بعد تسلُّم تركيا لأول دفعةٍ من منظومة الدفاع الجوي S-400 الجديدة، خسرت الولايات المتحدة لعبتها مع أنقرة. إذ أصبحت تركيا الآن أول دولةٍ في حلف الناتو تشتري منصة أسلحةٍ استراتيجية من روسيا، رغم الاعتراضات الأمريكية الشديدة. بالرغم من محاولات العديد من المؤسسات الأمريكية، مثل وزارة الدفاع ووزارة الخارجية والكونغرس، لأكثر من عامين لإثناء تركيا عن شراء المنظومة.
وفي حين يتعامل حلف الناتو مع روسيا بوصفها تهديداً استراتيجياً، عقدت تركيا -عضوة الناتو- صفقةً مع روسيا لتلبية مصالح أمنها القومي. وضربت روسيا بذلك عصفورين بحجرٍ واحد؛ دخلت سوق الأسلحة الدفاعية لحلف الناتو، وأحدثت صدعاً في علاقات التحالف العابر للمحيط الأطلسي، كما يقول مراد يشلتاش، مدير الدراسات الأمنية في مركز سيتا للأبحاث في أنقرة، بمقالة نشرت له في موقع Lobe Log الأمريكي.
منظومة الـS-400 وتداعياتها
وطَّدت أنقرة علاقاتها مع موسكو، بإصرارها على صفقة منظومة الـS-400 الروسية، التي من المعروف أنَّها غير متوافقةٍ مع المتطلبات الأمنية والدفاعية للناتو. وأكَّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مراراً وتكراراً على أنَّ تركيا وروسيا ستزيدان التعاون الدفاعي، عن طريق العمل على الإنتاج المُشترك لبدائل صواريخ S-400.
وشدَّد أيضاً في أكثر من مناسبةٍ على أنَّ تركيا ستحصل في النهاية على الجيل التالي من منظومة الدفاع الجوي الصاروخي S-500 روسية الصنع. ووصف أردوغان صفقة شراء أنقرة لمنظومة S-400 بأنَّها واحدةٌ من أهم اتفاقيات الدفاع، التي وقَّعت عليها تركيا في تاريخها. ومن الواضح أنَّه ينظر للأمر باعتباره أكثر أهميةً من مجرد حيازة أسلحةٍ بسيطة.
يقول يلشتاش: علاوةً على المخاوف الجيوسياسية، يتوجَّب على تركيا الحفاظ على علاقة عملٍ جيدة مع روسيا، بسبب أهداف تركيا داخل سوريا. إذ إنَّ هناك اثنين من القضايا البالغة الأهمية بالنسبة لتركيا داخل سوريا: الحرب ضد ميليشيا "وحدات حماية الشعب" الكردية، المرتبطة بـ "حزب العمال الكردستاني" التركي المحظور داخل شمالي سوريا، والوجود العسكري التركي في محافظة إدلب السورية. ولا تعتمد تركيا على روسيا داخل سوريا، لكنها بحاجةٍ إلى إدارة علاقاتها مع روسيا والولايات المتحدة من أجل تسهيل عملياتها هناك.
وفيما يتعلَّق بالولايات المتحدة، فإنَّ حصول تركيا على منظومة الـS-400 أثار مخاطر العقوبات بموجب "قانون مكافحة خصوم أمريكا بالعقوبات"، الذي صدر عام 2017. إذ ستُضطر أنقرة للاستمرار في التعامل مع روسيا من أجل صيانة وتطوير وتشغيل أنظمة الـS-400 التي تسلَّمتها، مما سيُؤدِّي على الأرجح إلى ردٍّ فعلٍ عكسي من عقوبات "قانون مكافحة خصوم أمريكا بالعقوبات" ضد تركيا.
خيارات ترامب مقيّدة أمام تركيا
وتُواجه أنقرة بالفعل خطر الاستبعاد من برنامج طائرات F-35 المُقاتلة، وهو الأمر الذي سيشمل إلغاء الصفقة التركية لشراء مُقاتلات F-35، واستبعاد شركات الدفاع التركية من عمليات إنتاج المُقاتلات. ومن شأن ذلك الاستبعاد أن يُكلِّف تلك الشركات مليارات الدولارات من عائداتها.
وأصبحت خيارات ترامب مُقيَّدةً بالإطار القانوني لـ "قانون مكافحة خصوم أمريكا بالعقوبات". وحتى في حال أراد إلغاء العقوبات لدواعي الأمن القومي؛ يستطيع الكونغرس -بدعمٍ من الحزبين- أن يتجاوز قراره ويفرض العقوبات على كل حال. وهذا من شأنه أن يدفع تركيا إلى تحركٍ مضاد للولايات المتحدة.
وليس من المستبعد أن يُجبر ترامب قريباً على تغيير موقفه ودعم العقوبات، نظراً للمعارضة المؤسسية تُجاه تركيا داخل واشنطن في الوقت الحالي. ومن شأن ذلك أن يُمهِّد الطريق أمام الردود التركية المحتملة، والتي ستزيد الصدع في العلاقات التركية-الأمريكية.
وشدَّد القادة الأتراك على أنَّ رؤية تركيا الجيوسياسية، بخصوص علاقاتها مع بقية أعضاء الناتو، لا تزال على حالها. ولكن يبدو وكأنَّ العلاقات التركية-الأمريكية تتدهور، بسبب صفقة شراء أسلحة الدفاع الاستراتيجي الأخيرة التي عقدتها أنقرة، والعديد من خلافات السياسة الأجنبية والأمنية بين أنقرة وواشنطن حول القضايا الإقليمية في الشرق الأوسط.
تقديرات الولايات المتحدة الخاطئة
كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ لم تتداعَ العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بسبب منظومة أسلحةٍ واحدة، بل يشمل الأمر عدداً من التقديرات الأمريكية الخاطئة لأهداف تركيا الأمنية.
تضارب السياسات الخارجية
1- أول تلك التقديرات الخاطئة وأهمها يشمل سوء تفسير واشنطن لتحوُّل في فكر السياسة الخارجية التركية. فمنذ اندلاع الربيع العربي عام 2011 وتحوُّل الحرب السورية إلى حرب إقليمية؛ تبنَّت تركيا تدريجياً سياسةً أمنية يُحركها الجيش على حدودها القريبة، مع سوريا تحديداً.
ففي بداية الصراع السوري، كانت تركيا تتشارك الأهداف الاستراتيجية مع الولايات المتحدة فيما يتعلَّق بمستقبل سوريا. إذ كان البلدان يهدفان إلى تقويض نظام الأسد وإعادة تشكيل سوريا في المشهد الإقليمي الجيوسياسي. وفشل البلدان في تحقيق أهدافهما الاستراتيجية، لأنَّهما فسَّرا الانتفاضة السورية تفسيراً خاطئاً.
وبمُجرَّد تدخُّل إيران وروسيا تحديداً، تباعدت الأهداف الأمريكية والتركية. إذ حاولت تركيا تجنُّب الآثار غير المباشرة للحرب، في حين حوَّلت الولايات المتحدة سياستها في أعقاب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وأدَّت الجهود الأمريكية لمواجهة داعش إلى خلقِ العديد من التحديات التكتيكية والتشغيلية والاستراتيجية -على المدى البعيد- بالنسبة للسياسات الإقليمية والمُتعلقة بالأمن القومي التركي، وخاصةً بسبب تحالف الولايات المتحدة مع ميليشيا "وحدات حماية الشعب" الكردية السورية، والتي لها علاقة قوية بـ "حزب العمال الكردستاني" التركي المحظور.
واضطرت تركيا لمواجهة التمرد لـ "حزب العمال الكردستاني" داخل تركيا، في حين كانت الولايات المتحدة تدعم الفرع السوري للحزب، مما قوَّض مصالح الأمن القومي التركي في المنطقة بنهاية المطاف.
وفي أعقاب محاولة الانقلاب العسكري التي وقعت داخل تركيا، في يوليو/تموز عام 2016، تغيَّر منظور أنقرة للسياسة الخارجية الأمريكية. إذ كانت الولايات المتحدة تدعم "وحدات حماية الشعب"، التي لها علاقةٌ بـ "حزب العمال الكردستاني"، ولم تدعم أنقرة بإدانة المُخطِّطين للانقلاب أو التعاون بتسليم فتح الله غولن، وهو الرجل الذي تعتقد السلطات التركية أنَّه هو مَن خطَّط للانقلاب.
لكن روسيا، على الجانب الآخر، كانت حاضرةً لتزويد تركيا بأنظمة S-400 رغم إسقاط طائرة Su-24 الهجومية الروسية على يد طائرةٍ مُقاتلة تركية فوق الحدود التركية-السورية، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015.
سوء التقدير الأمريكي للموقف التركي
2- وجاء التقدير الخاطئ الثاني حين شبَّهت الولايات المتحدة موقف تركيا فيما يتعلَّق بمحاولة شراء منظومة الدفاع الصاروخي FD 2000 الصينية، عام 2015، بقرارها شراء أنظمة S-400 عام 2017. واعتقدت واشنطن أنَّ تركيا ستُلغي صفقة الـS-400، على غرار ما فعلته في حالة الأنظمة الصينية، نظراً لمشكلة التشغيل البيني، ورد الفعل المحتمل من الناتو.
لكن تركيا ألغت تعاقدها على منظومة الدفاع الصاروخي FD 2000 بعيدة المدى، من أجل إطلاق مشروع دفاع الجوي الصاروخي الوطني الخاص. علاوةً على ذلك، توصَّلت أنقرة إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ الأنظمة الصينية لم تُثبت تنافسيتها وكفاءتها في المعارك، فضلاً عن أن العرض افتقر إلى تبادل التكنولوجيا. والأهم هو أن تركيا قررت شراء أنظمة S-400 وسط بيئةٍ جيوسياسية مختلفةٍ للغاية، فيما يتعلَّق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، والمشهد الأمني الإقليمي.
فقدان الثقة بواشنطن
3- أما التقدير الخاطئ الثالث، فهو اعتقاد الولايات المتحدة بوجود نوعٍ من التباين بين مؤسسات الدولة التركية، فيما يتعلَّق بالحصول على منظومة الـS-400. لكن ذلك الاعتقاد لم يكن صحيحاً. ورغم أنَّ المؤسسة الأمنية التركية كانت لديها بعض المخاوف بشأن الصدع الجيوسياسي المحتمل بين أنقرة وموسكو حيال مختلف قضايا السياسة الخارجية، لكن تلك المخاوف لم تُمثِّل تحدِّيا استراتيجياً بقدر الضرر الذي أصاب الأمن القومي التركي نتيجة السياسات الأمريكية.
فمنذ عام 2003، فقدت الولايات المتحدة موثوقيتها، بوصفها شريكاً أمنياً استراتيجياً لتركيا. ووُقِّعت صفقة شراء أنظمة الـS-400 جزئياً، لأنَّ العديد من مؤسسات الدولة التركية تشاركت في هذه الرؤية. وفضلاً عن القواسم المشتركة فيما يتعلَّق بأنظمة S-400، فقد تشابهت رؤية أوساط الحكم التركية للتهديد الذي تُمثِّله السياسة الأمريكية في سوريا.
عواقب وخيمة للتصعيد الأمريكي
وفشلت حكومة الولايات المتحدة في إدراك التأثير الذي أحدثته تغييرات الاستراتيجية الأمريكية على التفكير التركي. وبدلاً من فهم المخاوف الأمنية التركية، زادت الولايات المتحدة -وخاصةً الكونغرس- من المخاطر الأمنية لتركيا، عن طريق وضع أنقرة في إطار المنافس وليس الحليف.
ولن يكون عقاب تركيا من خلال التشريعات خطوةً استراتيجةً ذكية، بل في الواقع، سيُمثِّل الأمر خطأً استراتيجياً سيدفع بتركيا إلى زيادة تقاربها مع روسيا. وقد خسرت الولايات المتحدة بالفعل لعبة "الدجاجة" التي كانت تلعبها مع تركيا، فيما يتعلَّق بأنظمة S-400. وحان الوقت لتُعيد المؤسسات الأمريكية النظر في نهجها تُجاه تركيا، وتُحاول إدراك الديناميات المُتغيِّرة للسياسة الخارجية والاعتبارات الأمنية التركية.