"ماذا سنتعلم هذا الشهر"، سؤال لا يمكن أن يطرحه أي طالب في المدرسة، فهو مجبر على تعلم المنهج المحدد من الوزارة، ولكن اليوم هناك طلاب مصريون من حقهم أن يسألوا هذا السؤال، فعبر نظام التعليم المنزلي في مصر أصبح المنهج يتلاءم مع الطالب وليس العكس.
مشاكل التعليم في مصر أكثر من أن تُحصى، ورغم ارتفاع التكلفة (المصروفات) المدرسية، فجودة المنتج قد لا تُذكر، لدرجة أنك قد تجد أطفالاً أنهوا العملية التعليمية لكنهم لا يجيدون القراءة والكتابة. البعض حاول البحث عن طريقة جديدة لأبنائه؛ حتى يجنِّبهم مسيرة طويلة مرهقة في الغالب لن تتناسب معهم، ولن تُنمي داخلهم ما يحبونه.
مع بداية العام الدراسي يصبح روتيناً يومياً أن تستيقظ الأمهات مبكراً لإعداد الوجبات لأطفالهن، لتعينهم على قضاء يومهم، الذي يستمر لأكثر من 10 ساعات متتالية، وربما أكثر، تُقضى ما بين الدراسة وساعات الذهاب والعودة، ثم العودة للمنزل لتناول الغداء والمذاكرة وكتابة الواجب المنزلي.
من هنا قرَّرت أن ألجأ إلى التعليم المنزلي
هذا الروتين الممل قد لا تتحمله الأمهات، ما بالك بالأطفال، هذا السيناريو اليومي هو ما اعتبرته منة سعد جريمةً في حقِّ أبنائها، وانتهاكاً لحريتهم وراحتهم الجسدية والنفسية، وهو ما جعلها تُقرر تعليمهم منزلياً، فكما تصنع لهم فطائر البيتزا التي يعشقونها، فهي قادرة على السير وراء شغفهم لتعلم العلوم التي يحبونها.
منة تعمل صيدلانية، قرأت قبل ذلك كثيراً عن التعليم المنزلي، وكيف يمكن أن يُسهم في بناء عقلية الطفل، بعيداً عن التلقين والحفظ الذي يعتمد عليه نظام التعليم المصري، على حد تعبيرها.
"حتى المدرسون غير مؤهلين لفهم عقلية الطفل، وإن كانوا يتلقون دورات تدريبية، إلا أنها لا يتم تطبيقها على أرض الواقع، فعندما يعودون للمدرسة تعود معهم العقلية القديمة نفسها، القائمة على الحفظ والتلقين للحصول على أعلى الدرجات وفقط"، تقول لعربي بوست.
الدافع زيادة تكاليف التعليم الرسمي وانخفاض جودته
بخلاف منة، تحدّث عربي بوست مع عدد كبير من الأمهات المنفذات للفكرة بالفعل، وأخريات ما زلن في طور البحث وأخذ القرار على عدد من المجموعات الخاصة بالتعليم المنزلي، جميعهن أجمعن أن اتجاههن لهذا النوع من التعليم يأتي بسبب ارتفاع مصروفات التعليم غير الحكومي، الذي يتخطَّى مئات الآلاف من الجنيهات، ولا يحترم حقّ الطالب في الاكتشاف والمعرفة وتعلم اللغات والعلوم الجديدة.
أما التعليم الحكومي (المجاني أو شبه المجاني)، الذي يعاني أمراضاً كثيرة، ورغم سعي الوزارة لتعديل المناهج إلا أنه يُدار بنفس العقلية التي لا تحترم الفروق الفردية بين الطلاب، إضافة لعيوب أخرى، أهمها عدم ملاءمة خرِّيجيه للمنافسة مستقبلاً في سوق العمل، ما قد يُجبر الأهالي أصحاب الوعي على إعطاء أبنائهم دورات تعليمية مُكلفة، وهو ما يجعلهم يتجهون للتعليم المنزلي كبديل للحكومي أيضاً.
الأم المسؤول الأول.. وهي مَن تحدد المنهج
يكفل الدستور المصري في مادته الـ19 حقَّ المواطن في التعليم، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، لكن منة لم تجد أن التعليم -وإن كان خاصاً- قد يُلبي رغبات أبنائها، الذين يعودون منهكين وغير قادرين حتى على كتابة واجباتهم، ما جعلها تقدم على أخذ القرار بعدم ذهابهم للمدرسة مرة أخرى.
يعتمد التعليم المنزلي أساساً على الأم، أو من تفوّضه لمساعدتها في تحقيق الأهداف التعليمية التي وضعتها لأبنائها، وفي الغالب يكونون من دائرة الأصدقاء المقربين، أو مَن تراه مناسباً، وبمساعدة الأب أيضاً.

تقول: "شهرياً نُحدد ما يمكن دراسته من علوم، كالجيولوجيا مثلاً أو الأحياء وغيرهما، إضافة لرحلات يتم تنظيمها لزيارة المتاحف أو المعالم الأثرية، وإعطاء معلومات كافية لكل مَعلم نزوره"، تضيف منة لعربي بوست.
ومع مجموعات من الأمهات اللائي يُنفذن الفكرة يتم وضع جدول شهري للأماكن المخطط زيارتها، ويمكن أن تتولى إحدى الأمهات أمر رحلة ما، فيما تتولى أخرى التنسيق للقيام بتجربة علمية في اليوم التالي، وهو ما يُخفف بعض العبء عليهن.
في الغالب تُقرر بعضُ الأمهات دراسة مناهج التربية الإيجابية والمنتسوري (منهج تعليمي يراعي خصوصية كل طفل)، لمواكبة عقلية الطفل ومعرفة طريقة التعامل معه، وهو ما فعلته منة، وهو أيضاً ما أهّلها لتعمل "ميسرا" للتعليم المنزلي، وهو مصطلح يعني قدرتها على مساعدة أخريات في تيسير العملية التعليمية لأبنائهن، وصياغة الكيفية التي يمكن بها اختيار المناهج لهم.
قرار صعب.. ولكن اليوتيوب خير معين
قرار تعليم الأبناء منزلياً ربما يستغرق تفكيراً كبيراً، لكن يمكن اتخاذه في أي مرحلة قد ترى الأم أنه حان التنفيذ فيها، فلا يفرق أن يتم قبل دخول الطفل المدرسة أو بعدها.
وهو ما قالته لنا رؤى أحمد، التي قرَّرت أن تبدأ تعليم ابنتها منزلياً في الصفِّ الخامس الابتدائي، بعد أن بدأ مستوى ابنتها يتراجع تعليمياً، إضافة إلى الدروس الخصوصية المرتفعة التكاليف، والتي تصبّ في الأساس في مصلحة المدرس دون الطالب.
"ممكن المدرس يقنعني إن مستواها كويس حفاظاً على رزقه وبس"، تقول رؤى لعربي بوست.
ولكن هاهي الدروس الخصوصية تخترق النظام الجديد
كان قرار رؤى الاستغناء عن المدرسة نهائياً بالنسبة لابنتها قراراً مصيرياً، لم تتخيل أنها تستطيع اتخاذه.
وبدأت تدرّس لها المنهج بنفسها، عن طريق الاستعانة بالـ "يوتيوب" في الشرح، وحتى المرحلة الإعدادية.
تضيف: "بعد المرحلة الإعدادية كنت مضطرة لإعطائها مجموعات تقوية خاصة في العربي والدراسات الاجتماعية، لكن المواد الأخرى كنت مسؤولة عنها".
سألناها، لكن هذا قد يتنافى مع فكرة التعليم المنزلي؟
"مش كل الأوقات الأم تكون لديها القدرة على تدريس كل المواد، لذا يمكن الاستعانة بأصحاب الخبرة".
الفرق بين التعليم المنزلي والهوم اسكولنج
ما قالته رؤى عن الاستعانة بأصحاب الخبرة قد يختلف مع التعريف الدقيق للتعليم المنزلي، القائم في الأساس على اعتبار "الأم" العنصر الأساسي في تعليم طفلها جميع الأنشطة والمهارات، إضافة إلى تعليم العلوم المختلفة، وهو ما قاله لنا عبدالرحمن المكي، مدرس اللغة العربية، وأحد الميسّرين للتعليم المنزلي.
وقال المكي، الذي يحاول نشر ثقافة التعليم المنزلي في مصر، في حديثه معنا، إن نظام التعليم المنزلي قد خرج عن معناه الأصلي، بسبب لجوء بعض الأمهات إلى "الهوم اسكولنج"، وهي بعض المراكز التعليمية التي اتخذت من انتشار فكرة التعليم المنزلي وسيلة للربح، فهي تقوم بالدور المنوط بالأم القيام به، وتصبح الأم مجرد "موصّلاتي" للأبناء لتلك المراكز المرتفعة التكاليف أيضاً.
ماذا تعرف عن الميسر، وكيف يمكن تجنّب الانطوائية؟
دور المُيسر في الأساس هو توجيه الأمهات لاختيار المنهج لأبنائهن، ومساعدة الابن لتوصيل فكرته، وليس تولي العملية التعليمية برمتها، وهو ما يحدث فعلياً، على حد توصيفه لحالة التعليم المنزلي.
ويشدد المكي على أهمية التعليم المنزلي في مراعاة الفروق الفردية للأطفال، ومراعاة النشأة النفسية الصحية لهم، وعدم ارتباطه بالتعلم في مكان واحد، إلا أنه في نفس الوقت يعيب عليه الحرية المفرطة وجدال الأطفال الذي يصل لمستوى العته، على حدِّ تعبيره.
وينفي المكي في الوقت ذاته عن التعليم المنزلي فكرة اقتياد الطفل لعوالم الانطوائية والانعزال، بسبب عدم الاحتكاك بكثير من الأطفال في مجتمع المدرسة، إذ يرى أن ذلك غير صحيح، إذ إن الأطفال في الغالب قد لا يتعاملون سوى مع 3 أو 4 أطفال من سنهم، أما الباقون فلا احتكاك مباشراً بهم، وهو ما يوفره التعليم المنزلي أيضاً، عن طريق الدوائر التعليمية والرحلات المشتركة مع نظرائهم ممن يخضعون لنفس التجربة.
بدائل تعليمية أم ربح سريع.. أكاديميات منافسة للمدارس
بدائل التعليم الرسمي في مصر آخذة في الانتشار، رغم عدم توافر معلومات رسمية عن عدد الأطفال الخاضعين لتجربة التعليم المنزلي، خاصة مع انتشار التكنولوجيا الحديثة التي سمحت بالتواصل السريع بين الأشخاص وبناء شخصيات أكثر ثراء، خاصة لهؤلاء المهتمين بهذا النوع من التعليم، وهو ما جعل البعض يؤسِّس مشروعه الخاص "للهوم اسكولينج" أو الـ "un school"، ومعظم من يعمل على ذلك سيدات.
تقول رناد سعد، مديرة إحدى الأكاديميات الخاصة للتعليم المنزلي في أسيوط بصعيد مصر، إن "تجربتها مع التعليم النظامي المصري كانت سيئة، فهو يقتل الحقّ في الابتكار والتفكير، في مقابل اعتماده على الحفظ، لينسى الطفل المعلومة بمجرد انتهاء الامتحان"، وأشارت إلى أنها تسعى إلى تدريس اللغة العربية بشكل مبتكر ومبسط.

أكاديميمات الهوم اسكولينج" أو الـ "un schoo" تنافس التعليم الحكومي أيضاً/رويترز
أكاديمية رناد متخصصة في تعليم اللغة العربية فقط، إذ تعتبرها أساس تعليم الطفل، خاصة في سنواته التعليمية الأولى، بداية من 3 سنوات.
وتعتبر رناد أن التعليم الموازي أو المنزلي لا بد أن يقدم بطريقة محترفة تعتمد أولاً على فهم المعلومة، والاعتماد على حواس الطفل، وهو ما يجب أن تقوم به الأم أو من تعتبرهم كفؤاً لمساعدتها في ذلك.
وتضيف رناد أن وجود طفل آخر أو عمل الأم وعدم قدرتها على جدولة جميع الأنشطة لطفلها المتعلم منزلياً قد يجعلها تستعين بالمراكز المتخصصة الموثوقة لتقديم هذا النوع من التعليم، والتي تقل تكاليفها عن التعليم الخاص، الذي يدفع به الأهالي عشرات الآلاف من الجنيهات، مقابل ما اعتبرته مبالغ ضئيلة في الأكاديميات الخاصة، التي تقدم خدمة ممتازة.
وتنفي سلمى علي، مديرة أحد مراكز "un school"، عن تلك المراكز فكرة التربح، فمثلاً تبلغ تكلفة الشهر الواحد في مركزها حوالي 1500 جنيه (90 دولاراً)، وهو مبلغ زهيد مقابل ما يتم تقديمه من خدمات تعليمية مبتكرة للأطفال، حسب قولها.
السؤال الأهم: ما هي كيفية الحصول على شهادات تعليمية
لا تعترف مصر بالتعليم المنزلي، ويجب أن يتم تسجيل الأطفال في المدرسة، والخيار الوحيد المتاح لهم في التعليم المنزلي هو التسجيل في مدرسة تسمح لهم بالتسجيل دون حضور، فهم بحاجة فقط للذهاب للامتحانات في هذه المدرسة للتأهل للعام التالي.
معظم مَن تحدَّثنا معهم من الأمهات يقُمن بتسجيل أبنائهن في مدارس خاصة، ولا يحضرن سوى الامتحانات، فيما يحصلون بشكل ودي على أعمال السنة لضمان النجاح الذي تريده الأم، وبالنسبة للمدارس الحكومية يتم دفع رشاوى للقائمين على العملية التعليمية على هيئة تبرعات للمدرسة، مقابل تسجيل الطالب "حاضراً"، وتختلف قيمة تلك الرشاوى بحسب المنطقة السكنية.
فتسجيل طالب دون حضور قد يكون أغلى في التجمع الخامس (منطقة راقية) عنه في عزبة النخل (منطقة شعبية) مثلاً، حسبما أكد لنا عبدالرحمن المكي من واقع احتكاكه مع أمهات التعليم المنزلي، "كله بالحب" بحسب تعبيره.