مع مُضيّ سنوات الحرب في اليمن سريعاً، شعر أنيس بأنَّه لا خيار أمامه إلا أن يصبح مُقاتلاً ينضم إلى لواءٍ تدعمه السعودية مادياً لقتال المتمردين الحوثيين.
إذ أُغلق مصنع البلاستيك الذي كان يعمل به في مدينة تعز، وبعدما بات بلا مصدر دخل، أخذت زوجته ابنتهما وتركته أمام قرارٍ قاسٍ.
قال أنيس لموقع Middle East Eye البريطاني، مُتحدِّثاً شريطة إمكانية استخدام اسم مستعار؛ لأنَّه يخشى على سلامته: "قالت إمَّا أن أتمكن من توفير الاحتياجات الأساسية للأسرة أو أُطلِّقها".
لذا، تبِع أنيس العشرات من رجال قريته الآخرين وانضم في أكتوبر/تشرين الأول 2018 إلى لواء الفتح، وهو قوة مقاتلة مدعومة سعودياً تأسَّست عام 2016، ويتألَّف بالكامل من مقاتلين يمنيين ومقره مدينة نجران الحدودية السعودية.
تركوهم طُعمةً للمَدَافع
كان أنيس قادراً على إرسال 1200 دولار إلى أسرته شهرياً، واستمر في القتال حتى أبريل/نيسان من هذا العام، حين عاد إلى منزله في زيارة. وفي مايو/أيار الماضي، عاد إلى الحدود اليمنية-السعودية مجدداً، مع أنَّه شعر أنَّها قد تكون رحلته الأخيرة إلى دياره.
وقال: "كنتُ أشعر أنَّ هذه قد تكون زيارتي الأخيرة لقريتي. فالمعارك كانت تشتد، وكان السعوديون يرسلوننا إلى الخطوط الأمامية في حين يبقون هم بعيداً عن المعارك".
وبعد مرور أربعة أشهر –وبعد أيام مما يقول إنَّه وضع السعودية لأكثر من ألف مرتزق مثله في موقعٍ ضعيف على حدود المملكة، حيث حُوصِروا من جانب الحوثيين لأربعة أيام- يدعو صاحب الـ43 عاماً وأقارب أولئك الذين قُتِلوا أثناء الحصار المقاتلين لمغادرة مُشغِّليهم.
وقال: "إنَّني ألعنُ نفسي كل يوم لانضمامي إلى المعارك مع السعودية دفاعاً عن حدودها من الحوثيين. لكنَّها لم تكن غلطتي أنا فحسب، لقد كان الاقتصاد السيئ أيضاً هو ما جعلنا نقوم بذلك".
وقعوا في الفخ
صعَّد الحوثيون في الأشهر الأخيرة هجمات الصواريخ والطائرات دون طيار العابرة للحدود على السعودية، فأصابوا منذ أغسطس/آب الماضي مطاراً وحقلاً نفطياً رئيسياً.
ومع اشتداد حدة القتال في جنوب اليمن بين الانفصاليين والقوات الداعمة لحكومة الرئيس عبدربه منصور هادي، استغل الحوثيون تراجع أعداد المقاتلين الموالين لهادي في الشمال وتقدَّم المتمردون باتجاه الحدود السعودية.
وقال أنيس إنَّ قادة اللواء دعوا الأسبوع الماضي المقاتلين للمسير إلى وادي آل بو جبارة، وهي منطقة في مديرية كتاف بمحافظة صعدة اليمنية.
وأضاف: "نعلم أنَّ هذا الوادي خاضعٌ لسيطرة الحوثيين، وأنَّ الحوثيين أيضاً كانوا متمركزين خلفنا في نجران". لكنَّ القادة أصروا على تقدُّم المرتزقة إلى الأمام، متعهِّدين بأنَّ المقاتلين السلفيين سيتبعونهم من الخلف ويحمونهم.
قال أنيس إنَّ أكثر من ألف مقاتل يمني تقدَّموا إلى الوادي، الذي كان خاوياً حين وصلنا. وأضاف أنَّهم ساروا بعد ذلك نحو 1.5 كيلومتر حول الوادي وبقي لا يوجد حوثيون في مرمى البصر، لكنَّه كان فخاً.
وقال: "فجأة، بدأ الحوثيون يهاجموننا من الجبال. وحاولنا الانسحاب، لكن لم يكن هناك مقاتلون سلفيون يدعموننا، فقط كان هناك الحوثيون الذين يحاصروننا من كل الاتجاهات".
وأضاف أنيس أنَّ الحصار بدأ يوم الإثنين 26 سبتمبر/أيلول واستمر حتى الخميس 29 سبتمبر/أيلول، دونما أي تدخُّل من السعودية أو السلفيين.. وفي النهاية، أحدث بعض المقاتلين خرقاً وفرّوا.
بين القتل أو الأسر
وقال أنيس: "كنا على وشك الموت جوعاً. كان الطعام قد نفد منا. ولم يخترق السعوديون والسلفيون الحصار المفروض علينا، لذا قاتلنا وتقدَّمنا باتجاه نجران، وتمكَّن قليلون فقط من الهرب، بينهم أنا".
وأضاف أنَّه كان من بين أقل من 100 مقاتل هربوا من المعركة، في حين تعرَّض أكثر من ألفٍ آخرين للقتل أو الأسر.
قدَّمت بعض صفحات فيسبوك والمواقع الموالية لهادي روايةً مماثلة عن المعركة، قائلين إنَّ الحوثيين حاصروا المقاتلين ثلاثة أيام، وأسروا معظم المقاتلين وقتلوا الآخرين.
ووفقاً لهذه التقارير، فإنَّ حوالي 800 مقاتل من تعز، و600 من إب، و300 من الجوف، و200 من محافظة ذمار أُسِروا في كتاف ثُمَّ نُقِل الأسرى إلى سجونٍ مختلفة.
ذكرت الروايات كذلك أنَّ إحدى المركبات التي تنقل الجنود الأسرى، والتي كانت بعيدة عن المنطقة التي وقع فيها القتال والحصار، أُصِيبَت في غارة جوية سعودية، ما أسفر عن مقتل وإصابة عددٍ كبير.
السعودية تستهدف الأسرى من مرتزقتها
فقال محمد البخيتي، القيادي الحوثي وعضو المكتب السياسي للحوثيين، على حسابه بفيسبوك، إنَّ كل التفاصيل الواردة في التقارير الموالية لهادي صحيحة.
وكتب: "هناك معلومات أخطر سيتم الكشف عنها لاحقاً، وأهم حقيقة جاءت في سياق المنشور هي أنَّ دول العدوان تستهدف الأسرى من مرتزقتها بالقتل" .
لم تُعلِّق السعودية علناً على المعركة، ولم ترُد على طلب موقع Middle East Eye للتعليق، الثلاثاء 3 سبتمبر/أيلول.
قال أنيس: "كنا على وشك الموت جوعاً، لكنَّ السعودية لم تتدخَّل لكسر الحصار بالغارات الجوية، لأنَّ السعوديين لا يكترثون لنا" .
وأضاف: "أدعو كل المقاتلين اليمنيين على الحدود السعودية للعودة إلى منازلهم وترك الحوثيين يتقدمون نحو السعودية ويثأرون لمقتل رفاقنا المقاتلين" .
الحزن في كل منزل
صدم حجم الخسائر الناجمة عن القتال والحصار في الجبال الأُسر في مختلف أنحاء اليمن، لاسيما في محافظة تعز، حيث ينحدر كثيرٌ من المقاتلين المدفوعين.
قال أنيس، الذي هرب من خلال الفرار نحو نجران ولم يشُق طريقه عائداً إلى الديار إلا يوم السبت 31 أغسطس/آب: "فقدتُ 27 من أصدقائي من قريتي الصغيرة في ضواحي مدينة تعز، واستطاع مقاتلان فقط من قريتي الفرار" .
وفي قريته، تعرَّض فردٌ من أفراد كل أسرة للقتل أو الأسر على الحدود السعودية منذ بدء الحرب. ويقول أفراد الأسرة الناجون إنَّهم ليس لديهم ما يقومون به الآن، لكنَّهم "يدعون الله أن ينتقم من المملكة الخليجية" .
"سينتقم الله لنا"
قالت عائشة شرف، والدة أحد المرتزقة الذي يبلغ من العمر 26 عاماً، للموقع: "شنَّ السعوديون حرباً علينا، وفَقَدَ رجالُنا وظائفهم بسبب الحرب. ثُمَّ فتحت السعودية الباب أمام اليمنيين للدفاع عن حدودها" .
وأضافت: "لم يكن أمام الرجال والشباب أي خيار إلا القتال لصالح السعودية، والحصول على المال الذي يُمكِّنم من الزواج ومساعدة عائلاتهم" .
كان ابنها أسامة يريد الزواج، لكنَّه لم يستطع تحمُّل مهر الزواج البالغ نحو 2000 دولار، لذا انضم إلى المعارك عند الحدود السعودية في مارس/آذار، ليجني المال الذي يحتاجه.
وقالت: "لم أكن سعيدة بأنَّ ابني يقاتل لصالح السعودية، لكنَّني لم أستطع مساعدته على الزواج أو بناء مستقبله، لذا دعوتُ أن يهزم الله السعودية التي شنَّت الحرب على اليمنيين، وجعلت القتال هو السبيل الوحيد لكسب المال" .
كان أسامة أحد المقاتلين الذين قُتِلوا أثناء الحصار قرب الحدود، وهي الأنباء التي لم تعرفها الأم إلا من أنيس. وقالت: "أعتقد أنَّه لا مقاتل آثم، والله سيسامحهم، لكنَّني آمل أن ينتقم الله لأبنائنا ورجالنا وكل الضعفاء" .
مُرتزِقة أم جنود؟
وبشأن أنباء المعركة، ردَّت الحكومة اليمنية دون توضيح أنَّ المقاتلين الذين قُتِلوا كانوا مُرتزِقة، وليسوا جنوداً من الجيش.
كما أفادت وزارة الدفاع اليمنية أنَّ نائب الرئيس علي محسن صالح هاتف اللواء رداد الهاشمي، قائد محور كتاف، يوم الجمعة 30 أغسطس/آب لمتابعة المستجدات العسكرية وحالة المقاتلين. وقال موقع وزارة الدفاع: "أشاد صالح ببسالة الأبطال وثباتهم الأسطوري في وجه ميليشيا الانقلاب الحوثية الإيرانية، مُترحِّماً على أرواح الشهداء سائلاً الله الشفاء للجرحى والمصابين" .
وعبَّر صالح كذلك عن "تقديره لدعم الأشقاء في المملكة العربية السعودية الشقيقة"، لجهودهم في تحرير اليمن من الحوثيين. واتهم المقاتل الهارب أنيس الحكومة بأنَّها "أسوأ مشكلات اليمن" .
وقال: "ذهبنا إلى المعارك عبر وسطاء، وحصلنا على رواتبنا بالريال السعودي. ولا تعرف الحكومة أي شيء عنا، ومن الساذج سماع أنَّ الحكومة تقول إنَّنا جنود" . وأضاف: "حكومتنا حبيسة في السعودية، بالتالي من الطبيعي رؤيتها تقوم بكل ما يخدم السعودية وليس اليمنيين" .
العودة إلى الديار
دفعت المعركة آخرين لدعوة المرتزقة الذين يقاتلون لصالح السعودية في اليمن بالعودة إلى الديار. فبعد فترة قصيرة من المعركة، قال الشيخ حمود المخلافي، قائد المقاومة الشعبية في تعز والمقيم الآن في تركيا، على صفحته بفيسبوك: "ندعو جميع أبناءنا من إقليم الجند (محافظتي تعز وإب) المتطوعين للقتال في الحدِّ الجنوبي للمملكة العربية السعودية سرعة العودة إلى جبهات الشرف والعزة والكرامة في محافظة تعز" .
وأضاف أنَّ القوات الموالية لهادي في تعز مستعدة لاستقبال المقاتلين، وأنَّهم معاً يمكنهم تحرير بقية محافظة تعز من الحوثيين.
وقال توفيق الحميدي، وهو محامٍ وناشط يمني في حقوق الإنسان يترأس منظمة سام للحقوق والحريات، ومقرها جنيف، على حسابه بتويتر: "ما يحدث في الحدود يُعَد انتهاكاً للقوانين المحلية والاتفاقيات الدولية، التي تحظر استغلال المدنيين للقتال مع دولة ما، خارج أطر القوانين العسكرية المحلية الناظمة، بما لا يحفظ لهم حقوقهم المستقبلية كمقاتلين رسميين" .
هل تسمح السعودية للمقاتلين بالعودة لديارهم؟
وفي تقريرٍ حديث صدر الأحد 1 سبتمبر/أيلول، واستند إلى شهاداتٍ من راصدين محليين وضباط ومجندين سابقين، ذكرت منظمة سام أنَّ السعودية استغلت الوضع الاقتصادي في اليمن للاستعانة بمقاتلين محليين.
وجاء في التقرير: "الآلاف من اليمينين الذين اضطروا للذهاب للقتال دفاعاً عن الحدود السعودية، تحت ضغط الأوضاع الإنسانية السيئة وقُتلوا أو جُرحوا، عُوملوا من قِبل المملكة العربية السعودية كما لو أنَّهم غير موجودين" .
وأضاف: "السعودية تشتري المقاتلين اليمنيين عبر شبكات اتجار بالبشر، تشمل سعوديين ويمنيين بينهم ضباط، وضباط سابقين في الجيش اليمني" .
الآن، وقد عاد أنيس إلى الديار، فإنَّه يُشجِّع المقاتلين الآخرين على العودة، لكنَّه يقول إنَّه يعرف أنَّ هذا طلبٌ صعب. فقال: "الكثير من المقاتلين اليمنيين في الجبهات الأخرى عند الحدود السعودية يطالبون بالعودة إلى مدنهم بعد ما شهدوه من خيانة السلفيين، لكنَّ السعوديين لم يسمحوا لهم بمغادرة المعارك" .
وفي الوقت نفسه، سيحاول أنيس، باستخدام بعض المال الذي ادّخره من قتاله، دعم أسرته من خلال بيع الشطائر في إحدى المدارس القريبة.