تحولات دراماتيكية يشهدها الجيش الإلكتروني السعودي أو الذباب الإلكتروني، كما يسميه المعارضون، سببها تغييرات بالسياسة السعودية يقودها الملك سلمان بنفسه، حسبما ذكرت مصادر مطلعة، كشفت لـ "عربي بوست" أيضاً سر اختفاء سعود القحطاني، الذي توجه له أصابع الاتهام في قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي.
وقف حساب تويتر الخاص بالقحطاني الذي كان مقرباً لولي العهد محمد بن سلمان ومستشاره الرسمي، والتغييرات الكبيرة في المناصب القيادية في الجيش الإلكتروني السعودي يأتيان في إطار تغييرات في السياسة السعودية، ترمي إلى محاولة تحسين صورة المملكة، التي تضررت كثيراً جراء سياسات الأمير محمد الهجومية التي أضرت بالرياض كثيراً.
مَن جاء بعد رحيل سعود القحطاني عن الجيش الإلكتروني السعودي؟
التغييرات طالت بالأساس الجيش الإلكتروني في السعودية، الذي يسميه المعارضون "الذباب الإلكتروني"، وهو الجيش الذي يستند إلى "الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز"، والمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف "اعتدال".
والمركز والاتحاد يعدان واجهتين أساسيتين للسعودية في الدفاع عن سياساتها وتوجهاتها في المنطقة، والسعي للترويج لها عبر جيش إلكتروني كبير يقدّر عدده بمئات الأشخاص.
ويتهم معارضون سعوديون ومحللون غربيون هذا الجيش بمحاولة تضليل الرأي العام في كثير من الأحيان، ومحاولة حرفه عن الحقيقة وتبديله، وفق هوى الديوان الملكي السعودي، وبشكل أكثر تحديداً تطويعه وفق المزاج الشخصي لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وكان فيسبوك أعلن الشهر الماضي تفكيك 350 حساباً مرتبطاً بالحكومة السعودية ومصر والإمارات، وتبين أنها ضمن شبكتين إحداهما مصرية إماراتية مشتركة والثانية سعودية.
ولفت الموقع إلى أن هذا الهجوم جاء بعدما طلبت السلطات السعودية من السفير الكندي مغادرة الأراضي السعودية في غضون 24 ساعة.
وقبل ذلك بنحو عام وصل الأمر بالجيش الإلكتروني السعودي إلى شن حملة شديدة على كندا، بعدما طالبت حكومتها بالإفراج عن الناشطات السعوديات حسبما ذكر موقع "باز فيد" .
المفارقة أن هذا الجيش الإلكتروني السعودي دافع في ذلك الوقت عن حق سكان إقليم كيبيك بالاستقلال، واتهم كندا بإبادة السكان الأصليين الذين اتهمت كندا بإبادتهم.
اختفاء القحطاني (الذي يعتقد أنه كان له دور كبير في هذه الحروب) من المشهد تزامن مع تعيين فيصل بن سعود الخميسي رئيساً لمجلس إدارة "الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز"، بدءاً من 1 سبتمبر/أيلول 2019م.
وبالرجوع إلى الموقع الرسمي للاتحاد، وتحديداً في الزاوية الخاصة التعريفية بـ "مجلس الإدارة"، نجد أن قائمة المناصب تخلو تماماً من اسم سعود القحطاني من أي عضوية أو صفة رسمية داخل إطار الاتحاد، الأمر الذي يؤكد استبعاده نهائياً.
اللجوء لرجل محمد بن نايف
وتم تعيين أمين عام جديد للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف "اعتدال"، هو منصور الشمري.
اللافت أن الشمري يعد من المحسوبين على رجال ولي العهد السعودي السابق (الذي كان وزيراً للداخلية أيضاً) الأمير محمد بن نايف، وقد جاء ليحل محل الأمين العام السابق للمركز الدكتور ناصر البقمي.
ويعد الشمري شخصية أمنية من الطراز الأول، حيث كان يعمل في منصب الأستاذ المساعد في كلية الملك خالد العسكرية، التي تعنى بتخريج ضباط يعملون في قوات الحرس الوطني السعودي، إضافة إلى أنّ دائرة اهتمامه كانت في إطار تيارات "الإسلام السياسي" والجماعات "المتطرفة"، وتفكيك الفكر المتطرف عبر ما كان يعرف سابقاً في عهد الأمير محمد بن نايف بلجان المناصحة.
التغيير يبدو بمثابة إعادة حقيقية لهيكلة الجيش الإلكتروني، الذي تعتبره السعودية أحد أذرعها المهمة عبر نشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها "تويتر"، بهدف تشكيل الرأي المحلي والعربي والإقليمي ومحاولة التأثير عليه.
وتقول مصادر أمنية سعودية مطلعة لـ "عربي بوست" إنّه نظراً لأنّ الرجل لم يكن يحسب على جناح الأمير الشاب محمد بن سلمان، فقد تمّ في الأساس استقطابه من الضفة الأخرى، وتحديداً من جناح وزير الداخلية السابق محمد بن نايف، الذي كان في منصب ولي العهد قبل أن تتم إقالة بن نايف ونقل ولاية العهد لمحمد بن سلمان.
له تجربة مشهود لها دولياً
منصور الشمري كان يعمل في لجان المناصحة المحسوبة على بن نايف.
وتجربة لجان المناصحة التي يقوم بها مركز "محمد بن نايف للمناصحة والرعاية" تجربة لها آثار كبيرة ومتعددة، وحصلت على إشادات دولية وتأييد فضلاً عن المحلية.
وكانت مثل هذه البرامج تركز على مكافحة الفكر المتطرف، أو ما تصفه في كثير من الأوقات بـ "الفكر المنحرف"، وتارة أخرى بفكر "الخوارج" .
لكنّ لدى وصول الأمير محمد بن سلمان وتغير السياسات السعودية، برزت الحاجة لخلق وإبراز مؤسسات جديدة بأدوات وأهداف وآليات جديدة، تتوافق وتتأقلم مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تمثلت في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأهداف الرياض وأبوظبي السياسية التي لم تعد تركز على مواجهة الفكر المتطرف، بقدر مناصبتها العداء لدعوات الإصلاح السياسي والديمقراطية والحركات الإسلامية المعتدلة العداء، وتشويه الربيع العربي.
لماذا قرر الملك التدخل؟
بعد التصعيد الذي قام به الأمير الشاب محمد بن سلمان، في اتجاهات عدة داخلية وخارجية، تبلور جناح محسوب على محمد بن نايف داخل العائلة المالكة السعودية، حسبما قالت مصادر سعودية أمنية لـ "عربي بوست" .
وأبرز أعضاء هذا الجناح هم ثلاث شخصيات تحسب على أمراء الصف الأول من العائلة الحاكمة، ما يسمى بـ "سمو الأمراء"، وهم (محمد بن نايف، أحمد بن عبدالعزيز، متعب بن عبدالله).
ويسعى هذا الجناح الذي أُقصي عن السلطة إلى الضغط والمراقبة، وهم متأهبون للتحرك إن سنحت لهم الفرصة ضد محمد بن سلمان وجناحه الحالي، حسب المصدر.
ودفع هذا الوضع بالملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز إلى محاولة ثني نجله عن سياساته الهجومية، خاصة بعد جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، التي أثارت الرأي العام العالمي، وأحرجت الرياض في كثير من المحافل السياسية والمنافذ الإعلامية والحقوقية.
وتأتي هذه التغييرات لمعالجة الخطاب السعودي الرسمي الذي اتسم بالارتباك والتلعثم تجاه قضية خاشقجي، حيث كانت غالبية التصريحات والمنشورات التي روجها الجيش الإلكتروني تدور حول إنكار وجود دور سعودي في إنكار جريمة اغتيال خاشقجي، ثم لم يلبث أن اعترفت الحكومة السعودية بوقوعها.
محاولة لكبح تبعية السياسة السعودية للإمارات
هذه التغيرات لها علاقة بالدرجة الأولى بمحاولة الملك سلمان استعادة السلطة من ابنه الأمير محمد بن سلمان، حسبما قالت مصادر أخرى لــ "عربي بوست" .
فهدف الملك هو ثني نجله عن سياساته وقراراته، التي تصفها المصادر بالمتهورة والمتسرعة، ولذا يسعى لإعادة توجيه الديوان الملكي، وإعادة هيبة الأسرة الحاكمة، بعدما تضررت صورتها على المستوى العالمي والإقليمي والعربي والإسلامي.
وفيما يتعلق بالذباب الإلكتروني السعودي، فقد أصبحت له صورة سلبية جراء دفاعه بشكل فج، عن المواجهات الذي افتعلتها الرياض في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد صعود العاهل السعودي محمد بن سلمان.
وهذه السياسات كان يقف وراءها التقارب الكبير في العلاقات بين الأمير محمد وأبوظبي، والتي تتبع منهجية سياسية تشجع على التقارب مع الإدارة الأمريكية، والتي تتبنى بدورها توجهات اللوبي اليهودي الأمريكي بشكل غيّر سياسات المنطقة بطريقة غير مسبوقة، كما يظهر في المواقف السعودية الإماراتية تجاه صفقة القرن.
وقالت المصادر إن ولي العهد السعودي والمحيطين حوله يؤمنون بأن أبوظبي هي مفتاح رئيسي لتحقيق أهدافهم داخل السعودية، ولكن صورة السعودية باتت مهتزة وسلبية بشكل كبير، وذلك بعد وقوف الرياض وأبوظبي ضد موجة ثورات الربيع العربي، وإعلانهما الحرب على اليمن، والتسبب في سقوط آلاف في المدنيين بحسب تقارير دولية وحقوقية.
وجزء من هذه الصورة السلبية عن السعودية بات مسؤلاً عنها الجيش الإلكتروني، التي يديره الديوان الملكي السعودي عبر مركز "اعتدال"، و "الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة" .
إذ لم تؤد هذه الجهود الغرض المنشود في الدفاع عن صورة السعودية داخلياً وخارجياً، والسعي لإظهار قوتها وثقلها.
فهذا الجيش الإلكتروني لم يقدم سوى لغة الشتائم والسب ضد مناوئي السياسة السعودية ومنتقديها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة "تويتر" .
اعتدال.. من مكافحة التطرف إلى التجسس على المعارضين
مركز "اعتدال" الذي من المفترض أن يعمل على مكافحة الفكر المتطرف، بحسب ما توحي بذلك تسميته وأهدافه ومنطلقاته، تحوَّل إلى تسليط سهامه على كل من يعارض الرؤية السعودية على المستوى المحلي وعلى المستوى العربي والإقليمي، باعتباره أحد الأذرع السياسة للديوان الملكي، بل أحد الأذرع المخابراتية للديوان الملكي، في رصد وكشف وملاحقة الشخصيات والرموز التي لا تتوافق مع سياسة الرياض.
ووصل الأمر مؤخراً إلى سعي المركز إلى رصد وتحليل التغريدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتصنيف وتأطير كل شخصية سياسية أو فكرية أو اجتماعية تنتقد السعودية عند كل حدث، حيث يقوم بحفظ هذه التغريدات وتحليلها على شكل تقارير وبحوث ودراسات معمقة، تدرج الكثير من الرموز والشخصيات التي لا تتوافق مع سياسات الأمير محمد، وهذا بحد ذاته يعد مصادرة لحق أي شخص في التعبير عن رأيه.
ومن أهم المهمات التي يقوم عليها مركز "اعتدال" في عمله هو مراقبة وتدوين التغريدات المقربة من جماعات وتيارات "الإسلام السياسي"، وعلى رأسها رموز جماعة "الإخوان" في العالم العربي، والسعي إلى رصد وتحليل تغريداتهم عبر الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسهم موقع "تويتر" .
الفكر بدلاً من التخوين
جاءت هذه التغييرات بهدف تغيير الصورة السلبية للجيش الإلكتروني السعودي.
ومن هنا صدر القرار بتعيين شخصيات جديدة، واستبعاد شخصيات لم تثبت نجاحها في الترويج للسياسات السعودية، ومنها سعود القحطاني والدائرة المحيطة حوله كناصر البقمي، التي كان يغلب عليها التصعيد ضد الآخرين، والطابع الصدامي مع كل مَن يعارض الرياض، من دون تقديم خطاب مقنع ووسطي يسعى إلى إقناع الآخرين.
وبدلاً من ذلك ركز الجيش الإلكتروني على مهاجمة المخالفين والصدام معهم، وترويج مبدأ التخوين والعمالة، أو الاتهام بتنفيذ أجندات خارجية من دون تقديم أي ادعاءات تؤيد مزاعمهم تجاه خصومهم.
وبحسب مصدر خاص من داخل مركز "اعتدال"، لم يكشف عن اسمه لـ "عربي بوست"، فإنّ تصعيد وتقديم شخصيات جديدة كشخصية منصور الشمري التي يغلب عليها الطابع الفكري أكثر منه طابعاً صدامياً أو تصعيدياً، يأتي في إطار المساعي لترميم ما قام به الحرس القديم لما يسمى بـ "الذباب الإلكتروني" .
الانسحاب المشرّف.. كيف خدعت المملكة موقع توتير لإغلاق حساب القحطاني؟
على الرغم من مساعي الأمير محمد للإبقاء على سعود القحطاني في مهامه بعد صدور أمر ملكي بإقالته من منصبه كمستشارٍ إعلاميٍ برتبة وزير، في 20 أكتوبر/تشرين الأوّل من عام 2018، بسبب الشكوك في تورطه في جريمة خاشقجي، إلا أنّ هذه الجهود لم تكلل بالنجاح، بعد تزايُد الضغوط الدولية على الرياض على المستوى السياسي والإعلامي في قضية خاشقجي.
وهذه الضغوط شدَّدت على أهمية الكشف عن نتائج التحقيقات التي تجريها السعودية، بشأن الشخصيات التي تقف وراء جريمة قتل خاشقجي، مما حدا بولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى التسليم بضرورة إبعاد سعود القحطاني كاتم أسراره بشكل نهائي.
ولذا فإن عمل القحطاني حتى في "الاتحاد السعودي للأمن السيبراني"، ودوره في حملات الذباب الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي يشكل إحراجاً وسخطاً كبيراً للرياض أمام العالم، ويساعد على اقتناع العالم بما يقوله المعارضون عنها.
ولذا تقرّر إخفاء القحطاني عن المشهد، ولجأت الرياض إلى حيلة لإغلاق حسابه على تويتر، بحسب ما قالته المصادر نفسها لـ "عربي بوست" .
فحتى يحفظ ولي العهد السعودي وديوانه الملكي ماء الوجه، فقد أظهروا أنّ عملية إغلاق الحساب الشخصي لسعود القحطاني جاءت من طرف شركة "تويتر"، وذلك عبر الإيعاز للعاملين في "الجيش الإلكتروني" لتقديم مئات، بل آلاف البلاغات من الحسابات التي يديرونها إلى "تويتر"، وذلك حتى يتم إغلاق حساب القحطاني من قبل الشركة الأم.
فالرياض لم تكن تريد أن تظهر أنها أخرجت القحطاني عبر صدور أوامر إيقاف الحساب بشكل رسمي، الأمر الذي سيؤدي إلى اهتزاز صورتها، والظهور بمظهر "الخاسر المنسحب" للجيش الإلكتروني وقائده السابق سعود القحطاني.