بعدما أحكم النظام السوري سيطرته على المدن التي سقطت من يديه لصالح المعارضة، بدأ الأسد في البحث عن تمويل مالي يضمن بقاءه عقب العقوبات التي فُرضت على إيران، وكانت مهمة هذه المرة تجاه أصحاب المصانع الذين دعموه في البداية.
وبحسب تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية، نجا مصنع طارق الذي يسوده الصخب، من أسوأ ويلات الحرب الأهلية السورية التي استمرت ثماني سنوات. وكان المصنع يوظِّف العمال مرة أخرى، على أمل حصول الشركة على عقود مجزية بالتزامن مع بدء إعادة إعمار البلاد. ولكن سرعان ما وجدت صناعته نفسها أمام خصم جديد؛ إنه وزارة المالية التابعة للنظام السوري.
يقول طارق، الذي يزعم أن المحاسبين الحكوميين بالغوا في تقدير ربح شركته من أجل زيادة فاتورته الضريبية: "لقد حلّوا على مكاتبنا، كانوا نحو 20 شخصاً، وكانوا يفتّشون في كل وثيقة؛ بحثاً عن أي شيء يفرضون علينا غرامة بموجبه. إنهم ليسوا مُحترفين، إنهم مافيا!".
البحث عن مصدر للمال
ويسعى نظام بشار الأسد الاستبدادي إلى إعادة ملء خزائنه الخاوية، بعد أن استعاد أجزاء سوريا التي كانت في قبضة قوات المعارضة، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى المساعدة الروسية والإيرانية. غير أن القائمين على الصناعة في سوريا يقولون إنهم صاروا الآن فريسة للهيئات الحكومية المتوحشّة الساعية للحصول على الأموال، بحسب الصحيفة البريطانية.
ويحذّر المحللون من أن الاستيلاء على المال يعوق الانتعاش الاقتصادي، ويحول دون الاستثمار اللازم لإعادة الإعمار، وهو ما قد يقوض في النهاية دعم الأعمال التجارية للنظام نفسه؛ قال سامي نادر، مدير الأبحاث بمعهد ليفانت للشؤون الاستراتيجية: "نعم، سيعيق هذا عملية إعادة الإعمار، وأعتقد أيضاً أنه سيعرّض النظام للخطر".
وبطبيعة الحال، لطالما استمدت عائلة الأسد الدعم من أقليّة الطائفة العلوية التي ينتمون إليها. ولكن عندما تقلّد بشّار المنصب خلفاً لأبيه في عام 2000، رفع من مستوى دعمه في أوساط الصناعيين التي كان يهيمن عليها السنَّة -وهي طائفة الأغلبية في سوريا- من خلال وعده بفتح أفق الاقتصاد السوري أمام الاستثمار الخارجي، وفقدان دعم هؤلاء، سواء كان ذلك ضمنياً أو صريحاً، من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من تآكل قاعدة سلطة الأسد. ويقول نادر إن "الأسد ما زال بحاجة إلى دعم السُّنة والنخبة، وأنا لا أراهم يحصلون على حافزٍ لدعمه".
محاولة إعادة البنية التحتية
وأدَّت الحرب الأهلية، التي أودت بحياة نصف مليون شخص تقريباً، إلى تدمير البنية التحتية السورية. وبينما دفع النظام بالاستثمار في إعادة الإعمار مستعيناً بحلفائه العسكريين روسيا وإيران، ورحب بوفود رجال الأعمال من الصين، وهي حليف سياسي للبلاد، لم تكن هناك سوى علامات خافتة على وفود الاستثمار الأجنبي، كما أن طريقة تمويل إعادة الإعمار على نطاق واسع ليست واضحة.
يخضع النظام أيضاً لضغوط مالية هائلة؛ حيث أدت العقوبات الأمريكية المتجددة على إيران إلى زيادة الضغط على الوضع المالي للنظام، لا سيما من خلال تعطيل الخط الائتماني الإيراني لدمشق، وإمدادات النفط من طهران. وقال مسؤولون سوريون إن القروض سمحت لسوريا بشراء وقود وبضائع أخرى بقيمة خمسة مليارات دولار من إيران منذ عام 2013، ولكن قوات مشاة البحرية البريطانية قد تحفّظت خلال هذا الشهر على ناقلة نفط إيرانية، قالت المملكة المتحدة إنها كانت متجهة إلى سوريا، وردَّت إيران بالاستيلاء على ناقلة ترفع علم المملكة المتحدة، بحسب الصحيفة البريطانية.
وموَّل الأسد جهوده الحربية جزئياً من خلال استغلال ما لدى الموالين الأثرياء من أموال؛ وضمن ذلك عمالقة تجارة المعادن ورجال الأعمال الذين يسهّلون تجارة النفط والغاز مع سوريا، ولكن عديداً منهم تضرروا بفعل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عليهم؛ من جراء دعم النظام.
الميزانية انهارت
وقد انخفضت ميزانية الحكومة السنوية إلى النصف منذ اندلاع الحرب؛ حيث تراجعت من 18 مليار دولار في عام 2011 إلى 9 مليارات دولار في عام 2018. ومن المحتمل أن تكون النفقات الفعلية أقل من هذه الأرقام؛ حيث تشير تقديرات خبراء إلى أنه لم يتم الإيفاء إلا بنصف متطلّبات الموازنة، وتفيد التقارير بأن الفساد بين موظفي الحكومة الذين يسعون إلى زيادة الرواتب الهزيلة متفشٍ على نطاق واسع.
وبينما تمارس الحكومة الضغط على الشركات المحلية، فإن الصناعة الثقيلة وتجار الجملة نصب أعينها أيضاً.
ويقول أحد أصحاب الشركات في سوريا للصحيفة البريطانية، وقد ذكر أنه تلقّى مطالب بدفع غرامة تكبّدتها شركة أبيه المتوفّى منذ أكثر من 15 سنة: "إنه نظام منهجي، والحكومة تطارد كل قرش"، وفي ظل هذا الوضع، إلى جانب استمرار حالة عدم الاستقرار ونقص رأس المال، فضلاً عن العقوبات الدولية، يقول: "من غير المرجّح أن يفكّر أي شخص ذي حيثية أن يستثمر في سوريا".
وقال رجل أعمال سوري: "تحاول الدولة جمع الأموال لنفسها، وتسعى الجمارك لإفراغ جيوبنا باستمرار".
القوانين عاجزة عن مساعدة السوريين
وقال عبدالناصر الشيخ فتوح، رئيس غرفة تجارة حمص، إن الشركات تتعافى ببطء، بفضل تحسُّن الأمن في عديد من الأماكن، لكنه دعا الحكومة إلى بذل مزيد من الجهد، وقال: "نحن بحاجة إلى مجموعة من القوانين الشجاعة التي تجذب الاستثمارات وتساعد الشركات على النمو بسرعة".
وتبددت الآمال بأن تسهم إعادة فتح معبر حدودي رئيسي بين سوريا والأردن في أواخر عام 2018، في تعزيز إيرادات التجارة والجمارك؛ إذ يقول أحد المستوردين السوريين إن الرسوم المفروضة على الشاحنات التي تدخل سوريا عبر معبر نصيب الحدودي قد ارتفعت من 100 دولار إلى 800 دولار.
وقال الشيخ فتوح، بلهجة حريصة على عدم انتقاد النظام، إن قادة الأعمال التقوا مؤخراً مسؤولي مكتب رئيس الوزراء، للمطالبة بسن قوانين جديدة تنظم الاستثمار. وقال إن المجموعات المعنية بالأعمال تحتاج اتخاذ قرارات حول كيفية إدارة الاقتصاد والمساعدة في تحمُّل تكلفة القروض التي تم الحصول عليها قبل الحرب. وقال: "أولئك الذين لم يغادروا البلاد قط يستحقون أن تكون لهم الأولوية، وبعد كل شيء، لا يمكن إعادة بناء سوريا إلا على أيدي السوريين".