تركيا دائماً ما تختار طريقها.. هذا ما لم تفهمه واشنطن فخسرت حليفاً استراتيجياً مهماً

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/08/09 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/08/09 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في لقاء سابق - رويترز

غراهام فولر كان مسؤولاً كبيراً في وكالة الاستخبارات المركزية وألف عدة كتب عن العالم الإسلامي، نشر مقالاً تناول فيه أسباب وصول العلاقات الأمريكية التركية لما وصلت إليه، وعنون مقاله "من خسر تركيا؟"، مستعرضاً بلغة التاريخ والمصالح موقف كل من أنقرة وواشنطن، فماذا قال في مقاله المنشور على موقع لوب لوغ الأمريكي؟

ها نحن ذا مرةً أخرى، نُعايش مرحلةً أخرى من مطاردة الساحرات حول "من خسر.. -(املأ الفراغ) البلد". وكان السؤال في الماضي حول من خسر الصين عام 1949، ثم كوبا عام 1959، ثم إيران 1979، وغيرها من الدول. ويدور السؤال حالياً حول "من خسر تركيا؟".

تاريخ من خسارة الحلفاء

ويطرح هذا السؤال نفسه متى انقلبت ضدنا دولةٌ كُنَّا نعتقد بشدة أنَّها طرفٌ مضمون داخل "المعسكر الأمريكي". ويبدو صُنَّاع السياسة في واشنطن مُؤمنين بأنَّ الولاء الاستراتيجي للولايات المتحدة، بين الدول العاقلة، هو أمرٌ طبيعي. وليس من المفترض أن تنشق أيّ دولةٍ عن هذا التحالف، وحتى في حال حدوث ذلك، فـ"من المسؤول؟". وكيف يُمكن لتركيا، "حليف الولايات المتحدة والناتو الموثوق" منذ فترةٍ طويلة، أن تُطوِّر علاقات عمل جيدة مع روسيا أو أن تتعاون مع إيران أو أن تنخرط في رؤية الصين الأوراسية (الأوروبية-الآسيوية) الجديدة؟

لكن تصرُّفات أنقرة ربما تكون منطقية فعلياً، في حال تبنَّينا منظوراً أوسع نطاقاً في ما يتعلَّق بما كانت عليه تركيا طوال العقدين أو الثلاثة عقود الماضية.

ممارسة السيادة الكاملة

وبعباراتٍ أبسط، اختارت تركيا على مدار تاريخها أن تسلك طريقها الخاص الذي تُمارس به كامل سيادتها. فإبان الحرب الباردة، كانت تركيا تُعتبر حليفاً "مُخلصاً" -وإن كان شائكاً- للناتو. والحقيقة الجيوسياسية البارزة بالنسبة لتركيا هي أنَّها تقع على حدود الاتحاد السوفيتي، إذ انخرطت روسيا في قرونٍ من المواجهات والحروب مع الإمبراطورية العثمانية التركية. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، انبثقت عنه دولٌ مستقلة جديدة -جورجيا وأرمينيا وأذربيجان- داخل الفضاء السوفيتي السابق -على طول الحدود الشرقية لتركيا. وحدث تحوُّلٌ جيوسياسي ضخم بعد أن وجدت تركيا نفسها فجأةً لا تقع على حدود روسيا تقريباً.

وفي الوقت ذاته، استطاع الأتراك بحلول نهاية الحرب الأهلية أن يبدأوا التفكير في موقعهم وسط العالم بعبارات جديدة. ولم تَعُد تركيا تنظر إلى نفسها بنفس نظرة أمريكا أو الناتو -أي بوصفها موقعاً استراتيجياً شرقياً يخدم مصالح الناتو الاستراتيجية الغربية في المقام الأول. وبالنسبة لأنقرة، أضحى معنى وغاية الناتو محل شك.

الناتو يفقد أهميته

تنذر أزمة إف-35 بإحداث شقاق في حلف الناتو، إذ تمتلك تركيا ثاني أكبر جيش في الحلف/ رويترز

وبالتأكِّيد سأُجادل -جدالاً سيتعرَّض لهجومٍ شديد من مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية- بأنه مع نهاية إمبراطورية الشيوعية السوفيتية، بدأ الناتو يفقد أهميته الاستراتيجية سريعاً. (لا يزال الناتو بالطبع يتمتَّع بدفاعٍ شديد من جانب واشنطن، إذ أنَّه مثل أداةً مهمة تُجسِّد قبضة السياسة الخارجية الأمريكية على أوروبا منذ وقتٍ بعيد -ويُوصف التحالف عادةً بأنه "تحالف الأطلسي"). ولكن مع نهاية الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي، أضحت هوية أوروبا أقل "أطلسية" بكثير من واشنطن. وأوروبا هي أوروبا الآن، التي تسعى إلى حريةٍ أكبر من الضغط الشرقي والغربي على التنافس الأمريكي الروسي. وتتمتَّع أوروبا الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، باستقلال رؤيتها المتنامي وتفسيرها الشخصي لمصالحها الاستراتيجية الشخصية، بعيداً عن كونها أداةً في حقيبة أدوات الولايات المتحدة الجيوسياسية. وتشعر أوروبا بالتأكيد الآن بأنَّها جزءٌ من الفضاء الأوراسي أكثر من الأطلسي. إذ أنَّ موسكو أقرب من واشنطن بكثير.

معاملة ترامب لأوروبا

ولا شكَّ أن أسلوب سياسة ترامب الخشن والمُهين قد سرَّع في استعادة هذه الهوية الأوروبية الجديدة الأكثر استقلالاً. ولكن نسب هذه الموجة الجيوسياسية الكبرى بالكامل إلى ترامب هو أمرٌ قصير النظر إلى حدٍ كبير.

ومع نهاية الحرب الباردة، صارت عملية الاستقلال الأوروبي الأكبر أمراً حتمياً بدأ في التطور قبل وصول ترامب إلى السلطة بوقتٍ بعيد. لكن مؤسسة السياسة الخارجية، التي تُنكر التحوُّلات الجيوسياسية العالمية عادةً، سيتسنى لها أن تسأل الآن: "من خسر أوروبا؟".

وعلى نفس المنوال، بدأت تركيا أيضاً في إعادة تخيُّل نفسها أكثر من المنظورات الجيوسياسية التاريخية للامبراطورية العثمانية التركية السابقة -وهي إمبراطورية امتدَّ دورها ونفوذها السياسي والثقافي من آسيا الوسطى -بطول الشرق الأوسط- وصولاً إلى شمال إفريقيا، وحتى البلقان في الشمال وشرق إفريقيا في الجنوب. لكن الأمر الأكثر أهميةً من غيره هو أنَّ الامبراطورية العثمانية مثَّلت قلب ومقر الإسلام السني في العالم. (وهذه واحدةٌ من القضايا العديدة التي لا تزال تُغيظ المملكة العربية السعودية -التي لا تستطيع حتى التظاهر بأنَّها منافسٌ سياسي أو ثقافي أو صناعي أو حتى عسكري لتركيا).

تأثير في أوروبا وآسيا وإفريقيا

وتُوضِّح نظرةٌ واحدة على الخرائط السياسية والثقافية للعالم مدى كون تركيا دولةً أوراسيةً في الأساس، إذ تُمثِّل مصالحها في أوروبا الجناح الغربي فقط من الطائر الثقافي التركي، ولكنها ليست الجناح الأكثر تحديداً للكينونة الجيوسياسية والثقافية التركية. وربما كانت السياسة الخارجية التركية في ظل إدارة أردوغان مُفرطةً في طموحاتها حين فرضت نفسها سريعاً بوصفها القوة السنية المهيمنة في الشرق الأوسط، ولكن يُمكن القول بأنَّها كذلك بالفعل.

ولكن بالنسبة لأنقرة، كانت الانتفاضة السورية عام 2012 بمثابة نقطة التحوُّل، حينها بدأ أردوغان يتلمَّس طريقه بحثاً عن ما كان يُمثِّل رؤيةً جريئة ومستقلة للسياسة الخارجية التركية. لكن مغامرة أردوغان السورية عام 2012 مثَّلت في الواقع انحرافاً كبيراً عن سياسات "حُسن الجوار" الرائدة، وتبنِّي تركيا العلني لهويتها الإسلامية المقموعة منذ زمن. ودفعت القرارات الخاطئة في سوريا بتركيا إلى خسارة مواقف سياستها الخارجية التي كانت ثابتةً في وقتٍ من الأوقات، ولم ينته الأمر بعد. لكن أنقرة لا تزال تُحاول ببطء استعادة رؤية سياستها الخارجية السابقة -بوصفها قوةً أوراسية وإسلامية فعلية.

تغير ظروف روسيا الجغرافية

وماذا عن التحوُّل الكامل في علاقات أنقرة مع روسيا؟ فتركيا على درايةٍ تامة بأن روسيا كانت طرفاً فاعلاً في الشرق الأوسط وبلاد الشام منذ مئات السنوات، وصولاً إلى العصور القيصرية. ولكن منذ عام 1991، لم تَعُد روسيا امبراطوريةً توسُّعية على حدود تركيا كما كانت. وعملت الولايات المتحدة على الدفع بالناتو بطريقةٍ استفزازية إلى عتبة روسيا، إذ تتشارك روسيا مع الصين هدفها المتزايد الراغب في إحباط جهود الولايات المتحدة المتداعية للحفاظ على دورها القديم المُتمثِّل في الهيمنة العالمية. وأعادت الصين نفسها تخيُّل هذا الفضاء الأوراسي بشكلٍ خلَّاق في الوقت ذاته، عن طريق مشروعها الحالم "مبادرة الحزام والطريق"، إذ يهدف المشروع إلى إقامة مركز تجارة ونقل عبر أوراسيا.

أردوغان وبوتين

هل يستطيع أي شخص تخيُّل أنَّ تركيا لن تُشارك بقوةٍ في هذه العملية، في ظل هذه الحقائق الدرامية الجديدة من القرن الحادي والعشرين؟ وفي الواقع، هل أصبح الناتو يعني أيّ شيءٍ على الإطلاق بالنسبة لتركيا (أو بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا)، باستثناء كونها أداةً مُفيدة لإدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا؟ ومن المفارقات أنَّ العضوية التركية الاسمية في الناتو تُزوِّد تركيا بثِقَلٍ مُوازن مُفيد، يجعلها أكثر نفوذاً في تعاملاتها مع روسيا والصين.

وليس لدى أنقرة الكثير لتخسره من وجهة نظرها، في ما يتعلَّق بأمنها الخاص على الأقل، حين تُقلِّص علاقاتها مع الناتو -حتى وإن لم تقطعها بالكامل- بشدة من خلال شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية S-400.

توازنات تخدم المصالح والسيادة

وكجزءٍ من هويتها المزدوجة بين الشرق والغرب، فهي تعلم أنَّه من الجنون أن تقطع كامل علاقاتها مع الغرب -وخاصةً على المستوى الاقتصادي-، كما أنَّه من الحماقة أن تُعيد توجيه نفسها بالكامل ناحية الغرب وتُدير ظهرها بالكامل لهذا المشروع المستقبلي الأوراسي القوي من المستقبل.

وختاماً، بالنظر إلى تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط -وهو تاريخٌ من الأخطاء المتواصلة، والحسابات الخاطئة، والحروب، والكوارث التي لم تنتهي بعد-، فمن غير الواقعي بالنسبة لتركيا أن تظلَّ راغبةً في تعريف نفسها تحت "القيادة الأمريكية".

والأدهى أنَّ سياسة الولايات المتحدة تُجاه إيران -الجارة بالغة الأهمية بالنسبة لتركيا- كانت غير عقلانيةٍ منذ السقوط المُدمِّر لشاه إيران، أكبر حلفاء الولايات المتحدة، عام 1979. وإيران هي أيضاً مُتباهيةٌ وعنيدة وقومية في تعاملاتها، لكن تركيا تعلم أنَّه قد كُتب عليها التعاون مع إيران على أساسٍ واقعي في القضايا الإقليمية الرئيسية -بوصفهما متنافستين عرضيتين، إلى جانب تقاسمهما المصالح المشتركة.

ورغم التوترات الدورية، لم تدخُل تركيا وإيران حرباً مع بعضهما البعض منذ قرون طويلة -وهما تُمثِّلان القوى الثقافية والدولية والمجتمعية الوحيدة المُستقلة تمام الاستقلال، والمُتقدِّمة، والراسخة تاريخياً في المنطقة. وليس لدى أنقرة بالتأكيد رغبة أو حافز للسير على خطا القيادة الأمريكية في تحدِّي إيران، خلال ما قد يتحوَّل إلى أمرٍ فوضوي للغاية. ولن تكون لدى أنقرة رغبةٌ أكبر في الانحياز إلى نسخة الإسلام الوهابي المُتشدِّدة وغير المُتسامحة وكارهة الأجانب الخاصة بالمملكة العربية السعودية، والتي سعت -ببعض النجاح المُقلق- إلى شراء القيادة السنية لصالحها حول العالم الإسلامي من أجل الترويج للوهابية.

وتعي روسيا جيداً الطبيعة القومية الشائكة لقيادة أنقرة وطهران داخل هاتين الدولتين الثقيلتين وشبه الديمقراطيتين. وقد أدارت موسكو علاقاتها ببراعة مع الدولتين بفاعلية حتى الآن، بعكس إدارة واشنطن غير الفعَّالة.

وبعد عقدٍ كامل من قيادة أردوغان الرائعة لـ"حزب العدالة والتنمية" في عقده الأول، ورغم الانتقادات التي توجه إليه من خصومه خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، لا تزال تركيا دولةً ديمقراطية، حيث تُعقد انتخاباتٌ حقيقية، ونتائجها مُهمة. ويبدو أن أحمد داود أوغلو، وزير خارجية أردوغان البارع لسنوات طويلة والذي كان المهندس المعماري والدبلوماسي والفكري الرئيسي لـ"تركيا الأوراسية"، يُعاود الظهور على الساحة السياسية مرةً أخرى بوصفه مُنافساً سياسياً لأردوغان هذه المرة.

لذا فإنَّ أحداً في واشنطن لم "يخسر" تركيا، بل حدث ذلك نتاجاً لقوى جيوسياسية جديدة لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ويرى الأتراك أنَّه من المُهين اعتبارهم ملكيةً يجب على واشنطن "الحفاظ عليها" أو "خسارتها"، أو قبول الافتراض بأنَّ شخصية أنقرة الطبيعية يجب أن تكون "حليفةً" أمريكية. ولن تكون تركيا "حليفة" أحدٍ على الأغلب -ويجب على روسيا أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار. ولا شكّ أن المجازفة التركية الحالية بشراء الصواريخ الروسية، والتعبير عن مطالباتها باحتياطيات الطاقة في منطقة البحر المتوسط المُحيطة بقبرص، تعكس جهداً خطيراً من أردوغان لتحويل الانتباه بعيداً عن المشكلات المحلية وتوجيهه ناحية المبادرات الأجنبية. ولن تكون تركيا صديقةً لإسرائيل أيضاً.

وسيكون من الخطأ الفادح افتراض أنَّه بظهور قيادةٍ تركية جديدة، فستقوم بتغيير حالة "الحليفة" القديمة التي اعتمد الغرب طويلاً على انصياعها. وربما يسعى أيّ قائدٍ جديد في البداية لترميم بعض الأسوار هنا أو هناك مع الغرب، ولكنه سيواصل بالتأكيد السعي وراء ما تعتبره تركيا قدرها الجيوسياسي المُوسَّع الذي يشمل انخراطاً أعمق مع أوراسيا.

تحميل المزيد