بالأمس كانت الهند من أشرس المدافعين عن القيم الإنسانية واليوم أصبحت من الدول المطبقة للعنصرية والتمييز، في ظل قيادة رئيس وزراء يميني هندوسي، فكيف حدث هذا التحول؟ وكيف كانت علاقة نيودلهي بإسرائيل وكيف أصبحت؟
القصة تناولها تقرير نشره موقع ميدل إيست آي البريطاني تحت عنوان: "ما وصفته الهند يوماً بـ (العنصرية الصهيونية) تسعى اليوم لتكراره".
الصهيونية شكل من العنصرية
في شتاء عام 1975، أصدرت الأمم المتحدة القرار 3379، الذي ينص على أن "الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري".
واستند قرار الأمم المتحدة رقم 3379 إلى قرار اعتمدته منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حالياً) قبل ثلاثة أشهر، يقارن بين المشروعات العنصرية والاستعمارية في جنوب إفريقيا وإسرائيل.
ويذكر قرار منظمة الوحدة الإفريقية رقم 77 أن "الأنظمة العنصرية في فلسطين المحتلة وزيمبابوي وجنوب إفريقيا لها أصل إمبريالي مشترك، وتشكل البنية العنصرية نفسها المتصلة بسياسات تلك الأنظمة الرامية إلى قمع كرامة وسلامة الإنسان".
قرار تاريخي
كانت الهند واحدة من بين 72 دولة، معظمها مستعمرات سابقة، أسهمت في ظهور هذا القرار التاريخي، الذي يرى أن الصهيونية أيديولوجياً قائمةٌ بشكل أساسي على الإقصاء السياسي، وأنها مسؤولة عن فصل الفلسطينيين بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية.
وفي ذلك الوقت، كانت الهند جزءاً من حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، وأدت دوراً هائلاً في عزل جنوب إفريقيا، المعاون الوثيق لإسرائيل، وبعد ستة عشر عاماً، انتهت الحرب الباردة، وأصبح العالم مكاناً مختلفاً.
في عام 1991، وضعت إسرائيل "إلغاء وصف الصهيونية بالعنصرية" شرطاً مسبقاً لمشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام المنعقد في العام نفسه، وهو ما أجبر الأمم المتحدة على الدعوة إلى إجراء تصويت جديد. وأُلغي القرار 3379، وصوتت الهند لصالح إبطاله أيضاً.
علاقات دبلوماسية كاملة
وأعقب ذلك تأسيس علاقات دبلوماسية كاملة بين الهند وإسرائيل في عام 1992. وأدى تحرير الاقتصاد الهندي إلى تحوُّل كبير في سياستها الخارجية وإعادة تحديد أولوياتها على الساحة العالمية.
وبدأت الهند تسعى أيضاً إلى توثيق علاقاتها مع إسرائيل، بغضّ النظر عن مدى التزامها عملية السلام الفلسطينية، وظلت أنماط تصويت نيودلهي بشأن عملية السلام كما هي دون تغيُّر في الأمم المتحدة.
ولكن الهند التي كانت تنظر إلى الصهيونية، الأيديولوجيا الداعمة لكيان دولة إسرائيل، على أنها عنصرية، أصبحت مواقفها أكثر توافقاً مع المخاوف الدفاعية لإسرائيل، وتضاءل تضامنها السياسي مع الفلسطينيين منذ بدايات القرن الحالي، وصولاً إلى ما لا يزيد على مجرد الاحترام المتبادل وبعض الشفقة.
ثم جاء ناريندرا مودي – صعود الهندوتفا
في عام 2014، أصبح السياسي الهندوسي القومي رئيس وزراء الهند الجديد، وكان مودي عضواً فترة طويلة في منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ اليمينية، التي تطمح منذ وقت طويل إلى تحويل الهند إلى دولة قومية هندوسية، وأوصل مودي عملية إعادة تشكيل الهند في صورة حق الأغلبية إلى أعلى مستوى بالبلاد.
منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ هي من أحيت القومية الهندوسية "هندوتفا" في قلب الهند بعد تولي مودي. والهندوتفا لا علاقة لها بالممارسات أو المعتقدات الهندوسية نفسها.
وعلى الرغم من أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ تستمد إلهامها من أدولف هتلر و "القومية الثقافية" و "التفوق العرقي" من النازية، فقد سارع مودي ونتنياهو إلى التضامن عام 2014، من أجل تحقيق أهدافهما المتعصبة والمتمثلة في تعزيز سلطتهما المطلقة والكلية على أراضيهما.
وأدركا كذلك تشابه طموحاتهما بتأسيس دولة قومية ديمقراطية بثقافة واحدة، وعرق واحد، وقومية واحدة.
وتُرجِمَت تلك العلاقات فوراً إلى تبادل تقني وزراعي وشراكات جديدة بين البلدين. على مدار العقدين الماضيين، كانت الهند تشتري أسلحة من إسرائيل، إلا أنها في عهد مودي، اشترت 46% من كل الأسلحة التي تبيعها من إسرائيل. وتعتبر إسرائيل الآن مورّد السلاح الأول إلى الهند، بتقديرات تصل إلى مليار دولار من المبيعات العسكرية سنوياً.
استعمار استيطاني
وقالت أبورفا بي جي، منسقة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات في جنوب آسيا، لموقع ميدل إيست آي البريطاني، إن الهند الآن "متواطئة بشكل عميق مع نظام الاحتلال العسكري الإسرائيلي، والاستعمار الاستيطاني، والفصل العنصري".
وجاءت زيارة مودي لإسرائيل عام 2017، وهي الأولى لرئيس وزراء هندي في سدة الحكم، لاستبعاد أي شكوك متبقية حول التزامه تجاه إسرائيل. وهي الزيارة التي وصفها نتنياهو بأنها "تزيل الجدران الأخيرة بين البلدين".
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الهندوتفا والصهيونية مثل روحين متآلفين وطريقين لفكرة واحدة. وكما يُتهم منتقدو إسرائيل والصهيونية بمعاداة السامية، يتهم أنصار الهندوتفا معارضيهم بمناهضة الهندوسية.
غاندي وإسرائيل
وفي فعالية تعد الأولى من نوعها نظمها القنصل الإسرائيلي في مومباي، يوم 26 أغسطس/آب، بالاشتراك مع جمعية الصداقة الهندية-الإسرائيلية، احتفل أنصار الأيديولوجيتين بـ "التقارب" بين الهندوتفا والصهيونية.
وأكد المؤرخ الصهيوني غادي توب، من الجامعة العبرية، للحضور فشل التعددية الثقافية والحاجة إلى هوية وطنية واحدة، في حين استعان سوبرامانيان سوامي، العضو البرلماني عن حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، بكتاب "صراع الحضارات" للكاتب صامويل هنتنغتون، لتوضيح حاجة الصهيونية والهندوتفا إلى العمل معاً ضد عدو مشترك.
وقال سوامي: "تتعرض صهيون اليوم لهجمات المتطرفين الإسلاميين، لذا ينبغي أن نتحد معاً لمحاربة الإرهاب الإسلامي".
وتجرَّأ توب على السياسات الهندية السابقة، عندما كانت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ محظورة، وقال إن "هناك كثيراً من مواطن الإعجاب في شخصية (المهاتما) غاندي، وعديد من الإسرائيليين يرون ذلك، ولكنه لم يكن داعماً للصهيونية".
ويعتبر تعرُّض توب بحديثه عن غاندي عبثاً تاريخياً، ولكنه يتلاءم بشكل كبير مع حقيقة قتل غاندي على يد قومي هندوسي متعصب من منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ، بسبب رفض غاندي تبنّي فلسفات التفوق العنصري المقتبسة وقتها عن النازية، واليوم عن الصهيونية.
ولكن هل ننتظر من الفاشية شيئاً آخر خلاف التضليل؟
من المؤكد أن توب يعي جيداً أن نموذج تدرُّج المواطنة في بلاده أصبح طموحاً يسعى القوميون الهندوس إلى استنساخه. كما يعامَل غير اليهود في إسرائيل بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية، وتأميم التاريخ الفلسطيني وحذفه من المناهج الدراسية، تجري الأمور على نحو مشابه في الهند.
كشمير وفلسطين
في الهند، وبرغم الحديث عن المواطنة المتساوية، لا ينتمي المسلمون والمسيحيون إلى "العِرق الهندوسي"، لذا يرضخون دائماً لضغوط هائلة من أجل إثبات "ولائهم" للدولة الهندوسية. وتعرَّض تاريخهم أيضاً للتزوير والتحريف من الهند الهندوسية، وبلغ التزييف ذروته في تغيير الكتب والمناهج المدرسية.
هذا التزييف التاريخي، كما أشار كثيرون، لا يخدم إلا مصالح الحزب الحاكم.
حتى ضم كشمير في بدايات شهر أغسطس/آب، يعد جزءاً من الوعد الذي قطعته منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ لتوحيد الحضارة الهندوسية، التي وفقاً لهندوتفا، اندثرت تحت أقدام الغرباء؛ المسلمين تحديداً.
وكما كتب كابيل كوميريدي في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، ما فعله مودي في كشمير رسالة إلى الجميع، مفادها: "لا أحد بمنأى عن السلطة الهندوسية التي يريد ترسيخها في شبه القارة الهندية. كشمير ما هي إلا تحذير ونموذج؛ أي دولة تنحرف عن تلك الرؤية سوف تخضع تحت إبهام نيودلهي باسم الوحدة".
ومن تعتبرهم الحكومة "دجّالين" يمكن أن تحاكمهم بتهمة معاداة الوطن أو يمكن التخلص منهم ببساطة دون محاكمات. خلال الأسبوع الماضي، جُرِّد أكثر من 1.9 مليون شخص، أغلبهم مسلمون، من الجنسية في ولاية آسام شمال شرقي الهند. في لمح البصر، أصبحوا بلا وطن!
في عهد مودي، الهند التي كانت تَعتبر الصهيونية ذات يوم عنصرية، لم تعد لها مصلحة في الحفاظ على أي مظهر للتضامن مع الفلسطينيين. تخضع الهند الآن لسلطة رجل ومنظمة لديها خيالات وأحلام بتحويل بلادهما إلى إسرائيل جديدة.