في 17 يوليو/تموز الماضي، قرَّرت الولايات المتحدة أخيراً تعليق مشاركة تركيا في برنامج مقاتلات F-35، وهي خطوة اتُّخِذَت رداً على استقبال تركيا منظومة صواريخ S-400 روسية الصنع. كان القرار الأمريكي تتويجاً مناسباً لقصة طويلة من الممكن جداً أن "تُسمِّم" العلاقات الأمريكية-التركية سنواتٍ قادمة.
وبحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية، فقد كشفت هذه الأزمة فشل إدارة ترامب في التطبيق الفعَّال لبنودٍ رئيسية بقانون العقوبات الروسية التاريخي الذي سُنَّ في عام 2017، "قانون التصدي لخصوم أمريكا عبر العقوبات" (CAATSA). وفي نهاية المطاف، أسهمت رسائل إدارة ترامب المختلطة في توصل الرئيس رجب طيب أردوغان إلى حساباته بأنَّه يمكنه المضي قدماً في عملية الشراء للمنظومة الروسية دون التعرُّض لخطر فرض عقوبات أو إلحاق أضرار بالعلاقات الأمريكية-التركية.
إدارة ترامب تتحمّل مسؤولية الأزمة مع تركيا
ويترصَّد "خصمٌ مألوف" وراء الخلاف الحالي بين الولايات المتحدة وتركيا؛ إذ ستعود الصفقة الروسية البالغة قيمتها 2.5 مليار دولار بأرباح كبيرة على السياسة الخارجية الروسية، وستُقوِّض المصالح الأمريكية. فصفقة صواريخ S-400 الروسية تمنح موسكو تأثيراً على السياسة الخارجية التركية، وتدق إسفيناً بين واشنطن وأنقرة، وتمنح موسكو موطئ قدمٍ استراتيجي في بلدٍ رئيسي بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعقِّد المساعي الأمريكية للحصول على تعاون تركيا في سوريا وإيران وفنزويلا، كما تقول المجلة الأمريكية.
تقول "الفورين بوليسي" إنَّ تردد إدارة ترامب في فرض العقوبات المتعلقة بروسيا وفوَّض بها الكونغرس إلى جانب خطابها المرتبك بشأن تركيا، منح أردوغان الثقة للمضي قدماً في عملية الشراء، بحسب تعبيرها.
وفي حين يتطلب "الردع الفعَّال" تهديداً ذا مصداقية بالعواقب –العقوبات القاسية في هذه الحالة- فإنَّه يتطلَّب كذلك "تواصلاً لا غموض فيه ودبلوماسية متسقة"، تضيف المجلة الأمريكية.
لكنَّ إدارة ترامب عجزت عن الأمور الثلاثة، وتسبَّبت إشاراتها العشوائية والمُتحفِّظة على نحوٍ غير معتاد في تقويض "مساعيها الرادعة".
روسيا لعبت بأوراقها جيداً.. وأمريكا أكبر الخاسرين
روسيا بدورها لعبت بأوراقها جيداً، إذ ردَّت موسكو على إسقاط تركيا مقاتلة روسية في 2015 من خلال قطع العلاقات الاقتصادية ثُمَّ بالتعبير عن الدعم حين شعر الرئيس التركي بأكبر درجة من التهديد بعد محاولة انقلابية في يوليو/تموز 2016. وبعد الانقلاب الفاشل، عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تدريجياً إعادة بدء الحوار والعلاقات الاقتصادية، واتفق بوتين وأردوغان على صفقة صواريخ S-400 في 2017 كإثبات حسن نوايا.
كان بوتين يعرف أنَّ صواريخ S-400 تُلبِّي عديداً من المصالح للرئيس التركي الذي يتزايد قلقه من الولايات المتحدة، ومن بين تلك المصالح توفير قدرات دفاعية قوية يمكن أن تساعد أردوغان ضد التهديدات المستقبلية، وورقة ضغط لاستخدامها الولايات المتحدة لإظهار استياء أردوغان من تدهور العلاقات وما يُنظَر إليه باعتباره دعماً أمريكياً ضمنياً للمحاولة الانقلابية، ووسيلة لتقوية موقف تركيا التفاوضي مع واشنطن بشأن سوريا والقضايا الإقليمية الأخرى.
وتقول "الفورين بوليسي" إن ما حدث بعد ذلك جاء عكس ما تتوقع تركيا، إذ امتنعت الولايات المتحدة عن إرسال المقاتلة F-35، إلى بيئة تعمل فيها منظومة S-400، إذ ستُقوِّض المنظومة الروسية، مقاتلات F-35 والأصول الأمريكية المهمة الأخرى المنتشرة في أرجاء تركيا.
ما الذي تخشاه واشنطن في منظومة الدفاع الروسية؟
تُعَد قدرات المقاتلة F-35 سراً أمريكياً شديد الحماية، ولا تتشاركها إلا مع أقرب الحلفاء. لكنَّ نشر تركيا منظومة S-400، التي يُرجَّح ان تعمل بالقرب من مقاتلات F-35 التركية، يمكن أن يمنح المنظومة الروسية القدرة على جمع المعلومات عن كيفية عمل المقاتلة الأمريكية. وهذا لأنَّ منظومة S-400 على الأرجح ستحتاج الاتصال بعديد من المنظومات، مثل رابط البيانات التكتيكي المعروف بـLink 16 (الذي يستخدمه حلف الناتو) وأنظمة تعريف العدو والصديق، التي من شأنها ضمان إمكانية تحليق مقاتلات F-35 التركية قرب منظومة S-400 التركية دون أن تتعرَّض للإسقاط.
وفي ظل وجود مواطنين روس على الأرجح يقومون على صيانة ودعم، بل حتى تشغيل، منظومة S-400 التركية، قد يسمح هذا لروسيا بجمع معلوماتٍ عن مقاتلة F-35، التي ستسمح لمنظومة S-400، من خلال تحليقها المنتظم بالقرب منها، بفهم الخصائص الشبحية للمقاتلة بصورة أفضل.
وفي النهاية، اعتبرت إدارة ترامب أنَّ تركيا لا مكان لها في برنامج F-35 إذا شُغِّلَت منظومة S-400 هناك، فبحسب وجهة النظر الأمريكية، تركيا لا يمكنها أن تجمع بين "الأمر ونقيضه".
ترامب غير قادر على ردع حلفائه عن التعامل مع روسيا
أثارت الصفقة التركية تساؤلات أوسع نطاقاً بشأن قدرة إدارة ترامب على ردع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة عن اتخاذ قراراتٍ تتعارض مع المصالح الأمريكية. وكما حدث عند رفض الإدارة التحرُّك ضد القيادة السعودية بعد قتل جمال خاشقجي، اختار الرئيس دونالد ترامب عن قصد رفض فرض أي عقوبات على تركيا، وحاول في الوقت نفسه الحفاظ على العلاقات الودية مع أردوغان. وكي تضمن الولايات المتحدة عدم تكرار انتصار منظومة S-400 الروسية بتركيا في أي مكانٍ آخر، سيتعين عليها أن تكون أكثر وضوحاً ودقة في ردها على القرار التركي، كما تقول المجلة الأمريكية.
لم يكن إعلان وزارة الدفاع الأمريكية في 17 يوليو/تموز الماضي، عدم استمرار مشاركة تركيا في برنامج F-35 مفاجئاً، لكنَّه جاء متأخراً ويفتقد عديداً من العناصر الرئيسية، من وجهة نظر المجلة الأمريكية. ففي الوقت الذي كانت فيه الطائرات الروسية تهبط في تركيا ليلاً ونهاراً حاملةً تجهيزات منظومة S-400 طوال شهر يوليو/تموز، ظل المسؤولون الأمريكيون إلى حدٍ كبير محجمين عن اتخاذ ردٍّ على تصرفات موسكو.
ينبع هذا إلى حدٍ كبير من الموقف المتضارب من البيت الأبيض تجاه الكرملين؛ فردوده غالباً ما خُفِّفَت وطأتها، بسبب تردد ترامب الغريب في استهداف روسيا مباشرةً.
تقوم العقوبات الأمريكية على مبيعات الدفاع الروسية الواردة في قانون التصدي لخصوم أمريكا عبر العقوبات "على أساس نموذج العقوبات الأمريكية على مبيعات النفط الإيراني". فبدلاً من استهداف قطاع الدفاع الروسي مباشرةً –تخضع صناعة الدفاع الروسية بالفعل لعقوبات قوية- يستخدم القانون أداةً تُسمَّى العقوبات الثانوية، والتي تتطلَّب فرض الحكومة الأمريكية عقوبات على الأطراف الثالثة التي تُجري معاملات كبيرة مع قطاع الدفاع الروسي. ومن الواضح أنَّ صفقة شراء تركيا منظومة S-400، بقيمة 2.5 مليار دولار، تُلبِّي هذا الاشتراط.
أمريكا لم تستطع توجيه أي عقوبات لتركيا
وفي حال كانت إدارة ترامب أكثر براعة في تطبيقها لقانون التصدي لخصوم أمريكا عبر العقوبات، كان من الممكن أن تستخدم التهديد بالعقوبات بصورة أكثر وضوحاً لإثناء تركيا عن شراء منظومة S-400، وهي خطوة كان من شأنها تقييد القطاع الدفاعي الروسي.
لكنَّ إدارة ترامب ترددت. فهي لم تُنسِّق يوماً مزيج الضغط والسلطة المعنوية الضرورية لإقناع أنقرة برفض منظومة S-400. لقد نجحت العقوبات الثانوية على قطاع النفط الإيراني في سنوات أوباما، لأنَّ الإدارة نجحت في عزل إيران وأوجدت رابطاً بين مبيعاتها النفطية وبرنامجها النووي. وعلى نقيض ذلك، امتدح ترامب روسيا مراراً، مُقوِّضاً مصداقية أي تهديدٍ بفرض العقوبات الثانوية على البلدان التي تشتري الأسلحة الروسية.
اعتمدت تركيا على اعتقادها أنَّ ترامب لديه علاقة إيجابية مع أردوغان ولن يستخدم أبداً العقوبات ضد حليفٍ رئيسي للولايات المتحدة. وأثبت هذا الافتراض صحته حتى الآن، بعدما رفض ترامب مراراً نصيحة بعض مستشاريه بفرض عقوباتٍ على تركيا، وأرسل إشارات بأنَّه ليس مهتماً بمعاقبة تركيا بسبب الصفقة.
وفي المقابل، التمس ترامب العذر لأردوغان وحمَّل المسؤولية لإدارة أوباما، قائلاً: "لا ألوم تركيا، لأنَّ هناك كثيراً من الظروف وكثيراً من المشكلات التي حدثت إبَّان إدارة أوباما". لكن في أثناء ذلك، لم تُثقِل إدارة ترامب العلاقات الأمريكية-التركية بعبءٍ ثقيل وحسب، بل أرسلت كذلك إشارة إلى المشترين المحتملين الآخرين للعتاد الروسي، مفادها أنَّه يمكنهم المضي قُدُماً في مسعاهم، وأنَّ مخاطرة تعرُّضهم للعقوبات ضئيلة في حال أقدموا على عمليات شراء كبيرة من معدات الدفاع الروسية.
واشنطن تخسر على كلتا الحالتين
تقول المجلة الأمريكية إن "إدارة ترامب تخاطر عملياً بمنح الكرملين ضوءاً أخضر لاستغلال المبيعات الدفاعية لحلفاء وشركات الولايات المتحدة لدق إسفينٍ بينهم وبين الولايات المتحدة حول العالم. فالسعودية وقطر والهند جميعها في طور مباحثاتٍ متقدمة مع روسيا بشأن شراء منظومة S-400، وتراقب تلك الدول من كثب، كيفية تعامل إدارة ترامب مع عقوبات قانون التصدي لخصوم أمريكا، في حين تُقيِّم المخاطر والمنافع المحتملة من جرَّاء السعي لامتلاك منظومات الدفاع الروسية".
لقد وضع البيت الأبيض نفسه في موقفٍ لن يخرج منه رابحاً. وإذا امتنع عن فرض أي عقوباتٍ على تركيا، فسيُقوِّض بدرجة أكبر، قانون التصدي لخصوم أمريكا، ويكشف أنَّ تهديداته فارغة، ويثير غضب الكونغرس. لكن في حال مضى قدماً في فرض عقوباتٍ قوية، فإنَّه سيُسمِّم العلاقات الأمريكية-التركية أكثر ولن يؤدي إلا إلى مصلحة موسكو، التي ستُقدِّم نفسها بعد ذلك باعتبارها المنقذة من خلال التقدُّم لمساعدة تركيا.
وتقول "الفورين بوليسي" إنه لم يكن مفاجئاً أنَّ روسيا أتبعت على الفور إعلانها تسليم منظومة S-400، بالقول إنَّها ستعرض على تركيا بيعها مقاتلة روسية، غالباً سوخوي 35 (Su-35)، بديلاً للمقاتلة الأمريكية F-35. وإذا حدثت صفقة كهذه، فيصعب تصور استمرار تركيا في ادعاء أنَّها قابلة للتكامل والتشغيل المتداخل مع الناتو. وستكون الخطوات التي تتخذها واشنطن في الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة، لضمان عدم تقويض المصالح الأمريكية أكثر من جرَّاء التصرفات التركية والروسية.
وبعد الفشل في تجنُّب الصفقة، فإنَّ أقل الخيارات سوءاً الآن هو فرض عقوبات محدودة النطاق عمداً على تركيا، لكنَّ ضرراً كبيراً قد وقع بالفعل. وكما هو الحال مع معظم الأسهم في جعبة السياسة الخارجية الأمريكية، فإنَّ العقوبات فعالة في تغيير السلوك المستقبلي أكثر من التراجع عن سلوكيات الماضي. كان قانون التصدي لخصوم أمريكا عبر العقوبات، من خلال تهديده علناً بفرض عقوبات على أي مشترين للأسلحة الروسية، مُصمَّماً لتجنّْب حدوث صفقاتٍ مثل شراء تركيا منظومة S-400 من الأساس. لكن بعد الفشل في تطبيق القانون بفاعلية على مدار العامين الماضيين، فوَّتت إدارة ترامب فرصتها لوقف شراء تركيا منظومة S-400، وعلى الأرجح جرَّأت بلداناً حليفة لها أخرى على القيام بصفقاتٍ مماثلة مع روسيا.