لماذا تتورط فرنسا في دعم حفتر؟ وما الذي يجمع حلفاء الجنرال الليبي المتناقضين في كل شيء إلا في دعمه؟
المعركة التي يشنها الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر ليس هدفها الأخير إسقاط طرابلس فقط، فهي جزء من حرب طويلة أكبر من حفتر ومن ليبيا، حرب بدأت رحاها في صناديق الانتخابات وانتهت في الساحات، حرب ستحدد مصير المنطقة برمتها.
فرانسوا بورجات، الكاتب الفرنسي الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، شرح في مقال نُشر بموقع Middle East Eye البريطاني الأسباب الحقيقية لمعركة طرابلس التي أفسدت جهود الأمم المتحدة لتحقيق التوافق في ليبيا، ولماذا تتورّط فرنسا في دعم حفتر؟ ومن خلفها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هل فشلت معركة طرابلس، ولماذا اندلعت أصلا منذ البداية؟
يقول بورجات: لعلّ ما نشهده حالياً هو نهاية العمليات التي أطلقتها منذ عدة أشهر مضت الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا للدفع بليبيا عسكرياً نحو قبول نظام استبدادي "مُعادٍ للإسلاميين"، على غرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وأسهمت هذه الحلقة من الأحداث، التي شن فيها المشير خليفة حفتر، قائد ما يسمى الجيش الوطني الليبي، هجوماً عسكرياً على طرابلس، حيث يقبع مقر حكومة فايز السراج المدعومة من الأمم المتحدة، في إبراز توجه أكد من خلاله اللاعبون الدوليون هيمنتهم على نظرائهم المحليين، مثلما شاهدنا بالضبط في سوريا واليمن.
فبطبيعة الحال أصبح السيسي حليفاً للسعودية والإمارات، باعتباره قائد أول نظام حاكم قمعي ساعدت الدولتان على تأسيسه لإفساد التجربة الديمقراطية المصرية التي حدثت في 2011. وبعدها أصبحت مصر، التي ترتبط بحدود مع ليبيا، نموذجاً يُحتذى به في الشراكة السعودية – الإماراتية.
ولكن لماذا تتورّط فرنسا في دعم حفتر؟
في هذه الأثناء، استغل الخطاب الفرنسي عبارات "الحرب على الإرهاب" الطنّانة لتبرير مشاركته في هذه العمليات، ومن ذلك التلميح بأنَّ حكومة طرابلس مُقرَّبة من جماعات "إرهابية"، (رغم القوات التي تدعم الحكومة في دحر تنظيم داعش في سرت).
ومثلما حدث في اليمن، يبدو أنَّ الدافع الأكبر لباريس هو علاقاتها التجارية والاستراتيجية الوثيقة مع الرياض وأبوظبي.
وبينما تزعم فرنسا أنها تدافع عن التعددية في زمن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أظهرت رفضها لحكومة طرابلس، من خلال حماية حفتر من أي قرار قد يصدر ضده من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وبذلك تمكَّن حفتر من إظهار الازدراء التام للأمم المتحدة بشن هجوم على طرابلس تزامناً مع وصول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى ليبيا بعد أن كانت قطعت جهود الأمم المتحدة لتحقيق التوافق شوطا مهماً.
وعلى الصعيد الدولي، تتمتع هذه الفرقة الرباعية بدعم دبلوماسي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يسحق تحت قدميه "احترام القانون الدولي" الذي يتذرَّع به لتبرير التدخل الروسي الفيّصلي في سوريا.
أما الحليف الثاني القوي للفرقة الرباعية فهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ومن الطبيعي أن يدعم البيت الأبيض حفتر؛ نظراً لأنَّه في عام 1987، عقب هزيمة الكتائب الليبية التي كان يقودها في شمال تشاد، عَرَضَ حفتر خدماته على وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، التي بدورها ساندته على مدى سنوات بينما ينتظر هو الفرصة لإطاحة معمر القذافي.
ويحاول ترامب في ليبيا محاكاة التحالف الذي بدأه في اليمن مع أكبر عميل له في المنطقة -أي السعودية- لكن هذه المرة مع الثنائي السعودية والإمارات، الذي يشارك حليفته إسرائيل الإيمان بأهمية ردع المطامع الإقليمية الإيرانية في الشرق الأوسط.
الحقيقة التي تقف وراء رواية "الاستقرار"
يمكن لشركاء حكومة طرابلس وكل من راودته الآمال التي حملها الربيع العربي أن يعولوا على قطر وتركيا، غير أنَّ الاثنتين منغمستان في شؤونهما الداخلية وأوضاعهما الإقليمية، بما في ذلك الحظر على الدورين القطري والتركي في المعضلة السورية.
كما أنَّ طرابلس تنعم بما تغدقه عليها المستعمر القديم إيطاليا، التي طرحت نفسها على أنها منافس فرنسا.
وفي مقال حديث، قال أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، والمُروِّج لسياساتها، إنَّ "الميليشيات المتطرفة" تشكل حجر عثرة أمام جهود إحلال "السلام" التي يزعم أنه بدأها مع المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة.
وسلَّطت هذه المقالة الدعائية الضوء على ما يُحاك في ليبيا منذ مطلع أبريل/نيسان الماضي، لتكشف عن التدرج في التوقعات والآمال لهؤلاء الذين وحدوا صفوفهم من باريس وواشنطن إلى القاهرة.
ولفت قرقاش: "ستتصرف الإمارات دوماً بحُسن نية وبالتعاون مع شركاء يشاطروننا ذات الآراء، مثل فرنسا، من أجل حماية مصالح المنطقة وشعوبها بقدر الإمكان".
وخلف ستار عملية التواصل المُجمَّلة هذه، من الضروري استيعاب الطبيعة والأهداف الحقيقية لهذه السياسة.
إذ إنَّ الأهداف الحقيقية للإمارات وحلفائها العرب تتمحور حول السعي نحو "الاستقرار"، الذي يتعلق في الأساس بمصالحها الراسخة، المتمثلة في احتواء أية محاولة للتحول الديمقراطي في أنظمتها الملكية بل وتحريف هذه المحاولات عن مسارها، إلى جانب مصالح شركائها وعملائها الأوروبيين.
وبالتالي تنزع هذه الحقيقة عن الاستراتيجية الفرنسية تبريراتها الهشة؛ فلم يَعُد طرحها عن التعددية قابل للتصديق، بسبب العديد من الاكتشافات الأخيرة.
لقد وصل الأمر بفرنسا للتدخل العسكري
في يوليو/تموز 2016، عقب وفاة 3 عملاء استخباراتيين فرنسيين عقب سقوط مروحية هليكوبتر في ليبيا، برَّرت الحكومة الفرنسية وجودها هناك بأنها تدعم القتال ضد "الإرهاب". وبالكاد كان هذا التفسير مقنعاً لأي أحد رأى أنَّ تعريف الإرهاب، على غرار موقف السيسي في مصر، يميل إلى التركيز على الخصوم السياسيين فقط.
وخلال شهر أبريل/نيسان الماضي، كشفت واقعة حدثت عند الحدود مع تونس عن وجود ما يزيد على 12 شخصاً يحملون جوازات سفر دبلوماسية فرنسية ينقلون معدات عسكرية، وهو ما لفت إلى انتشار قوات خاصة فرنسية على الأرض لإدارة حملة حفتر العسكرية على طرابلس.
وظهرت الازدواجية الفرنسية للعيان مرة أخرى حين ردَّ فايز السراج، بينما كان عائداً من فرنسا إلى بلاده في مايو/أيّار، على ما اعتبره تواطؤ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حملة حفتر على طرابلس، من خلال تعليق نشاط العديد من الشركات الفرنسية الكبرى العاملة في ليبيا.
باريس يمكنها حصد أرباح اقتصادية من حكومة التوافق، فلماذا تصر على دعم الجنرال؟
ومن هنا، انفضحت الخيارات الاستبدادية والزبائنية ذات المنظور الضيق التي تنطوي عليها أجندة باريس في ليبيا.
ففي مقابل تعهدات بعقود إماراتية وليبية ضخمة، دعمت فرنسا قبضة حفتر العنيفة على بقايا آمال الثورة الليبية.
لكن في الوقت الذي لا يوجد فيه ما يحول دون توقع ماكرون الحصول على عقود ثمينة مشابهة في حال فوز السراج، فإنَّ ما دفعه للانحياز لفريق دون الآخر هو العامل الأيديولوجي "معاداة الإسلاميين".
ثورة مضادة من الخليج للمحيط هدفها واحد
معركة طرابلس هي أحد جوانب تحركات ديناميكية في المغرب العربي والشرق الأوسط اليوم، حسب الكاتب الفرنسي.
ففي مقابل ثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011، بدعم صريح من القوى الغربي وبدرجات متفاوتة، بدأ يُزاح الستار عن ثورة مضادة في أرجاء المنطقة.
إذ حدَّد الفاعلون العرب الذين شنّوا الثورة المضادة هدفهم الاستراتيجي بأنَّه حركة إسلامية واحدة، هي جماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبرونها بصدق القوة الوحيدة القادرة على تهديد أسس أنظمتهم الحاكمة؛ متذرّعين في ذلك بحجة "الحرب على الإرهاب" والتي أثبتت فعاليتها داخلياً، وحجة "الحرب على الإسلاموية" على الصعيد الدولي.
ومن ثم، أصبحت أهدافهم تشمل قطر، منذ 2011 على نحوٍ مستتر ثم صراحةً منذ يونيو/تموز 2017؛ وذلك بسبب دعمها لثورات الربيع العربي، التي هددت الملكيّات الغنية بالنفط.
وأظهر الإماراتيون وحلفاؤهم من الغرب رفضاً مرعباً لمجرد فكرة التحول الديمقراطي للعالم العربي، بإقصاء الفائزين في أولى الانتخابات التي جرت عقب الربيع العربي في تونس ومصر من أي حل سياسي.
ومع ذلك، فهذا هو الخيار الذي يُنتظَر أن يتبناه ترامب، والذي تطالب به أيضاً الغالبية العظمى من الدوائر السياسية الغربية، التي تتملَّكها مشاعر الإسلاموفوبيا.
وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، وُظِّفَت مجموعة واسعة من وسائل الثورة المضادة، بما في ذلك الضغط السياسي والإعلامي.
ففي فرنسا، استخدم مركز دراسات الشرق الأوسط، بقيادة حليف السيسي والبرلماني المصري السابق عبدالرحيم علي، الخطاب المُعادي للإخوان المسلمين وقطر، الذي يشمل استرضاء مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف.
انتهاك الحظر الأممي
وجاء مكملاً لهذا الضغط الإعلامي والسياسي الحاد، إمداد مستمر من الأسلحة إلى ليبيا -في انتهاك لحظر توريد الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة منذ 2011- وكذلك تدخل عسكري مباشر.
وفي اليمن، جاء التدخل صريحاً وعلى نطاق ضخم منذ مارس/آذار 2015، وكانت له عواقب إنسانية وخيمة.
ففي هذا البلد، تختلف الأهداف السياسية عنها في ليبيا أو مصر، مع تحديد العدو الرئيسي على أساس مذهبي (شيعي)، باعتباره أحد عوامل موازنة القوى في المنطقة مع إيران.
غير أنَّ القتال ضد جماعة الإخوان المسلمين باليمن يتجلى في الأجندة العدوانية التي تتبعها الإمارات في ذلك البلد.
فعقب الحوثيين، يتمثل الهدف التالي في جماعة الإخوان المسلمين، التي يُشكِّل أفرادها في اليمن حزب الإصلاح.
ولم تتردد الإمارات في أن تُسنِد إلى مرتزقة أمريكيين مهمة تصفية العديد من قادة هذا الحزب جنوبي اليمن، بالرغم من أنهم يحاربون الحوثيين معها.
وفي ليبيا أيضاً، يشمل التدخل العسكري المباشر للإمارات تجنيد وتمويل ميليشيات تشكِّل الجزء الأكبر من جيش حفتر.
وفي عام 2014، خلال المعركة الأولى للفوز بالسيطرة على طرابلس، شنَّت الإمارات غارات جوية انطلاقاً من مصر. إلى جانب وجود أدلة على نشرها طائرات بدون طيار، التي قيل إنَّ إحداها أُسقِطَت الشهر الماضي في طرابلس.
موقف مخلتف للمحللين الغربيين من الخطاب المُعادي للإسلاميين.. انظروا لجيش لحفتر
ويظل الجدل الدائر حول أهمية القوات المرتبطة بالحركة الإسلامية، سواء كانت وثيقة أو بعيدة الصلة بها، ودورها مفيداً؛ نظراً لوظائفها وأدوارها شديدة التنوع في ليبيا ومناطق أخرى.
لكن خارج الدوائر الوزارية الفرنسية، قلّة من المحللين فقط هم من يعيرون أية أهمية للخطاب "المعادي للإسلاميين" الذي تتبناه فرقة الإمارات/ حفتر، بل وأقل منهم للخطاب "المناهض للتطرف".
وتتداعى هذه الذريعة إذا توقف المرء لبعض الوقت لملاحظة أنَّ غالبية القوة العسكرية لحفتر تتألف من ميليشيات التيار المدخلي، التي تتبنى مذهباً راديكالياً معارضاً للدولة الإسلامية. وتنحدر هذه الميليشيات من النموذج السلفي السعودي، الذي يتمتع بحرية التشديد الاجتماعي والديني على النحو الأكثر رجعية، في مقابل إذعان هذا التيار الأعمى للقوة السياسية والتنديد بمعارضيهم الإسلاميين السياسيين.
وعلى الرغم ممّا يزعمه داعمو حفتر، فالاشتباكات في ليبيا ليست أيديولوجية. فما يحدث هناك هو حرب مضادة للثورة، تهدف في جانب إلى بسط قبضتها على موارد الدولة الطبيعية؛ فاليوم النفط (إذ تُموِل عوائد النفط المُهرَّب المُقدَّرة بملايين الدولارات الميليشيات) وغداً المناجم.
إذا كنتم تنشدون الاستقرار، فلا بديل لكم عن هذا الحل
وتغيب الطموحات الديمقراطية الضرورية لاستقرار المنطقة عن برنامج قرقاش، مثلما تغيب عن مخاوف حلفاء الإمارات وممارساتهم وتحليلاتهم.
وسواءٌ كانت دبي أو الرياض أو باريس، فإنَّ أياً من هذه الحكومات، التي تخوض "حرباً على الإرهاب" أو "الإسلاموية"، لا يتمهل ليستوعب أو يتقبل أي منهم أنَّ الأهداف الديمقراطية التي يبغضونها هي ضرورة قصوى للاستقرار الذي ينشدونه.
ونتيجة لرفضهم التفاوض مع الفائزين بالانتخابات التي جاء بها الربيع العربي، وعجزهم عن ذلك، وضعوا أنفسهم في مأزق، ودفعوا بالمنطقة بأكملها إلى دوامة من التصعيد الخطير.