منذ وصول حماس إلى الحكم في قطاع غزة من خلال انتخابات حرة أشرفت عليها وراقبتها المؤسسات الدولية قبل نحو عقد ونصف من الزمان، والقطاع يتعرض للحصار والقصف المتقطع من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي، ووصلت الظروف المعيشية لدرجة مأساوية، لكن حتى إعادة إعمار القطاع تتحكم فيها إسرائيل، كيف وما هي القصة؟
وكالة بلومبرغ الأمريكية تناولت موضوع إعادة إعمار غزة في تقرير مطول لها سلط الضوء على سلعة أساسية في مسألة إعادة الإعمار تحت عنوان: "غزة بحاجة إلى الإسمنت لمشاريع إعادة الإعمار.. لكن إسرائيل تهيمن على السوق".
كيف كانت البداية؟
كان محمد العصار نائماً عندما تعرَّض مصنعه للقصف. ففي ليلةٍ دافئة في أغسطس/آب من عام 2014، لم يستيقظ من جرَّاء الانفجار بل أيقظته مكالمةٌ هاتفية من حارس الأمن في المصنع يُخبره فيها بأنَّ مصنع خلط الخرسانة، الواقع على بعد 3 كيلومترات شمال منزله بجوار الطريق السريع الوحيد في قطاع غزة، تعرَّض لهجومٍ في الأيام الأخيرة من الحرب التي استمرت سبعة أسابيع بين إسرائيل والمقاتلين الإسلاميين. وحين وصل العصار إلى هناك فجراً، لم ير سوى دمار، وشخصين ميتين من الجيران. فيما تحوَّلت المكاتب إلى أنقاض، وصارت صوامع التخزين أكواماً من الركام المعدني. بينما كانت هناك شاحنةٌ لضخ الخرسانة ملقاةً عبر الطريق. وقال العصَّار وهو يتصفح صور الدمار على هاتفه: "لقد جلست وسط الأنقاض وبكيت".
كان العصَّار يعلم أنَّه مضطرٌ إلى فتح المصنع من جديد، لأنَّه كان يوفِّر مصدر رزق له ولعماله الأربعين. لكنَّ بناء أي مصنع يتطلَّب أطناناً من الإسمنت. وكانت إعادة بناء مصنع تحتاج إلى حوالي 100 طن. بيد أنَّ المشكلة هي أن مبيعات الإسمنت تخضع لرقابة صارمة في غزة، ولم يكن لدى العصار سوى القليل من الوقت. فشراء الإسمنت بطرق قانونية يتطلب خططاً تفصيلية وموافقات لا تعد ولا تحصى، في حين أنَّ عملاء العصار كان يحتاجون إلى إعادة بناء المصنع لتوفير متطلباتهم. وفي يناير/كانون الثاني من عام 2015، فعل العصَّار ما اعتاد الجميع تقريباً فعله في غزة بعد عقود من الاحتلال الإسرائيلي والحصار: لجأ إلى السوق السوداء. واضطَّر إلى دفع حوالي ضعف السعر المتداول للإسمنت الذي يزيد قليلاً على 100 دولار للطن، لكنَّه تمكن من إعادة إنتاج الخرسانة بحلول شهر مارس/آذار من العام نفسه. وقال متحدثاً عن ذلك وهو في غرفة التحكم المزدحمة بالمصنع، حيث يُستخدم حاسوبٌ قديم في مراقبة مزج المكونات لصنع الخرسانة: "كنت بحاجةٍ آنذاك إلى تسيير الأوضاع".
الخرسانة مادة أساسية
جديرٌ بالذكر أنَّ غزةَّ تحتاج إلى الخرسانة، وبكمياتٍ كبيرة. ففي حرب عام 2014، دُمِّرت حوالي 11 ألف وحدة سكنية، وأصيبت حوالي 160 ألف وحدة أخرى ببعض الأضرار، وفقاً لغرفة التجارة في قطاع غزة، ما أوقع ضرراً على أكثر من ربع العائلات في القطاع. وفي الوقت الحالي، بعد خمس سنوات من انتهاء القتال، ما زال هناك حوالي 16500 شخص يعيشون في مساكن مؤقتة، وفقاً للأمم المتحدة. فيما تُحاط شوارع غزة بهياكل نصف مبنية، يشغل بعض السكان عدداً قليل من الطوابق، في حين أنَّ بقية الطوابق صارت مجرَّد هياكل جوفاء بلا نوافذ. وأصبحت المباني القديمة مملوءة بآثار القصف ومتهدمةً بسبب عقود من الإهمال أو الضرر الذي لحق بها في مختلف النزاعات. وصار من الشائع رؤية مجموعات من الرجال تتسلق أكوام الحطام، وتُكسِّر ألواح الخرسانة لإعادة تدوير ما يُمكنهم إعادة تدويره. ولإصلاح أضرار الحرب، وإجراء عمليات صيانة عادية، وبناء مشروعات مخطط لها على مرِّ السنوات الخمس الماضية، كانت غزة تحتاج إلى ما لا يقل عن 6 ملايين طن من الإسمنت، حسبما ذكرت غرفة التجارة. لكنَّها لم تحصل إلَّا على أقل من نصف هذه الكمية.
الاعتبارات السياسية
وكما هي الحال في كل ما يتعلق بالعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، يرتبط توفير الإسمنت لغزة ارتباطاً شديداً باعتباراتٍ سياسية. إذ يخضع سوق الإسمنت لهيمنة شركة Nesher Israel Cement Enterprises الإسرائيلية، التي تجني حوالي ثلث إيراداتها من المقاولين الذين يبنون منازل للمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، وتتحكم في حوالي ثلاثة أرباع مبيعات الإسمنت القانونية في غزة. وتخضع عمليات تسليمه لآلية إعادة إعمار غزة، وهي مجموعة معقدة من القواعد التي واجهها العصار. إذ يراقب هذا النظام ما يُسمَّى بالمواد ذات الاستخدام المزدوج، وهي الأشياء التي يحتاج إليها المدنيون لكنَّها قد تُستخدَم كذلك في أغراضٍ عسكرية. وبموجب هذا النظام، تفرض إسرائيل قيوداً على شحنات أكثر من 100 فئة واسعة من البضائع، تتراوح من كاشفات الدخان والمواد اللاصقة إلى أنابيب الصرف الصحي سابقة الصب وقضبان حديد التسليح.
الإسمنت كلمة السر
بيد أنَّ السلعة الأكبر والأكثر إثارة للجدل بين هذه البضائع هي الإسمنت، فهو نادراً ما يُعتبر مادة مزدوجة الاستخدام، بل ربما لا يُمكن اعتباره هكذا في الأساس. ومن السهل الخلط بينه وبين الخرسانة. لكنَّ الإسمنت هو ما يُعادل مادة الغراء لدَّى عمال البناء، وهو المادة التي تربط بين الرمال والحصى وتُشكِّل الجزء الأكبر من الخرسانة، التي تستخدم في كل تشييد كل بِنية تقريباً في العالم الصناعي. وتجدر الإشارة إلى أنَّ عملية صناعة الإسمنت ليست معقدة، إذ لم تتطرأ تغيرات ملحوظة على وصفة تحضيره منذ قرنين من الزمان، لكنَّه يتطلب كميات هائلة من الطاقة والمرافق تضاهي حجم مدينة صغيرة. وفي الوضع المثالي، تُبنى مصانع الإسمنت بجوار مقالع الحجر الجيري. إذ يجري تكسير الحجر الجيري، ويمُزَج مع الغضار وكمياتٍ صغيرة من بعض المواد المضافة مثل الرماد أو خام الحديد، ويُسخَّن هذا المزيج إلى درجةٍ تصل إلى 1500 درجة مئوية. وما يخرج من الناحية الأخرى يسمى الكلنكر، وهو مادة داكنة صخرية تبدو مثل قوالب الفحم. ثم يُخلَط الكلنكر مع القليل من الجبس أو الحجر الجيري، ويُطحَن فينتج مسحوق الإسمنت.
القوة الدافعة وراء آلية إعادة إعمار غزة كان دبلوماسي هولندي يدعى روبرت سيري، كان كبير مفاوضي السلام في الأمم المتحدة في المنطقة. في سبتمبر/أيلول 2014، بعد أسابيع قليلة فقط من انتهاء القتال، التقى سيري بالإسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية للتوسط في اتفاق لتسريع إعادة الإعمار. في ظل توقع تقديم المانحين الدوليين أكثر من 5 مليارات دولار كمساعدات في مؤتمر عُقِدَ في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول، كان هناك حاجة لشخص يراقب شحنات الإمدادات إلى مواقع البناء. يتذكر سيري قائلاً: "لم يكن من المنطقي نقل البضائع إلى غزة بدون آلية ما. بدأ الجميع في التطلع إلى الأمم المتحدة للتوصل إلى حل".
ما "خطة سيري"؟
وما زالت الخطة التي يطلق عليها الكثيرين في غزة "خطة سيري" تواجه شكوكاً متزايدة. كان القادة العسكريون الإسرائيليون قلقين بشكل خاص بشأن إبقاء سيطرة حماس -الجماعة الإسلامية التي تحكم غزة، والتي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل منظمة إرهابية- على المواد التي يمكن استخدامها لبناء أنفاق للتسلل إلى إسرائيل. ولكن بحلول أواخر سبتمبر/أيلول، توصل الجانبان إلى اتفاق. في حين أن آلية إعادة إعمار غزة شهدت دخول ملايين الأطنان من الإسمنت إلى غزة من إسرائيل خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن العديد من سكان غزة يقولون إن الخطة أبطأت عملية إعادة الإعمار وساعدت في إنعاش سوق سوداء للبضائع المهربة عبر الأنفاق تحت الحدود مع مصر. يقول ماهر الطباع، مسؤول الإعلام في غرفة التجارة بغزة: "كان الهدف هو منع حماس من الحصول على الإسمنت. لكن الإسمنت من مصر كان متاحاً لأي شخص، سواء حماس أو غيرها".
تسلّط مبيعات الإسمنت الضوء على علاقة الشد والجذب بين الإسرائيليين والفلسطينيين. يكره الطرفان بعضهما ويتقاتلان ويقتلان بعضهما البعض، ثم يتعاونان مرة أخرى، ثم تعيد الدورة كرَّتها. ويزداد الأمر تعقيداً عندما يتدخل لاعبون آخرون في الشرق الأوسط في الأمر. يشتري العديد من سكان غزة الإسمنت من مصنع مملوك للجيش المصري يرسل كميات كبيرة على الرغم من معارضة مصر لحماس. دخلت شركات من تركيا، التي تدافع عن الحقوق الفلسطينية بشكل دائم، السوق الإسرائيلية بإسمنت رخيص يستخدم اليوم لبناء جدار خرساني حول غزة. ووضعت الأمم المتحدة، التي كانت موثوقة على نطاق واسع كقوة محايدة، في موقف دفاعي لأن الفلسطينيين ينظرون إليها على نحو متزايد على أنها منفذة للسياسة الإسرائيلية عبر آلية إعادة إعمار غزة.
قواعد صارمة
جدير بالذكر أن قواعد آلية إعادة إعمار غزة صارمة، والعقوبات على الانتهاكات البسيطة يمكن أن تتسبب في توقف المقاولين والموردين عن العمل لأسابيع أو أشهر. في مصنع العصار المشمس، الواقع بين حقول البطيخ ومحطة بنزين مهجورة جنوب مدينة غزة، يجب على الكتّاب تسجيل كل شكارة إسمنت سعة 50 كيلوغراماً (110 أرطال) يأتي في البوابة. أثناء السير في المصنع الذي أعيد بناؤه، أشار العصار إلى عشرات الكاميرات الأمنية التي كان يتعين عليها تثبيتها على البوابة الأمامية، على سقيفة التخزين على عمود إضاءة يطل على أكوام من الحصى. في الداخل، يطلق العصار اللعنات وهو يمر بنظامي مراقبة بالفيديو يعملان على مدار 24 ساعة في اليوم.
في غزة، الشيء الوحيد الموثوق به بشأن الكهرباء هو انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، لذلك اضطر إلى شراء زوج من البطاريات الاحتياطية لضمان تدفق مستمر للطاقة؛ فإذا انطفأت الأنوار أو فشل اتصال الإنترنت أو ضربت العاصفة الكاميرا، فإنه يخاطر بالإغلاق بموجب قواعد آلية إعادة إعمار عزة. وقال العصار، وهو يتصفح كتاب التصاريح والإيصالات التي يجب أن يظهرها لمفتشي الأمم المتحدة في أي وقت يصنع فيه الخرسانة، أن القيود ترقى إلى "احتلال جديد لغزة".
بيروقراطية لا تنتهي
في إطار آلية إعادة إعمار غزة، تتطلب المشروعات المقترحة مستندات تصف ما سيتم بناؤه ولأي غرض وكميات المواد المطلوبة. ويجري تحميل ذلك عبر موقع على شبكة الإنترنت لكي يقوم مسؤولو السلطة الفلسطينية والإسرائيلية بالتحقق من دقته. عندما يجري الموافقة على المشروع، يحصل مالك المبنى على تصريح لشراء الإسمنت. في متجر معتمد في غزة، يقدم المشتري هويته ويطلب المواد. ثم يرتب النقل -عادة بضع لوحات مع طن أو أكثر من الإسمنت في شكاير 50 كيلوغراماً- إلى مصنع للخرسانة مثل العصار.
في مكتب قاحل بالطابق العلوي، يجلس اثنان من مفتشي الأمم المتحدة يدخنان السجائر الملفوفة باليد، في انتظار قيام معدات الطحن بتصنيع الخرسانة. عندما يريد العصار إنتاج كمية من الخرسانة، فإنهم يفحصون الأوراق ويوافقون على مزج الإسمنت بالرمل والحصى والماء. يقول العصار: "إن المهندسين يتدخلون في كل شيء من أعمالك"، ويقول إن مصنعه تعرض للإغلاق مرات أكثر مما يتذكر لأسباب تتعلق بكمية الخرسانة ومقصدها ورقم رخصة الشاحنة والسائق وأشياء كثيرة.
تزعم إسرائيل أن القيود ضرورية لكبح جماح النشطاء المرتبطين بحماس، والتي تسيطر على غزة منذ الانتخابات في عام 2006. وبعد التصويت، قطع معظم المجتمع الدولي المساعدات عن غزة، واتجهت إسرائيل لعزل القطاع، بما في ذلك فرض حظر على مبيعات الإسمنت. من المعروف على نطاق واسع أن حماس، التي دعت منذ فترة طويلة إلى تدمير إسرائيل، قامت ببناء أنفاق مبطنة بالخرسانة أسفل غزة لتخزين الذخيرة وتوفير المأوى لمقاتليها. وقامت ببناء حوالي 30 نفقاً –أيضاً بالخرسانة- داخل إسرائيل. في ست مناسبات، تمكن رجال مسلحون من الوصول إلى الحدود، حيث قتلوا 24 جندياً إسرائيلياً وخطفوا ثلاثة آخرين. وتقول إسرائيل إن نشطاء غزة استخدموا المعادن والأسمدة وحتى الأدوات المنزلية اليومية مثل الأمونيا والسكر لبناء صواريخ محلية الصنع يطلقونها على البلدات والمدن الإسرائيلية. بعد أن قتل النشطاء ثلاثة من المراهقين الإسرائيليين في عام 2014، أطلقت إسرائيل "عملية الجرف الصامد"، وهو الصراع الثالث من نوعه منذ ست سنوات. قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عندما سقطت القنابل في صيف عام 2014: "ليست هناك حرب عادلة أكثر من هذه الحرب. لن تكتمل عملية الجرف الصامد دون تحييد الأنفاق، التي يعد الغرض الوحيد منها هو تدمير المدنيين وقتل أطفالنا".
ظروف معيشية كارثية
كان لدى سكان غزة البالغ عددهم 1.9 مليون نسمة مستوى معيشة أعلى من المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية. في الثمانينيات والتسعينيات، كان العديد من سكان غزة يسافرون يومياً إلى إسرائيل من أجل العمل، واستثمر الفلسطينيون في الخارج في مشاريع تهدف إلى جعل الشواطئ الرملية الواسعة في المنطقة وجهة سياحية. تصور واضعو اتفاقية أوسلو عام 1994 أن تكون غزة البالغة 25 ميلاً على طول البحر المتوسط بمثابة هونغ كونغ أو سنغافورة في الشرق الأوسط. لكن في حوالي عام 2000، بعد بدء الانتفاضة الثانية -الانتفاضة الفلسطينية التي تتخللها موجة من التفجيرات الانتحارية في إسرائيل- بدأ الإسرائيليون في قطع وصولهم إلى غزة.
وما زال اقتصاد غزة في مأزق منذ عام 2013، عندما بدأت مصر في إغلاق الأنفاق التي يزيد عددها عن 1000 نفق يستخدم لتهريب كل شيء من السجائر والشوكولاته إلى السيارات والإسمنت إلى غزة. في الأشهر الأخيرة، تدهور الوضع حيث أدت التوترات بين حماس والسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى استمرار الخلافات مع إسرائيل، إلى الحد بشكل كبير من تحويلات الأموال إلى القطاع. فالطرق مليئة بالتشققات والتصدع ومحطة مياه الصرف الصحي محملة بأكثر من طاقتها، لذلك غالبًا ما تقوم بإلقاء مياه الصرف الصحي الخام في المياه على طول الشاطئ. ارتفع عدد الفلسطينيين الذين يعتمدون على المساعدات الغذائية من الأمم المتحدة إلى ما يقرب من مليون شخص، مقارنة بحوالي 80 ألف في عام 2000. تبلغ البطالة أعلى من 50%، وفي أوساط الشباب تبلغ حوالي 70%. في منتصف النهار، تكون الشوارع فارغة بشكل مخيف. فهناك القليل من الناس الذين لديهم سبب للخروج من البيت.
تجدر الإشارة إلى أن آلية إعادة إعمار غزة قد صُمِّمَت كتدبير مؤقت؛ لكن بعد خمس سنوات، لا تزال هذه الآلية سارية، وهناك ضغوط متزايدة لإعادة النظر في النظام والضوابط الإسرائيلية على البضائع ذات الاستخدام المزدوج. يقول البنك الدولي إن الصعوبات في الحصول على الموافقات لشحنات الإمداد أبطأت إنشاء محطة لمعالجة المياه لمدة أربع سنوات على الأقل وأن تخفيف حدود الاستخدام المزدوج يمكن أن يعزز اقتصاد غزة بنسبة 11% بحلول عام 2025. إذا حدث أي شيء من إدارة ترامب بخصوص ما يسمى صفقة القرن من أجل تشجيع الاستثمار والسلام في المنطقة، سيكون هناك حاجة أكبر لنهج أكثر بساطة.
"إسرائيل تحتكر إعادة الإعمار"
في يناير/كانون الثاني، وافقت الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية والإسرائيليون على تعديلات تهدف إلى جعل آلية إعادة إعمار غزة أكثر شفافية. يمكن لسكان غزة المعرضين لعقوبات بموجب النظام أو الذين يجري رفض خططهم الآن تقديم استئناف. يجب الموافقة على المشاريع أو حظرها في غضون 45 يوماً (قبل ذلك لم يكن هناك حد زمني، وكان الرد يستغرق شهور أحيانًا). وهناك فهرس واضح للبضائع ذات الاستخدام المزدوج، مما يسهل على الفلسطينيين معرفة ما يمكنهم وما لا يمكنهم طلبه. تقول الأمم المتحدة إنه منذ التغييرات، انخفض متوسط الوقت اللازم لاتخاذ قرار بشأن الشحنات ذات الاستخدام المزدوج إلى النصف، إلى 18 يوماً. يقول نيكولاي ملادينوف، المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط: "إن هذا النظام سهل الاستخدام وشفاف للمانحين والمستفيدين ومسؤول أيضاً".
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين، يتفاقم ألم القيود بسبب مصدر المواد. على الرغم من أن آلية إعادة إعمار غزة لا تتطلب عمليات شراء من إسرائيل -كما يعتقد الكثيرون في غزة- فإن معظم البضائع تمر عبر البلاد، مما يعطي شركاتها ميزة قوية. على جانب آخر، يشعر محمد أبو قمر، الذي يبيع طيور الحسون الأوراسي والعصافير من شقته في الطابق الأرضي على بعد بضع مئات من الأمتار من السياج الحدودي الإسرائيلي، أنه ليس لديه خيار سوى شراء لوازمه من نفس الأشخاص الذين دمروا منزله.
في وقت مبكر من حرب عام 2014، رحل معظم جيرانه لاختباء في مكان تحت الأرض، لكن أبو قمر لم يكن لديه مكان آخر يذهب إليه، وتوقع أن يهاجم الإسرائيليون المقاتلين فقط، وليس المدنيين. ثم بعد أسبوعين من النزاع، أصيبت بنايته بقذيفة. نُقل أبو قمر وزوجته وخمسة أطفال إلى المستشفى، حيث عولجوا وخرجوا من المستشفى في اليوم التالي. انتقلت العائلة إلى ملجأ للأمم المتحدة، حيث سيبقون لمدة ستة أسابيع. عندما عاد أبو قمر أخيراً إلى منزله، كان لا يزال قائماً، لكن متصدع. أزال الأنقاض وعاد إلى الشقة التالفة. قبل عام ونصف العام، كشفت الأمم المتحدة عن خطط لإعادة البناء. إنه سعيد بعملية إعادة الإعمار -هناك مكان لمتجر الطيور الخاص به- لكن الأمر المخزي أن البناء جرى بالمواد الإسرائيلية. يقول أبو قمر، وهو جالس في ظلال المبنى في ظهيرة صيف حار مع أصدقائه، وهو يصلح مروحة مكسورة، "إسرائيل تدمر، ثم يدفع العرب الأموال إليها لتعيد البناء".
جاء الإسمنت الذي استخدمه أبو قمر من شركة "نيشر" للإسمنت، التي كانت تحتكر لعقود إنتاج الإسمنت في إسرائيل، مما ساعد في بناء كل شيء من المزارع اليهودية إلى مباني الباوهاوس الرائعة في تل أبيب إلى الجدران التي تقسم الضفة الغربية. في العشرين عاماً الماضية، تخلت إسرائيل عن جذورها الاشتراكية، وهي بحاجة اليوم إلى المزيد من الخرسانة لطرقها السريعة والقطارات عالية السرعة وأبراج الشقق الفاخرة. مع ازدهار الاقتصاد، سعت الحكومة في عام 2015 إلى تعزيز المنافسة من خلال إجبار شركة "نيشر" على بيع منشأة إنتاج. مع نمو الواردات من اليونان وتركيا، انخفضت حصة نيشر في السوق في إسرائيل إلى 55% من 85% قبل ثلاث سنوات. لكن في غزة تظل نيشر هي المهيمنة. يقول مخيمر أبو سعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة: "لقد احتكرت إسرائيل إعادة الإعمار. ليس هناك شك في أن شركة نيشر تجني الأموال من إعادة البناء".
شركة تجني مليارات
جدير بالذكر أن شركة نيشر كانت معزولة عن غزة لأكثر من نصف عقد بسبب القيود الإسرائيلية على مبيعات الإسمنت هناك، لكن آلية إعادة إعمار غزة فتحت المجال أمهامها مرة أخرى. مع احتكارها لصناعة الإسمنت في إسرائيل، عينت الشركة حاكماً عسكرياً سابقاً في غزة للمساعدة في تعزيز أعمالها في القطاع، الذي يمثل الآن 10% من سوق الإسمنت الإسرائيلي. لكن ميرو أميل، مدير مبيعات نيشر، يصف آلية إعادة إعمار غزة بأنها "هراء" ويقول إنها خلقت سوقاً ثانوية بين الأشخاص الذين لديهم معرّفات آلية إعادة إعمار غزة والذين يتقاضون 15 دولاراً إضافياً للطن الواحد لشراء الإسمنت وتسليمه إلى أي شخص، دون طرح أي أسئلة. وهذا يجعل الإسمنت أكثر تكلفة، ويميل العملاء نحو مصر. ورداً على سؤال "لماذا تعتقد أن إسرائيل تبني جداراً حول غزة؟"، قال: "لا أحد يعرف إلى أين يذهب الإسمنت".
هل حان الوقت لإلغاء آلية إعادة الإعمار؟
على بعد 50 ميلاً جنوباً، عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية وعبر الجدار الخرساني والسياج والأسلاك الشائكة المحيطة بغزة، يتفق العصار مع أميل، ويقول إن هذا هو السبب في أن الوقت قد حان لإلغاء آلية إعادة إعمار غزة. بالإضافة إلى مكتبه في مصنع الخلط، لديه مساحة بها طبقتان من السلالم الخرسانية الخام في مبنى لم يكتمل بمدينة غزة محاط بالركام. يؤدي الباب الزجاجي إلى الجناح المكسو بالرخام، وهو الطابق المشغول الوحيد في الهيكل الفارغ. يقول العصار إن البناء غير المكتمل يسلط الضوء على النقص في المواد والنضال الاقتصادي لسكان غزة بسبب آلية إعادة إعمار غزة. يقول: "منذ البداية عارضنا خطة سيري"، وهو يرفع صوته حتى يكون مسموع مع صوت الضجيج في الشارع الذي يتدفق عبر نافذة المفتوحة بسنادة لإدخال نسمة من الهواء. "كنا نعلم أنها ستدمر اقتصادنا، ولكن في النهاية كان علينا أن نعمل وفق لتلك الآلية".