منذ عام مضى، دخل الكاتب السعودي البارز جمال خاشقجي قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، لإتمام أعمال ورقية حتى يتمكن من الزواج بخطيبته التركية، التي وقفت تنتظره خارج المبنى. لكنه لم يشاهَد مرة أخرى.
وكان خاشقجي، البالغ من العمر وقتها 59 عاماً، أحد منتقدي النظام السعودي وعاش في منفىً فرضه على نفسه بالولايات المتحدة. وقُتِل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول بالثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، على يد فريق أُرسِل من السعودية إلى تركيا، من بينهم مقربون من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للبلاد البالغ من العمر وقتها 32 عاماً.
ونفى السعوديون (وولي العهد نفسه) مراراً، أن يكون لابن سلمان أي دور مباشر في مقتل خاشقجي، وأرجعوا مقتله إلى عملية مارقة نفذها أتباع مندفعون. وأُدين 11 فرداً من هذه الفرقة، 5 منهم يواجهون عقوبة الموت؛ لكن نظراً إلى طبيعة نظام القضاء السعودي الغامضة، لم يخرج إلى النور من تفاصيل هذه القضية العالقة غير القليل، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، خلصت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) بـ "ثقة عالية"، إلى أنَّ محمد بن سلمان هو مَن أصدر الأمر بقتل خاشقجي، وفقاً لما ذكرته صحيفة The Washington Post الأمريكية.
كوارث ولي العهد
وجذبت واقعة مقتل خاشقجي انتباهاً شديداً إلى مخاوف من حُكم الأمير الشاب الذي ظل يتغلغل على مدى سنوات. إذ خاض ولي العهد السعودي حروباً على عدة جبهات؛ ففي اليمن أسفرت الحرب التي شنَّها عن كارثة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ على سطح الأرض. إضافة إلى أنه فرض حصاراً على دولة قطر الحليف المقرب من واشنطن، ومقر أهم قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط. أما على الصعيد المحلي، فسَجَنَ محمد بن سلمان مجموعة من الشيوخ والمعارضين ورجال الأعمال.
وفي بداية الأمر، بدا كأنَّ ترامب سينأى بنفسه بعيداً عن محمد بن سلمان. فعقب أقل من أسبوعين من مقتل خاشقجي، توعَّد ترامب، في حديث مع برنامج "60 دقيقة" على شبكة CBS الأمريكية، بإلحاق "عقاب شديد" بالسعوديين إذا ثبت ضلوعهم في مقتل خاشقجي. فرغم كل شيء، كان خاشقجي يحمل إقامة شرعية بالولايات المتحدة وصحفياً يكتب بانتظام في كبرى المؤسسات الإعلامية الأمريكية.
ترامب يتراجع
وعقب ذلك بشهر، تراجع ترامب عن موقفه، مُعلِناً تمرير صفقة أسلحة أمريكية ضخمة إلى السعوديين. وقال ترامب للصحفيين: "بالنسبة لي، أمريكا أولاً. الأمر كله يتعلق بـ(أمريكا أولاً). نحن لن نتخلى عن طلبيات شراء بقيمة مئات المليارات من الدولارات، ونسمح لروسيا والصين والآخرين بالحصول عليها… معدات عسكرية وأشياء أخرى من روسيا والصين. أنا لن أدمر اقتصاد دولتنا بالتصرف بحماقة مع السعودية".
وحتى مقتل خاشقجي، كان من الممكن التركيز على إيجابيات محمد بن سلمان، والدفع بأنه يستحدث إصلاحات اجتماعية واقتصادية حقيقية في السعودية، بعد أن قصّ أجنحة الشرطة الدينية، ومنح السيدات حريات أوسع؛ مثل: الحق في القيادة وأدوار أكبر بأماكن العمل.
إلى جانب ذلك، شجَّع ولي العهد السعودي إقامة الحفلات ودُور السينما في مجتمع ظل يحظُر الاثنين فترةً طويلةً، وبدأ كذلك في إنهاء الفصل المُشدَّد بين الجنسين؛ وذلك مثلاً من خلال السماح للسيدات بحضور الفعاليات الرياضية، بحسب الشبكة الأمريكية.
وتعهد كذلك بتقديم اتفاقية سلام للفلسطينيين، في حين كان بالوقت نفسه يتخلص من الوهابية التي غذت كثيراً من مدبري هجمات 11 سبتمبر/أيلول. وعلى مدى سنوات عديدة، سعت واشنطن إلى تبيُّن ما إذا كانت السعودية طرفاً مُنفِّذاً أم حائط صدٍّ فيما يتعلق بنشر الإسلام المتشدد. وقد بدا أنَّ محمد بن سلمان حائط صدٍّ.
ووضع ولي العهد السعودي، أيضاً خطة مقبولة بعض الشيء لتنويع الاقتصاد السعودي الذي يعتمد بقوة على النفط، والمعروفة باسم "رؤية 2030"، والتي من المفترض أن يمولها بيع جزء من عملاق النفط "أرامكو"، التي تعد أثمن شركة في العالم، بقيمة سوقية يأمل السعوديون أن تبلغ تريليوني دولار.
أضف إلى ذلك، زار ولي العهد السعودي، في مارس/آذار 2018، هوليوود ووادي السليكون، حيث تخلى عن زيّه العربي في مقابل ارتداء حُلّة، وحيث احتفى به نجوم السينما وكبار صناعة التكنولوجيا الأمريكية باعتباره مُصلِحاً.
الأمر أصبح سراباً
وبحسب الشبكة الأمريكية، فإنه عقب مقتل خاشقجي، تلاشت نظرة الغرب الإيجابية إلى محمد بن سلمان بصورة كبيرة، وأخذ يكتسب سمعة بأنه مستبدٌّ طائش. ففي عام 2015، أعطى الإشارة بشن الحرب الكارثية التي لا تزال مستمرة حتى الآن في بلد الجوار اليمن، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف. واختطف فعلياً رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الذي يحمل جنسية مزدوجة لبنانية-سعودية، حين كان في رحلة إلى المملكة. إضافة إلى ذلك، تزعَّم محمد بن سلمان حصار جارة المملكة الغنية بالنفط، قطر، والذي لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
وإلى جانب حملة الاعتقالات التي استهدفت كبار الشيوخ والمعارضين، وفي خروجٍ على ترتيب الجلوس على العرش في المملكة، تُوِّج محمد بن سلمان ولياً للعهد، مزيحاً ابن عمومته محمد بن نايف في 2017. وفي حادثة شهيرة أيضاً، احتجز ولي العهد 200 ثري سعودي في فندق ريتز كارلتون بالرياض، ولم يُخلِ سبيلهم إلا مقابل 100 مليار دولار، على خلفية اتهامات مزعومة بالفساد.
ويواجه محمد بن سلمان اليوم ما قد يكون أصعب تحدٍّ يواجهه في السياسة الخارجية حتى الآن: ما يجب فعله حيال هجمات الطائرات من دون طيار والصواريخ التي استهدفت في وقت سابق من هذا الشهر، دُرَّة تاج الاقتصاد السعودي، منشأة بقيق النفطية التابعة لـ "أرامكو". ووجَّه ولي العهد وإدارة ترامب اتهامات منطقية إلى إيران بأنَّها تقف وراء هذه الهجمات. لكن من جانبهم، نفى الإيرانيون تورطهم في هذه الهجمات.
وتُمثِّل هذه الهجمات إشكالية دقيقة لولي العهد، لكونه يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع في المملكة ويُشرِف، بناءً على ذلك، على ترسانة أسلحة ضخمة، ومع ذلك عجز عن الدفاع عن المملكة ضد وابل من الصواريخ والطائرات من دون طيار والتي سببت انخفاض طاقة إنتاج المملكة من النفط إلى النصف، على الأقل مؤقتاً.
وتضع هذه الهجمات الإيرانية كذلك الرئيس ترامب في مأزق، لأنه لا يرغب في أن تتورط الولايات المتحدة بحرب أخرى في الشرق الأوسط، حتى وإن كان يعتبر ولي العهد السعودي حليفاً مقرباً.
والأحد 29 سبتمبر/أيلول، أذاعت قناة CBS حديثاً لولي العهد السعودي مع برنامج "60 دقيقة"، أعرب فيه عن أمله بأن تتمكن السعودية من التوصل إلى "حل سلمي وسياسي مع إيران".
ولا يسع المرء إلا أن يأمل ألا يشن محمد بن سلمان وترامب حرباً على إيران، التي تمتلك جيشاً ضخماً، وقوى بارزة تعمل لمصلحتها بالوكالة في أرجاء الشرق الأوسط، وأنظمة صواريخ باليستية متطورة. ومع ذلك، يصعُب تصوُّر ألا يصدر عن الإيرانيين أي رد فعل، خاصة أنهم أظهروا أنه أصبح بإمكانهم الآن استهداف نقطة أساسية في أسواق الطاقة العالمية ومع ذلك الإفلات دون عقاب.
وربما استطاع محمد بن سلمان إدارة عملية قتل الصحفي المعارض خاشقجي بسهولة نسبية، لكن ليس في جعبة سياساته الخارجية ما يوحي بأنه سيتعامل ببراعة مع الإيرانيين.