورغم أن جهود التحديث هذه هدف جدير بالاهتمام، قد تفيد مبادرات التكنولوجيا الطموحة في السعودية الصين بشكل كبير، إذ وجدت نفسها أمام فرصة هائلة لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لماذا تأخرت السعودية في مجال الذكاء الاصطناعي عن الإمارات والبحرين؟
على النقيض من جيرانها العرب في الخليج، وتحديداً الإمارات العربية المتحدة والبحرين، اللتين ضختا كمية كبيرة من رأس مالهما السياسي في تطوير الذكاء الاصطناعي المحلي (AI) وصناعات التكنولوجيا المالية، فإن التحول الرقمي في السعودية لا يزال متخلفاً عنهما.
ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى أن هذا الإنجاز يمثل تحدياً أكبر في السعودية، التي تضم عدداً أكبر من السكان مقارنةً بأعداد سكان جميع دول مجلس التعاون الخليجي، وهي أكبر دولة من حيث المساحة في الشرق الأوسط. فضلاً عن ذلك، قد يكون تقدمها أبطأ لأن التحول الرقمي يمكن أن يعطل المؤسسات والقواعد القديمة المرتبطة بالوصول إلى البيانات وتوافرها والسيادة على البيانات وأسواق العمل.
ولا مؤشر على أن حلم نيوم سيتحقق
لكن تقدم السعودية الحذر يتعارض مع خطط الرياض المستقبلية اقتصادها. على سبيل المثال، في مدينة نيوم التي تبلغ تكلفتها المقترحة 500 مليار دولار، على سبيل المثال: "كل شيء سيكون متصلاً بالذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، كل شيء"، مثلما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لوكالة Bloomberg الأمريكية عام 2017. وهو إنجاز مستحيل طالما أن مصادر التمويل والطلب الدولي لمبادرات التنمية هذه غير واضحين.
ولهذا السبب بدأت السعودية في تسريع أجندتها الرقمية لاختبار الأسواق. إذ نشرت شركة زين، وهي شركة اتصالات محلية، عمليات الجيل الخامس التجارية في حوالي 20 مدينة سعودية في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، في أعقاب مجموعة من الخدمات المماثلة في الكويت. يعد التطوير المستمر للاقتصاد الرقمي للبلاد جزءاً من استراتيجية برنامج التحول الوطني لتمكين نمو القطاع الخاص.
ولكن معايير هذا البرنامج محدودة: إذ من المتوقع أن ترتفع حصة الاقتصاد الرقمي من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي من 2% في 2016 إلى 3% فقط عام 2020.
كما أن الشركات تنفر من نقل مقراتها إلى المملكة
وما يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة للحكومة السعودية أن العديد من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا استهدفت السوق السعودية الكبيرة ولكنها رفضت في الوقت نفسه فتح مقر لها هناك، وفضلت دول الخليج المجاورة.
وهذا يجعل من الصعب على السعودية بناء مركز تكنولوجي محلي وأن تصبح منافسة على التكنولوجيا في المنطقة. إذ تشير تقديرات المؤسسة الدولية للبيانات إلى أن الإنفاق على الذكاء الاصطناعي وحده في الشرق الأوسط وإفريقيا سيرتفع بنسبة 42.5% عام 2019.
أما الإمارات -لا سيما إمارة دبي- فقد تعاملت مع الذكاء الاصطناعي باعتباره مكون رئيسي في الاستراتيجية الاقتصادية التي تعتمد على التكنولوجيا في الدولة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، حين أطلقت الحكومة استراتيجية الذكاء الاصطناعي وعينت وزيراً متخصصاً في الذكاء الاصطناعي. وتهدف الحكومة الإماراتية إلى جعل البلاد حاضنة عالمية للمشاريع التجارية والمشاريع التي تنفذ التطبيقات والخدمات التي تركز على الذكاء الاصطناعي.
وها هي المملكة تخفق في مجال العملات المشفرة
تمثل القطاعات سريعة النمو في قطاع التكنولوجيا المالية، مثل صناعة العملة المشفرة، ساحة أخرى للتنافس بين السعودية وجيرانها من دول الخليج. ويشرف سوق أبوظبي العالمي، وهو منطقة مالية حرة تشرف عليها هيئة مستقلة، ومصرف البحرين المركزي على العديد من بورصات العملة المشفرة وشركات السمسرة والشركات الناشئة. وفي الواقع، تمتلك الإمارات والبحرين أكثر الأطر التنظيمية تقدماً في المنطقة للعملات المشفرة وغيرها من الأصول المشفرة.
في أوائل عام 2019، أطلقت مؤسسة النقد العربي السعودي ومصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي مشروع "عابر"، وهو مشروع عملة رقمية مشترك لتسهيل التسويات المالية بين البلدين. ولكن لم يحدث سوى تقدم ضئيل في هذا المشروع. إذ لا تزال وزارة المالية السعودية قلقة من العملات المشفرة وأصدرت تحذيرات بشأن عمليات الاحتيال المرتبطة بمشاريع التنمية الوطنية مثل نيوم.
لماذا يمكن أن تكون الصين أفضل شريك للسعودية في مجال الذكاء الاصطناعي؟
وفيما تسرع السعودية من وتيرة جهودها، سترغب الصين بالتأكيد في أن تصبح شريكة. إذ يعتبر المسؤولون ورجال الأعمال الصينيون الشرق الأوسط رابطاً تجارياً متكاملاً للأسواق الأوروبية والإفريقية. ويعمل طريق الحرير الرقمي في البلاد، وهو أحد فروع مبادرة الحزام والطريق، على تطوير البنية التحتية الرقمية على الصعيد الدولي وتنصيب الصين قوة تكنولوجية عظمى. وقد وافقت السعودية -إلى جانب ست دول أخرى- على مبادرة التعاون الدولي للاقتصاد الرقمي بقيادة الصين في أواخر عام 2017، ولا يزال كبار المسؤولين الحكوميين الصينيين يدعون إلى تعاون أكبر في مجال التكنولوجيا المتطورة بين البلدين. لكن إدارة مشاركة أكبر للصينيين في مجالات التكنولوجيا في البلاد ستتطلب إجراء توازن دقيق.
فمن ناحية، يمكن للشركات الصينية تنفيذ مشاريع البنية التحتية الرقمية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بتكلفة منخفضة وفي مواعيد نهائية قصيرة، ما سيساعد السعودية على الالتزام بميزانيتها في فترة تصبح فيها أسعار النفط منخفضة ومتقلبة نسبياً.
وفي الوقت نفسه، فإن المؤسسات الأكاديمية الصينية والشركات الخاصة والكيانات الحكومية في وضع جيد لدعم قطاعات التكنولوجيا الناشئة في السعودية.
وتؤدي الجامعات والمؤسسات البحثية في الصين دوراً رائداً في إنتاج الاختراعات وبراءات الاختراع في الذكاء الاصطناعي الموزع، والتعلم الاصطناعي، وعلم الروبوتات العصبية.
حتى أنها تطلق عملتها الرقمية الخاصة
وتطرح شركة هواوي الصينية متعددة الجنسيات للتكنولوجيا استراتيجية واضحة لمنظومة ذكاء اصطناعي عالمية، تشمل استثمارات في أبحاث الذكاء الاصطناعى وتطوير نظام ذكاء اصطناعي عالمي وبرنامج لإعداد المواهب، وتدير أيضاً مشاريع البنية التحتية للهواتف المحمولة من الجيل الخامس في الخليج. علاوة على ذلك، فإن البنك المركزي الصيني بصدد إطلاق عملة رقمية، تخطط لتوزيعها على أكبر البنوك وشركات التكنولوجيا المالية في البلاد.
ومن ناحية أخرى، فإن الانخراط الصيني في مجالات البيانات والتقنية في السعودية سوف يقلق الحكومة الأمريكية والحلفاء الآخرين، بالنظر إلى الروابط القوية بين البيانات، والذكاء الاصطناعي، والمصالح الأمنية.
والروس مستعدون للتقدم
في الواقع، يبدو أن الأمن هو القوة الدافعة للكيانات التقنية الجديدة. إذ سيساعد المركز الوطني للمعلومات في السعودية -وهو جزء من وزارة الداخلية- في تنسيق إنشاء مؤسسات التكنولوجيا الجديدة خلال الأسابيع المقبلة. وقد شغل الرئيس الجديد للمركز، عبدالله بن شرف الغامدي، سابقاً منصب نائب رئيس الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة. ومن بين أعضاء مجلس الإدارة المعينين في هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي السعودية، العديد من مسؤولي الاستخبارات والدفاع: مثل وزير الداخلية ومستشار الأمن القومي ورئيس الاستخبارات العامة ورئيس أمن الدولة.
ينظر المسؤولون الصينيون إلى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وشبكات الاتصالات العالمية باعتبارها أساسية للقوة الاقتصادية والعسكرية. والخط الذي يفصل بين التعاون الاقتصادي والمصالح الأمنية سيصبح شبه غائب في المستقبل.
ومن المؤكد أنه إذا قررت السعودية أن مخاطر العمل مع الصين لا تستحق العناء، فإن هناك شركاء محتملين آخرين. إذ أعرب صندوق الاستثمار المباشر الروسي، من جانبه، عن اهتمامه بالعمل عن كثب مع المركز الجديد للذكاء الاصطناعي في السعودية. والتقى عبدالله السواحة، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات السعودي، برئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية في 5 سبتمبر/أيلول وشجع شركات التكنولوجيا الأمريكية على زيادة حضورها في المملكة. وتمضي جوجل قدماً في إنشاء مركز بيانات رئيسي في السعودية، وأطلقت الشركة الألمانية SAP منشأة تخزين بيانات سحابية عامة في مايو/أيار عام 2018.
ووقعت شركات إريكسون وKPMG وGeneral Electric مذكرات تفاهم أيضاً مع الشركات المملوكة للدولة ووزاراتها لدعم التحول الرقمي وتطوير الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا يزال الكثيرون في مجتمع التكنولوجيا الأمريكي والأوروبي مهتمين بالتطورات الاجتماعية والسياسية والخارجية التي تشهدها المملكة.
ولكن الحلفاء وفي مقدمتهم أمريكا قد يتوقفون عن حماية السعودية ضد إيران
وفي الوقت نفسه، ستكون الصين مستعدة للانقضاض. ففي أغسطس/آب، استضافت هواوي برنامج تدريب على تكنولوجيا الجيل الخامس بالتعاون مع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في السعودية. وجاء ذلك على الرغم من التحذيرات التي وجهها المسؤولون الأمريكيون حول المخاوف الأمنية المرتبطة بحلفائها الذين يستعينون بشركة هواوي لتطوير البنية التحتية للهواتف المحمولة من الجيل الخامس.
تأمل السعودية في أن تعزز المؤسسات التكنولوجية الرائدة التي تنشأ بسرعة وبتكلفة بسيطة من الإنجازات التكنولوجية في البلاد. ومع ذلك، يجب على المسؤولين السعوديين إدارة المشاركة الصينية في مجالات التكنولوجيا في الخليج بذكاء.
فنظراً لأن الطائرات المسيرة والصواريخ تهدد منشآت الطاقة الحيوية في السعودية، لا يمكن للبلاد أن تتجاهل حلفاءها الذين ما زالوا يشككون بشدة في النفوذ الصيني في المنطقة.
ويبدو أنه إشارة من المجلة الأمريكية إلى أنه إذا مضت السعودية قدماً في التعاون مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، وخاصة شركة هواوي رغم التحذيرات الأمريكية، فإن واشنطن قد تفكر في التخلي عن دورها في حماية المملكة وبذلك تكسب الرياض الذكاء الاصطناعي وتخسر الحماية الأمريكية، بينما لا يتوقع أن تقدم الصين حماية بديلة.