أُرسلت رسالة مفتوحة عبر الفاكس في 11 يوليو/تموز 1995 إلى ملك المملكة العربية السعودية تتهمه بأنَّه "كافر". كان الاتهام العلني بالكفر صادماً ومُفزعاً بما فيه الكفاية حينها، لكن ما جعل هذا الحدث مذهلاً على نحوٍ خاص مَنزِلَة كاتب الرسالة باعتباره سليل إحدى العائلات السعودية الكبيرة وأحد أعضاء الدائرة الداخلية السعودية حتى وقت قريب قبل الإعلان عن هذا الاتهام.
كتب أسامة بن لادن في رسالته إلى الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود: "مملكتك المزعومة هي في الواقع ليست سوى محميّة أمريكية يحكمها الدستور الأمريكي. وخيانتك لدين الإسلام وارتدادك عنه واضح تماماً كوضوح الشمس في وقت الظهيرة".
بدأ بن لادن إعلان الجهاد العالمي تحت راية تنظيم القاعدة. ناشد المسلمين في أول سطر من فتواه الأولى عام 1996 "ضرورة طرد المشركين من شبه الجزيرة العربية"، الذين كانت قواتهم "تدنس تلك الأرض المقدسة".
نشر القوات الأمريكية.. أداة تجنيد كبيرة
غادر هؤلاء الجنود الأمريكيون السعودية في نهاية المطاف في عام 2003، بعد الإطاحة بصدام حسين في عملية غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تحدّث بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، عن أنَّ وجود القوات الأمريكية كان بمثابة "أداة تجنيد ضخمة لتنظيم القاعدة وأنَّه من الجيد رفع ذلك العبء عن كاهل السعوديين".
وبعد مرور 16 عاماً، أعلنت وكالة الأنباء السعودية في 19 يوليو/تموز 2019 أنَّ القوات الأمريكية المقاتلة ستعود إلى المملكة السعودية مع تصاعد التوترات العسكرية مع إيران. إذ ستستضيف قاعدة الأمير سلطان الجوية قريباً ما يقدر بنحو 500 جندي أمريكي، فضلاً عن طائرات مقاتلة وصواريخ باتريوت.
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، تُعتبر إعادة فتح الرياض لهذا الملف المثير للجدل انعكاساً آخر على نهم المخاطرة لدى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. يراهن بن سلمان بشكل أساسي على أنَّ العداء الحالي تجاه إيران سيطغى على أي شعور متبقٍّ مناهض للولايات المتحدة وسط فئات شعبه والمؤسسة الدينية. لكنَّه رهان خطير للغاية.
رهان مرتفع الخطورة
حرب اليمن: يُعد السماح بعودة القوات الأمريكية إلى السعودية جزءاً من نمط رهانات عالية المخاطر من جانب ولي العهد، من بينها الحرب في اليمن، التي تراجعت عنها الآن حليفته، دولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد أسفرت تلك الحرب عن سلسلة من التداعيات المُكلّفة يصعب تبريرها –بدءاً من الصعوبات الدبلوماسية والأمنية إلى الأضرار التي لحقت بسُمعة المملكة، وقبل كل شيء، كارثة إنسانية مدمرة يعيشها الشعب اليمني جراء تلك الحرب.
خاشقجي والأمراء: ومن ضمن الرهانات الأخرى كان قرار الاعتقال الجماعي لأباطرة الأعمال وعدد من أفراد العائلة المالكة السعوديين بتهم فساد وعملية القتل الوحشية للصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية بإسطنبول العام الماضي.
تغيير المجتمع: وقد سعى محمد بن سلمان في الآونة الأخيرة إلى تحويل المجتمع السعودي من الأعلى، من خلال تقويض نفوذ الهيئات الدينية، وإدخال تعديلات شاملة على نظام الوصاية على المرأة السعودية، والسماح بتنظيم حفلات موسيقية وبناء دور عرض سينمائية، والسماح للنساء بقيادة السيارات، في حين تُعتقل الناشطات اللاتي ناضلن طويلاً من أجل نفس تلك الحريات.
تطبيع مع إسرائيل: كذلك، شهدت العلاقات السعودية مع إسرائيل تحسناً سريعاً، مدفوعاً بالعداء المتبادل تجاه إيران. في شهر فبراير/شباط الماضي، حضر وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية مؤتمر وارسو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفي الشهر الماضي يوليو/تموز، شارك المدوّن السعودي محمد سعود في زيارة ترعاها الدولة إلى القدس، حيث تعرّض للهجوم اللفظي من جانب الفلسطينيين بوصفه "خائناً"، وأدَّى أغنية باللغة العبرية إهداءً لنتنياهو.
وتبذل الحكومة السعودية قصارى جهدها لنفي وجود تطبيع دبلوماسي مع إسرائيل، علماً بأنَّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لا يزال قضية مشحونة بالمشاعر في جميع أنحاء المنطقة وداخل المملكة السعودية نفسها.
حكاية بن لادن ربما تتكرر
ومع هذا السلوك الاستراتيجي المتغيّر، تواجه القيادة السعودية عدداً من المجموعات المختلفة في نفس الوقت، بدءاً من الحرس الديني القديم إلى الناشطين الشباب. والقرار العلني باستضافة القوات الأمريكية على الأراضي السعودية مُجدَّداً قد يُسدي عن غير قصد صنيعاً للجهاديين لتحفيز نشاطهم. تفهم السلطات السعودية أكثر من غيرها كيف ساهمت دعوة القوات الأجنبية في ظهور حركة جهادية فتّاكة.
حدثت القطيعة بين مؤسس القاعدة والنظام الملكي السعودي قبل حوالي 30 عاماً بسبب عودة بن لادن إلى جدة بعد قيادته للجهاديين العرب، الذين قاتلوا ضد السوفييت في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. وقد أشار على الفور إلى طموحاته السياسية المغامرة ومن هنا، شعر السعوديون بالقلق وصادروا جواز سفره.
بدأ بن لادن، بعد بضعة أشهر لاحقة، في أوائل عام 1990، في التحذير علناً من المخاطر التي يُشكّلها حكم صدام حسين وحزبه الكافر "حزب البعث" في العراق على المملكة والمنطقة العربية بأسرها. وجاء رد الحكومة السعودية كالآتي: اهتم بشأنك واترك ما لا يعنيك.
أثار غزو صدام حسين للكويت في أغسطس/آب 1990 سلسلة من المفاجآت المربكة في السعودية المستهدفة حديثاً. صُدم السعوديون من عجز حكومتهم عن الدفاع عنهم، على الرغم من ثروة البلاد النفطية وعقود أسلحة بقيمة مليار دولار مع شركات الدفاع الأمريكية. وفي أحد الانتقادات الشائعة، عزا بن لادن ورجال الدين المحافظين عجز المملكة إلى تخليّها المزعوم عن تعاليم الإسلام الحقيقي.
دهشة يقابلها صدمة
من جانبها، دُهشت الحكومة السعودية من عرض ابن لادن الجريء، المدعوم بخرائط وخطط حربية، بحشد جيشه الخاص به المكوّن من 100 ألف مجاهد لحماية البلاد من صدام حسين. وغنيٌّ عن القول إنَّ اقتراح بن لادن قُوبل بالرفض واتّجهت الرياض بدلاً من ذلك إلى واشنطن.
استشاط بن لادن غضباً من مناشدة الحكومة السعودية الجيشَ الأمريكي من أجل الدفاع عن المملكة واستخدام أراضيها المقدسة قاعدة أمريكية لتحرير الكويت. ووفقاً لما قاله بن لادن لاحقاً لأحد الصحفيين، كان هذا القرار "أكبر صدمة في حياته كلها".
كان بن لادن غاضباً أيضاً من القمع الحكومي لحركة الصحوة السعودية. ومثَّلت تلك الحركة مزيجاً من فقه الوهابية وفكر لسيد قطب. لذا، أُحتفي بدعاة من أمثال سفر الحوالي وسلمان العودة من جانب أسامة بن لادن. وبعد إطلاق العنان للجهاديين في أفغانستان، أُلقي القبض عليهم ووُضعوا في السجن بدايةً من عام 1994 لمطالبتهم بترحيل القوات الأمريكية ووضع حد للممارسات الفاسدة للملكية السعودية.
أُطلق سراح بعضهم، مثل سلمان العودة، وأعيد دمجهم في المجتمع عام 1999. وبالتبعية، وجهوا بعد ذلك انتقادات قوية لأسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. ثم أُعيد إلقاء القبض على عددٍ منهم، من ضمنهم سلمان العودة، بسبب "إثارة الفتن والتحريض ضد الحاكم" في عامي 2017 و2018 -لأنَّهم طالبو أو أشاروا إلى المصالحة والتقارب مع قطر وانتقدوا انتهاكات حقوق الإنسان- ويواجهون الآن عقوبة الإعدام.
وعندما أصبح واضحاً، بعد حرب الخليج، أنَّ القوات الأمريكية ستبقى على الأراضي السعودية، بدأ بن لادن يربط منافسته بالنظام الملكي السعودي واستياءه الشخصي العميق من الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل. بلغت هذه العملية أوجها بإعلانات الحرب الصادرة عنه في عامي 1996 و1998، التي جادلت أنَّ الحكومة الأمريكية كانت تستخدم الأراضي السعودية المُقدّسة قاعدة تحارب منها المسلمين.
هل تُستغل عودة القوات الأمريكية إلى السعودية؟
تقول مجلة Foreign Policy، قد يستغل تنظيم القاعدة على نحوٍ جيد قرار العودة الرسمية للقوات الأمريكية إلى السعودية، التي تسعى جاهدة حالياً إلى تمييز نفسها عن طائفية وتعصب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). ومنذ عام 2015، أعاد حمزة، نجل أسامة بن لادن المُفترض أنَّه ميت الآن، إحياء انتقادات والده لتحالف المملكة السعودية مع الولايات المتحدة وطالب صراحةً بالإطاحة ببيت آل سعود.
نشرت صحيفة "الشرق الأوسط"، ذات الصلة بالدولة السعودية، مقالاً افتتاحياً في 23 يوليو/تموز 2019 يزعم عدم ظهور أية انتقادات جراء الإعلان عن عودة القوات الأمريكية إلى الأراضي السعودية وأنَّ "المواطنين السعوديين لم يعودوا حسَّاسين تجاه مثل هذه العلاقات العسكرية". تتبدَّل المواقف بالتأكيد، ويبدو ثمة اتجاه نحو عصر تختفي فيه كل ما كان يُعد على مدار فترة طويلة من المحظورات.
ومع ذلك، يجب أن يكون مسؤولو مكافحة الإرهاب حول العالم منتبهين وحذرين. فما يحدث في المملكة السعودية قد لا يكون مجرد غياب للمعارضة، بل هدوء أحكم النظام الملكي إدارته قبل إعادة إثارة العاصفة من جديد.