على غرار مهاتير محمد.. أردوغان يعبر بالليرة اختباراً صعباً 

عربي بوست
تم النشر: 2019/07/28 الساعة 23:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/28 الساعة 23:00 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان/رويترز

عبرت الليرة التركية اختباراً صعباً نهاية الأسبوع الماضي إثر تحسن قيمتها أمام الدولار رغم التخفيض الكبير في سعر الفائدة الأساسي للعملة التركية.

وعادة يفترض أن تخفيض سعر الفائدة يؤدي إلى تقليل الإقبال على السندات المالية وغيرها من الأوراق المالية الصادرة بهذه العملة، وبالتالي يحمل مخاطر بأن يجعل العملة معرضة للانخفاض خاصة إذا كانت الأوضاع الاقتصادية والسياسية غير مستقرة.

ولكن المشكلة أن سعر الفائدة المرتفع يقلل من الاستثمارات في البلاد لأنه يشجع الناس على وضع أموالها في البنوك ويصعب عملية الاقتراض اللازمة للاستثمار.

وكان الاختبار الذي عبرت منه الليرة صعباً في ظل تقارير إعلامية غربية سلبية حول الخطوات الأخيرة التي اتخذها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقدمتها إقالة محافظ البنك المركزي التركي قبل ثلاثة أسابيع وتعيين نائبه محله.

تخفيض كبير فاق التوقعات

وكان يفترض أن حدة التخفيض سيكون له أثر سلبي على الليرة ولكن هذا لم يحدث، رغم أن التخفيض جاء أكثر من توقعات عدد المحللين.

 إذ هبطت العملة التركية بمقدار 425 نقطة أساس لتنخفض الفائدة على الليرة التركية إلى 19.75٪، من 24 % بينما كانت نسبة كبيرة من المحللين تتوقع أن تتراجع الفائدة إلى نسبة 21.5 ٪ فقط.

وعلى الرغم من ذلك، مازال لدى تركيا واحد من أعلى أسعار الفائدة على مستوى العالم، وبالتالي من المتوقع أن تظل تدفقات السندات ثابتة.

وفي المستقبل، سيكون التركيز على بيانات التضخم وتأثير الخفض عليها.

وعلى الرغم من العديد من التقارير الإعلامية السلبية السابقة على القرار، نظرت الأسواق بإيجابية إلى الخفض وقد يكون السبب أن التخفيض جاء أدنى مما افترض البعض أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيطلبه.

تخفيض سعر الفائدة جاء في وقت تواجه فيه تركيا أزمة مع أمريكا بسبب الطائرة أف 35/ Getty

إذ افترض البعض أن موقف أردوغان المنتقد للفائدة المرتفعة سيدفعه للضغط على البنك المركزي لخفض الفائدة بمعدل 800 نقطة (8 %) ولكن على العكس بدا أردوغان مرتاحاً لوتيرة الخفض.

فبعد يوم من التخفيض، قال أردوغان إن قرار البنك المركزي التركي بخفض أسعار الفائدة كان "أمراً حيوياً" ، مضيفاً أن تخفيف السياسة النقدية يجب أن يستمر بخطى تدريجية.

واستأنفت الليرة، التي ازدادت قوة يوم الخميس بعد خفض الفائدة، ارتفاعها بعد تصريحات أردوغان، وارتفعت يوم الجمعة عند 5.65 مقابل الدولار، مرتفعة عن إغلاق يوم الخميس عند 5.70. في وقت سابق ثم ارتفعت مجدداً إلى 5.62.

وقال أردوغان في حديثه لرؤساء المقاطعات في حزب العدالة والتنمية يوم الجمعة، إن أسعار الفائدة المرتفعة هي أكبر عقبة أمام الاقتصاد التركي، الذي وصل إلى الركود بعد أزمة العملة في العام الماضي.

وقال "لقد أعربت دائماً عن انزعاجي من [أسعار الفائدة المرتفعة] لسنوات. لسوء الحظ، لم نتمكن من نقل ذلك إلى محافظي البنوك المركزية في تلك الأوقات"، مضيفاً أن المحافظين استخدموا "تكتيكات المماطلة"، حسب تعبيره.

وقال جيسون توفي كبير الاقتصاديين في الأسواق الناشئة لدى كابيتال إيكونوميكس إن حركة العملة يوم الجمعة كانت استجابة لتعليقات أردوغان حول خفض أسعار الفائدة تدريجياً.

وأضاف "حقيقة أن أردوغان دعا إلى خفض أسعار الفائدة تدريجياً تختلف عن تعليقه السابق حول خفض أسعار الفائدة بشكل حاد". "في حين ستكون هناك تخفيضات حادة هذا العام ، فسيتعين على البنك عكس المسار العام المقبل أو في عام 2021 إذا تعرضت الليرة لضغوط متجددة، أو إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على  أنقرة".

واللافت أن هذا التحسن في الليرة جاء بعد أن أعلنت الولايات المتحدة استبعاد أنقرة من مشروع الطائرة F 35 وتلويح تركيا باللجوء للأمم المتحدة، ولكن الولايات المتحدة أبلغت تركيا أنها ليست بصدد فرض عقوبات عليها بسبب صفقة صواريخ إس 400 الروسية.

 كما جاء هذا الارتفاع بعد انتقادات لعزل المحافظ السابق للبنك المركزي التركي

وقال أردوغان، الذي يصف أسعار الفائدة في كثير من الأحيان بأنها "شريرة"، إنه عزل المحافظ السابق للبنك المركزي التركي مراد سيتينكايا لأنه لم يتبع التعليمات المتعلقة بالسياسة النقدية.

وقد أدى هذا إلى تجدد المخاوف بشأن استقلال البنك المركزي في عهد أردوغان، وساهمت مخاوف مماثلة في عمليات بيع الليرة في العام الماضي – الأمر الذي أدى إلى انخفاض العملة بنحو 30 في المائة سنوياً. كما انخفض نحو 6% هذا العام.

ولكن رغم كل المخاوف، يبدو أن الأسواق تعاملت بإيجابية بعد أن استجاب محافظ البنك المركزي التركي الجديد لطلب أردوغان الملح بتخفيض سعر الفائدة.

تركيا أمريكا منظومة إس-400 ترامب
تدهور الليرة العام الماضي جاء في خضم أزمة بين تركيا وأمريكا/رويترز

وساعد على ذلك أن التضخم في تركيا، الذي سجل أعلى مستوى في 16 عاماً في أعقاب أزمة الليرة العام الماضي، قد انخفض إلى ما يقل قليلاً عن 16% في يونيو/حزيران 2019، مما فتح الباب أمام البنك المركزي لبدء التخفيف لأول مرة منذ أكثر من أربع سنوات.

وكان الخلاف الرئيسي بين محافظ البنك المركزي التركي وأردوغان هو بسبب سعر الفائدة، إذ انتقد أردوغان أسعار الفائدة المرتفعة في بلاده والتي أدت إلى انزلاق الاقتصاد لركود لأول مرة منذ عقود، في المقابل دافع محافظ البنك المركزي عن سياسته باعتبار أنها ضرورية للمحافظة على قيمة العملة والتضخم.

وهو خلاف تقليدي في العديد من الدول ومنها الولايات المتحدة التي ضغط رئيسها دونالد ترامب على محافظ الاحتياط الفيدرالي لتخفيض سعر الفائدة على الدولار أمام العملات الأخرى لزيادة تنافسية صادرات بلاده حتى أن ترامب لوح بإقالة رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي.

 أردوغان يؤمن أن خفض الفائدة سيقلل التضخم

وكرر أردوغان يوم الجمعة وجهة نظره غير التقليدية بأن التضخم سينخفض ​​مع انخفاض أسعار الفائدة، مضيفاً أنه يتوقع انتعاشاً اقتصادياً أقوى في النصف الثاني من العام.

وبينما تواجه وجهة النظر هذه بانتقادات عادة، فإن زعيماً ذا شخصية مشابهة لأردوغان اتبع تكتيكات غير تقليدية ومرفوضة من قبل المؤسسات المالية العالمية ولكنها أنقذت بلاده من أزمة اقتصادية حادة.

ففي أثناء الأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات، رفض مهاتير محمد نصائح المؤسسات المالية الدولية، التي تدعو لتحرير العملة وتخفيض سعر الصرف وفرض سياسات اقتصادية انكماشية.

وعلى العكس ركز على السيطرة على عمليات المضاربة على العملة الوطنية، والتحكم في سعر الصرف خلال الأزمة واتباع سياسة التوسع الاقتصادي لخلق الثقة والنتيجة أن بلاده كانت أولى دول المنطقة خروجاً من أزمتها ولم تعتمد على قروض صندوق النقد الدولي.

ومع الاختلاف في الظروف وطبيعة الأزمة، فإن أردوغان يواجه انتقادات مشابهة لتلك التي واجهها مهاتير محمد في ذلك الوقت، كما أنه يريد اتباع سياسات مشابهة تركز على تحفيز النمو عبر تخفيض سعر الفائدة.

الخبير الاقتصادي المصري هاني توفيق أشاد بخطوة تركيا، ورفض آراء كثير من الخبراء الاقتصاديين الذي يرون أن العملة ترتفع بارتفاع الفائدة بل يرى أن العملة ترتفع بتركيز الدولة في الاستثمار الحقيقي، وتشجيع الإنتاج وليس في استقطاب الأموال الساخنة عبر رفع سعر الفائدة، مطالباً البنك المركزي المصري باتباع سياسات مماثلة.

ويرى توفيق أن رفع سعر الفائدة في الحالة المصرية كان خطأً، قائلاً "رفع سعر الفائدة كان أساساً خطأً. أنت ترفع سعر الفائدة فقط في حالة ما إذا كان التضخم ناتجاً عن الانتعاش الاقتصادي وزيادة الطلب، في حين تضخمنا نشأ عن التعويم، ورفع الفائدة في هذه الحالة يؤدي لمزيد من الركود.

 اختفاء العجز

وبينما يتخوف البعض من عودة مشكلات تراجع سعر الليرة أو التضخم فإن تقارير اقتصادية تشير إلى أن الركود الذي شهدته البلاد تسبب في اختفاء العجز في الحساب الجاري للبلاد، والذي كان ينظر إليه على أنه نقطة ضعف كبيرة في اقتصاد البلاد.

وفي الوقت ذاته فإن انخفاض الليرة خلال السنة الفائتة عزز تنافسية الصادرات التركية لاسيما الخدمات وقلل الواردات.

ويمثل انخفاض سعر العملة عملية تصحيح قسرية للاقتصاد في أي دولة.

فالمبالغة في الاعتماد على التصدير وغيره من أسباب عجز الميزان الجاري ؤدي إلى خفض العملة الذي يقلل القوة الشرائية للمواطنين ولكنه يزيد تنافسية الصادرات ويقلل الواردات وبالتالي يسمح في حالة الدول التي تملك بنية إنتاجية قوية مثل تركيا بإعطاء دفعة للصادرات وهذا من شأنه منع تدهور العملة.

ولذا تتنافس كثير من دول العالم على تخفيض العملة لأن من شأن ذلك تعزيز صادراتها، ولكن الأمر يحتاج إلى يكون الإنخفاض محدوداً لضمان عدم اشتعال التضخم.

ولكن في حالات دولة كثيرة فإن إنخفاض قيمة العملة بشكل كبير يمكن أن يؤدي إلى دورة من النمو في الدول التي تمتلك بنية إنتاجية جيدة.

السياسة أم الاقتصاد

ولكن يظل هذا الوضع مرتبطاً بحكومة لديها رؤية وجرأة مثلما حدث مع ماليزيا، وهو ما يتوفر لدى تركيا، ولكن يبقى هناك شرط أصعب لدى أنقرة هي أثر السياسات الخارجية.

فالاقتصادات المنفتحة على العالم مثل تركيا وماليزيا تكون اقتصاداتها حساسة لطبيعة العلاقات مع الكتل الرئيسية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وأمريكا والصين وحتى روسيا.

وفي حالة ماليزيا ورغم أن مهاتير محمد ينتهج سياسات استقلالية وينتقد الغرب بحدة كأردوغان، كما أن مواقفه من القضية الفلسطينية تغضب الغرب، إلا أن موقع ماليزيا الجغرافي ليس شائكاً مثل تركيا.

كما أن أردوغان يرفض أن تعامل هذه الدول الكبرى دولته كشريك من المستوى الثاني وبالتالي يحاول تجاهل تأثير التوتر في العلاقات مع هذه الكتل على الاقتصاد.

فهو لا يتقبل أن يكون الاقتصاد ورقة مساومة من قبلهم في التفاوض مع تركيا، رغم أن دولاً أقوى اقتصاداً من تركيا مثل اليابان وكوريا الشمالية تنصاع للولايات المتحدة وتقبل أن تكون شريكاً من المستوى الثاني.

 ولكن يبدو الجمع بين المسارين صعباً؛ أن تكون منفتحاً على أسواق المال العالمية وأن تحافظ على مصالح بلادك وتطلب أن تعامل بالمثل أو كقرين.

غير أنها تجربة تستحق خوضها أي محاولة الجمع بين الاستقلالية السياسية والانفتاح الاقتصادي، ففي النهاية سيذهب المستثمرون للدولة التي توفر لهم ظروفاً ملائمة لاستثماراتهم وليس الدولة التي تعجبها سياستهم.

تحميل المزيد