بعد أكثر من أربع سنوات من مغامرة ولي عهد السعودية في اليمن، وصلت الأمور لمرحلة مقلقة وأصبحت الأوضاع الإنسانية الكارثية هناك وتعالت المطالبات الإقليمية والدولية بوضح نهاية لتلك المأساة، فما الذي يمكن أن تفعله الرياض كي تنتهي الحرب في اليمن؟
موقع لوب لوغ الأمريكي تناول القصة في تقرير بعنوان: "إنهاء الحرب في اليمن يتطلَّب من السعودية تنحية الغطرسة جانباً وإحياء الرعاية القبلية"، كتبه نيكولاس دونيس مستشار مستقل لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي في شؤون الاقتصاد والتنمية وخبير في شؤون المنطقة.
خطورة تحوُّلها لحريق إقليمي
نشر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن، مارتن غريفيث، مؤخراً مقالاً في صحيفة The New York Times الأمريكية، يدعو فيه مُحِقاً لإنهاء حرب اليمن قبل أن تمتد لتصبح حريقاً إقليمياً أوسع. مع ذلك، فإنَّ الإرشادات التي يقدمها طموحة للغاية؛ إذ يطرح نصائح تكاد تكون غير عملية بشأن ما يتعين فعله بالضبط. ويتعين على السعودية إعادة العارفين بالشأن اليمني وإعادة تأسيس نفوذها لدى القبائل في شمال اليمن. لكن قبل أن تفعل ذلك، سيتعين عليها أولاً الإقرار بفشل تدخُّلها الكارثي، وهو اعترافٌ صعب في وقتٍ ينفخ فيه النظام السعودي في مشاعر القومية.
حين قرر محمد بن سلمان –الذي كان آنذاك وزيراً للدفاع يبلغ من العمر 31 عاماً- التدخُّل في اليمن، كان يتوقع أن تتم السيطرة على صنعاء في غضون أشهر، ففي نهاية المطاف، السعودية ضمن الدول الخمس الكبار في العالم من حيث الإنفاق العسكري، والعتاد العسكري الرائع لا يمكن أن يعني إلا براعة عسكرية كبيرة. أو هكذا كان الاعتقاد. فمزيج الافتقار إلى التخطيط، ونقص الخبرة القتالية، والتردد في التضحية بالدماء السعودية بهدف تقليص الأصوات المعارضة للحرب، كل هذا كان يعني استدعاء قوات أجنبية لتقديم الدعم. لكن حتى بمساعدة الإماراتيين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين والسودانيين والأردنيين والمغربيين وغيرهم الكثير مما لا يُحصى، ظل الحوثيون راسخون في شمال اليمن.
أعقب ذلك حملة جوية وحشية وحصاراً اقتصادياً، الأمر الذي أدى إلى فقدان الحيوات والبنية التحتية، ما دفع الأمم المتحدة لإطلاق دعوات لوقف الأعمال العدائية والعودة إلى طاولة المفاوضات. لكن في وقتٍ كانت فيه السعودية تدفع بالأجندة القومية وتسعى لإظهار قوتها العسكرية، كان سيُنظَر إلى الدبلوماسية باعتبارها إشارة على الضعف، وجرى تجاهل تلك الدعوات.
استمرار الغطرسة يفاقم الكارثة
في مارس/آذار 2018، حين شن الحوثيون عدة هجمات صاروخية متزامنة على السعودية، كنتُ أنصح الحكومة بإقامة وحدة للمخاطر الوطنية والاستجابة السريعة في المملكة. كانت مهمة الوحدة هي تحديد وتقييم وكبح مجموعة واسعة من المخاطر، الحالية والمستقبلية، بما في ذلك المخاطر الطبيعية والحوادث البشرية والأعمال الخبيثة. وكي نعطيها حقها، كانت الوزارة التي تولت قيادة هذه المبادرة نيابةً عن الديوان الملكي مُتقبِّلة جداً للمقترحات التي تُطرَح واعترفت بضرورة تفعيل هذه الوحدة في أسرع وقتٍ ممكن. ونتيجة لذلك، وبدعم من بعض موظفي الخدمة المدنية المتألقين والجادين ومباركة المكتب الوزاري، بدأنا انخراطنا مع المسؤولين عن التعامل مع المخاطر الوطنية التي حددناها.
لكن في الوقت الذي بدأت فيه صواريخ الحوثيين في القدوم بصورة أكثر انتظاماً، لم تشعر السلطات بقلق مفرط منها، نظراً للفعالية الواضحة لمنظومات الدفاع الجوي لدى المملكة في اعتراضها قبل إصابة أهدافها. ولم تكن أذيال الدخان التي تتركها صواريخ الحوثيين في سماء الرياض تروِّع أي أحد، وكان السكان يهللون أثناء تصوير عمليات الاعتراض قبل أن ينشروا اللقطات على مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل، بدا أنَّ مبعث القلق الآني هو تفشي إنفلونزا الطيور التي كانت تنتشر في أرجاء البلاد، مُتسبِّبةً في الإعدام الجماعي للدواجن والطيور، وهو مبعث قلق مُبرَّر بالنظر إلى تداعيات ذلك على أسعار الغذاء والمخاطر الاجتماعية المحتملة التي قد يُشكِّلها.
مع ذلك، رُفِضَت المقترحات الشخصية الداعية للنظر إلى التهديد الصاروخي بصورة أكثر جدية. واقترحتُ بسذاجة، من خلال العلاقات الأكاديمية في أوروبا، احتمالية إطلاق حوار غير مباشر مع القيادة الحوثية، وذلك في ظل افتراضي بأنَّ قنوات الاتصال الخلفية لم تكن قائمة بالفعل. لم يجرِ فقط تجاهل مقترحي، بل وأدَّى كذلك إلى التشكيك في دوافعي ومصالحي، كما لو أنَّ محاولة إيجاد حل لخطرٍ وطني عبر الحوار شيءٌ مُبغَض، نظراً للثقة بأنَّ القوة العسكرية وحدها ستكون كافية لسحق جيشٍ من المتمردين الهمج الذين يقاتلون ببنادق AK47 (كلاشينكوف). في الأشهر التالية، استمرت الصواريخ في اختراق المجال الجوي السعودي، وأتبع ذلك لاحقاً الطائرات القاتلة بدون طيار التي عاثت فساداً في مناطق جيزان ونجران وأبها قرب الحدود اليمنية، ثُمَّ بدأت بالوصول إلى منشآت النفط الأبعد شمالاً، التي ربما كان آخرها محطة معالجة بقيق في وقتٍ سابق من هذا الشهر سبتمبر/أيلول.
ترامب لن يفعل المزيد
لم تعد السعودية قادرة على تحمل استمرار هذا التصعيد. وعلى الرغم من كل الدعم الكلامي من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فمن المستبعد أن يخاطر بإشعال النار في المنطقة، ولا يسع السعودية تحمل الرد على إيران إذا ما تبيَّن أنَّ الهجمات مصدرها الأراضي الإيرانية. وفي ظل تجرؤ إيران والحوثيين نتيجة نجاحاتهم، لن يزداد الوضع إلا سوءاً. وللخروج من هذه الدوامة، ينبغي أن ينصبَّ تركيز السعودية على الانخراط مباشرةً مع الحوثيين وإعادة تأسيس نفوذ المملكة في شمال اليمن، وهو نفوذ كانت تتمتع به ثُمَّ فقدته تدريجياً عقب توقيع معاهدة جدة عام 2000، والتي تُرسِّم الحدود بين البلدين.
يعود التدخل السعودي في اليمن إلى الثورة اليمنية عام 1962، حين دعمت الإماميين بقيادة الإمام الزيدي ضد قوات الجمهوريين المدعومة من مصر. ومثلما نقلت بعض التقارير عن العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز في 2007، فإنَّ أمن اليمن "لا ينفصل" عن أمن السعودية، وهو ما برَّر بصورة غير مباشرة ما قد يعتبر آخرون أنَّه يرقى إلى تدخل أجنبي.
دعمت السعودية قيادات قبلية وأكاديميين وضباطاً بالجيش وسياسيين برواتب شهرية سخية، ما سمح لها بضمان مصالحها الأمنية. وأفادت تقارير بأنَّ الشيخ عبد الله الأحمر، شيخ اتحاد قبائل حاشد اليمنية (وهو من أقوى وأكبر الاتحادات القبلية شمالي اليمن) ورئيس البرلمان اليمني منذ عام 1993 وحتى وفاته عام 2007، كان يتلقى مليارات الريالات شهرياً مباشرةً من خزائن السعودية. وفي الرياض، كانت هناك "لجنة خاصة" مُكرَّسة لمتابعة وتوجيه التطورات السياسية في البلاد، فيما ضمنت كذلك إبعاد التدخلات الأجنبية الأخرى، لاسيما المصرية والإيرانية.
التخلي عن دعم القبائل
ومع اقتراب العقد الأول من الألفية الثالثة من نهايته، أدَّى حدثان لافتان إلى فقدان السعودية قبضتها على شمال اليمن. ففي 2005، أصاب المرض الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي ترأس اللجنة الخاصة لأكثر من عقد من الزمن، وتدهورت صحته العقلية واحتاج لتلقي العلاج في الولايات المتحدة. ففقد تركيزه على اليمن، وبدأت تمويلات القبائل تجف. ازدادت حدة هذا الأمر في 2007 حين توفي الشيخ عبد الله الأحمر تاركاً ورائه العشرات من أبنائه الذين قوَّضت مشاحناتهم السياسية تماسك الاتحاد القبلي، الأمر الذي زاد صعوبة تأمين مصالح السعودية. وحين توفي الأمير سلطان عام 2011، ظلت اللجنة الخاصة قائمةً بالاسم فقط، وكانت التغييرات الزلزالية في طريقها للحدوث في اليمن، وستقود في نهاية المطاف إلى استيلاء الحوثيين على العاصمة ومساحات شاسعة من البلاد.
وعلى الرغم من الفقدان الكبير للذاكرة المؤسسية السعودية في الشؤون اليمنية وحرب الإخوة التي مزَّقت النسيج القبلي والاجتماعي اليمني، توجد حاجة ماسة كي تعيد السعودية فرض نفوذها. وفي حين أنَّه من المفهوم أنَّ شقيق محمد بن سلمان، الأمير خالد بن سلمان، هو المسؤول الآن عن ملف اليمن، فمن المُلِحّ إعادة الخبراء السعوديين البارزين الذين اضطلعوا بدورٍ نشط في اللجنة الخاصة. وينطبق هذا بشكل خاص على د. مساعد العيبان، الذي اكتسب خبرة لا مثيل لها في الشؤون القبلية بفضل اشتراكه في ترسيم الحدود السعودية اليمنية عام 2000. وينبغي إشراك الخبراء أمثال د. العيبان في مساعٍ دبلوماسية موازية لمساعي الأمم المتحدة، تنخرط فيها السعودية مباشرةً مع الحوثيين واضعةً نصب عينيها إقامة وقف إطلاق نار كامل، أو على الأقل جزئي.
تقبُّل وجود الحوثيين
ولكي ينجح هذا، سيكون من الضروري للسعودية ضمان مكان للحوثيين في حكومة اليمن المستقبلية والالتزام بإعادة إعمار البنية التحتية المدنية التي دُمِّرت. وستحتاج السعودية كذلك لتقديم ضمانات بأنَّها لن تدعم تأسيس مدارس سلفية في معقل المذهب الزيدي شمالي اليمن، وفي المقابل سيتعين على الحوثيين الالتزام بوقف هجماتهم العابرة للحدود، والأهم أن ينهوا علاقتهم مع إيران وأتباعها. ومن خلال تفضيل الدبلوماسية على المواجهات، سيكون لدى السعودية الفرصة لإثبات أنَّها فاعل ناضج في الساحة العالمية وفي الوقت نفسه تقويض حجج منتقديها. وفي حال ظل الكبرياء يمنع حدوث هذا، سيكون من المهم إذاً تذكُّر كلمات رئيس الوزراء الهندي الأسبق أتال فاجبايي: الدبلوماسية الهادئة فعالة أكثر بكثير من الاستعراض العلني.