منذ عام 2018، بدأت المحاكم الحاخامية في إسرائيل قبول نتائج تحليل الحمض النووي الميتوكوندري دليلاً على النسب اليهودي. إذ يورث الحمض النووي "الميتوكوندري" عن طريق الأم فقط. وبموجب القانون الديني اليهودي، أو "الهالاخاه"، يكون الشخص يهودياً إذا كانت والدته يهودية (أو إذا اعتنق الديانة اليهودية وفقاً لمذهب الهالاخاه).
وقد خضع عشرات الإسرائيليين، الذين كانت يهوديتهم وفقاً للهالاخاه موضع شك، لا سيما المهاجرين من بلاد الاتحاد السوفيتي سابقاً، لتحليل الحمض النووي الميتوكوندري. ووُجِد أنَّ ثلثيهم يهود. وترجع قلة أعداد الذين أجروا التحليل إلى أنَّ الكثيرين لا يعرفونه. أمَّا في روسيا، فقد ساعد هذا التحليل مئات اليهود في إثبات يهوديتهم، كما تزعم صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
تحاليل الحمض النووي لإثبات "اليهودية"!
تتمنَّى الإسرائيلية تاتيانا بلجين، وهي طبيبةٌ في الستينات من عمرها أن تسمح لها الدولة بأن تُدفَن بصفتها "امرأة يهودية" حين تموت. إذ تقول: "لا أرغب في الزواج أو الحصول على أي خدماتٍ أخرى من الدولة. كل ما أريده هو تأكيدٌ من المحكمة الحاخامية بأنني يهودية، كي أدفَن في مقبرةٍ يهودية".
لكنَّ طلبها يواجه عقبةً كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية؛ إذ ترفض إحدى المحاكم الدينية الاعتراف بأنَّها يهودية. وقالت تاتيانا: "أعرف منذ طفولتي أنني يهودية، وكذلك عائلتي بأكملها، لكنَّ المحكمة الحاخامية أرادت إثباتاً".
وبعد عامين من الجهد، لم تقتنع المحكمة الحاخامية بالوثائق التي قدَّمتها تاتيانا. وبعدما يأست وكادت أن تستسلم، علمت تاتيانا أنَّها يمكن أن تُجري تحليلاً جينياً. وقالت: "بلغت نسبة دقة التحليلات التي أجريتها 99%، والآن من المفترض أن أحصل على تأكيدٍ بأنني يهودية".
على ماذا يعتمد هذا التحليل؟
تقول الصحيفة الإسرائيلية أنَّ ثورة تحليلات الحمض النووي هذه قادها الحاخام يسرائيل بارنبوم، وهو قاضٍ حاخامي في موسكو وجد طريقةً لاستخدام التحليل لتحديد الجذور اليهودية. ويقول بارنبوم إنَّه "ساعد 500 شخص في السنوات الخمس الماضية في سعيهم إلى الزواج، أو إجراء ختان الذكور، أوالهجرة إلى إسرائيل". لكنَّ "نتائج التحليل لا تُعَد سوى دليلٍ داعم لمن يرغبون في إثبات يهوديتهم في محكمة حاخامية"، إذ يُقدّم بالإضافة إلى عدة وثائق.
وبحسب هآرتس، يعتمد التحليل على مقارنة الطفرات في الحمض النووي الميتوكوندري بقواعد البيانات الخاصة بشعوبٍ ومجموعات عرقية أخرى. وتستند تلك العملية إلى أبحاثٍ أجراها كارل سكوريكي، الأستاذ في معهد تكنيون للتكنولوجيا، ودورون بيهار، الطبيب في مركز رامبام الطبي في حيفا. إذ حدَّد الباحثان العديد من السمات الخاصة بمجتمعاتٍ محددة. فعلى سبيل المثال، ينحدر ما بين 70 إلى 80% من اليهود من جورجيا والقوقاز من عددٍ صغير من النساء اللواتي كُنَّ يعشن منذ مئات السنين.
ويقول بارنبوم إنَّ استخدام مثل هذا الدليل يعد تقدماً، لكنَّ بعض الحاخامات لا يعتمدون عليه بقدر ما كان يريد. إذ يمكن لمجموعاتٍ من طفراتٍ محددة من الحمض النووي أن تحدد الفروع العائلية بصورةٍ فريدة من نوعها، وتُميِّزها عن غيرها عن طريق نسب الحمض النووي إلى جدةٍ يهودية محددة.
بيد أنَّ علامات التغيير بدأت تظهر في إسرائيل، ويرجع ذلك إلى معهد Simanim، الذي أنشأه الحاخام زئيف ليتكي. ويقول ليتكي إنَّهم يستثمرون موارد ضخمة في البحث وزيادة قاعدة البيانات، وذلك "لمساعدة المزيد ممَّن يحتاجون إلى المساعدة".
كثيرون لا يرغبون بإجراء هذا التحليل
وتقول هآرتس إنه بالرغم بساطة هذا التحليل، إلا أن الكثيرين من اليهود لا يحبذون إجراءه. يقول سكوريكي: "يحجم العلماء عن التعامل مع ذلك لأنَّه يذكرنا بما كان النازيون يفعلونه"، موضحاً أنَّ هذا ليس "جيناً يهودياً"، لأنَّه لا يوجد شيء من هذا القبيل. وأضاف: "هذه فحوصات تتيح للمرء تحديد أي انتماء إلى أي مجتمعٍ في العالم، حتى وإن كان غير مرتبط باليهود. وحين أشرح ذلك باستفاضة، يدرك بعض الأشخاص أنَّه لا يوجد ما يدعو إلى القلق".
جديرٌ بالذكر أنَّ حوالي 4 آلاف شخص في إسرائيل يخضعون لفحص أصولهم اليهودية كل عام، وعادة ما يبدأ ذلك حين يرغب أحفاد المهاجرين الوافدين إلى إسرائيل من دول الاتحاد السوفيتي سابقاً في الزواج. ويحصل أكثر من 85% من إجمالي المتقدمين على التصديق على أصولهم اليهودية. لكنَّ هذا العدد لا يشمل المهاجرين الوافدين من إثيوبيا، الذين تُفحَص أصولهم على يد الحاخامات في مجتمعهم بالتعاون مع المجالس الدينية المحلية.
وكثيرون ترفض طلباتهم
ومع ذلك، يشير بحثٌ أجراه شوكي فريدمان، الباحث في معهد إسرائيل للديمقراطية، وباحثون آخرون إلى أنَّ عدد الطلبات المرفوضة قد ارتفع في السنوات الأخيرة، إذ ارتفعت نسبتها من 2.9% في عام 2011 إلى 6.7% في عام 2017. فيما تبقى 10% من الطلبات عالقةً دون حل كل عام.
فعلى سبيل المثال، حين تقدمت الإسرائيلية لالا مورسالوف بطلبٍ للحصول على رخصة زواج في الحاخامية الكُبرى، طُلِب منها إثبات يهوديتها. وبعد عدة أشهر، وصلت وثائق تدعم ادعاءها بأنَّها يهودية من أذربيجان، لكنَّها رُفِضت. وقالت "لالا" إنَّها صُعِقت لأنَّها تعرف منذ طفولتها أنها يهودية، ولم تتوقع أن تواجه أي مشكلات. ثم لجأت إلى إجراء تحليل الحمض النووي، فحظي طلبها بالقبول. وقالت متحدثة عن ذلك: "التحليل أنقذني. لقد رفضت التحول إلى ديانة أخرى لأنَّني أعيش يهوديةً".
الموقف يتحوّل لكابوس لدى الكثير من الإسرائيليين
وعلى صعيدٍ آخر، هناك بعض الحاخامات قلقون من الإقبال المتزايد على هذه التحاليل. إذ يقول فريدمان إنَّ الموقف قد يتحول إلى كابوس. وأوضح ذلك قائلاً: "مع زيادة حجم قواعد بيانات الحمض النووي، ستزداد موثوقية هذه التحاليل. وسيصبح تحليل الحمض النووي بوابة فعلية إلى اليهودية. وأيُّ شخص لا يحصل على نتيجة متطابقة، سيُشتبه في أنَّه ليس يهودياً، أو يصبح يهودياً من الدرجة الثانية". هذا وأعرب إيلاد كابلان من مؤسسة ITIM عن قلقه كذلك.
إذ قال: "من المفارقات أنَّ العلم تفوق على الدين، لكنَّ نتيجة هذا العلم تخدم فحص الانتماء الديني. هذا يناقض تماماً الأحكام اليهودية التقليدية على مرِّ التاريخ، ويتناقض كذلك مع عزم كبير الحاخامات على عدم إخضاع يهود دول الاتحاد السوفيتي سابقاً لفحوصاتٍ مشددة. إذ يجب ألَّا تكون يهوديتهم موضع شك في الأساس".
فيما يقول فريدمان إنَّه من الخطأ طلب إجراء هذه التحاليل. وأضاف: "ففي الماضي، كان الشخص الذي يعلن أنه يهودي يُقبَل على أنَّه يهودي في مجتمعه. ولكن منذ الهجرة الجماعية من دول الاتحاد السوفيتي سابقاً، اتخذت الحاخامية موقفاً معاكساً، وفرضت على مُدَّعي اليهودية إثبات يهوديتهم. وهذا أمرٌ غير مقبول. فهذه العملية مهينة وتطفلية وتُربك حياة الناس. فحين يُرفَض شخصٌ ما، يُخبَر جميع أقربائه بأنَّه ليس يهودياً، ويُدرَج في قائمة الأشخاص الذين يُحظَر الزواج منهم".
"البعض يدّعي أنه يهودي"
وعلى الجانب الآخر، يقول مسؤولٌ مكلَّف بفحص الأصول اليهودية لهآرتس، إنَّ هذه العملية مطلوبة، وإنَّ الأحكام السابقة كانت بحاجةٍ إلى التغيير بسبب ظروف جديدة. وأضاف المسؤول الذي اشترط عدم الكشف عن هويته: "نعلم أنَّ العديد من المهاجرين ليسوا يهوداً، وأنَّ بعض الأشخاص لديهم مصالح اجتماعية ومالية في ادِّعاء أنَّهم يهود. لذا يجب على الدولة فحص هذه المسألة. والغالبية العظمى من طلبات المتقدمين تحظى بالموافقة". وأكَّد أنَّ هذه العملية لا تستغرق وقتاً كبيراً، مضيفاً أنَّ بعض الحالات قد تستغرق أسابيع.
ومن جانبها تؤكِّد المحاكم الحاخامية أنَّ أحكامها تصدر وفقاً للقانون اليهودي. إذ تقول: "تجري العملية بحسن نية وحساسية لمساعدة المتقدمين، وتجري الموافقة على 97% من الطلبات. ولا يُقترَح إجراء تحليل الحمض النووي إلَّا عندما يتعذر على مقدم الطلب إثبات أصوله اليهودية. أي أنَّه ليس إجبارياً".