عثرت الشرطة الألمانية، في 2 يونيو/حزيران 2019، على رئيس حكومة مركز ومدينة كاسل الألمانية، والتر لوبكه، مقتولاً في شرفة منزله برصاصة في الرأس.
هذه الجريمة تعد أول عملية اغتيال سياسي ذات دوافع يمينية متطرفة في ألمانيا منذ عهد النازية، بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية.
بدأت التهديدات بالقتل في عام 2015، تصل إلى لوبكه، عندما دافع عن سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الخاصة باللاجئين، وبصفته مسؤولاً سياسياً إقليمياً في حزبها المحافظ، كان لوبكه يذهب إلى البلدات الصغيرة في دائرته ويوضح أنَّ الترحيب بأولئك اللاجئين المحتاجين أمر يتعلّق بالقيم المسيحية والألمانية.
بدأت رسائل البريد الإلكتروني البغيضة المفعمة بالكراهية تتدفق على لوبكه. ظهر اسمه على قائمة المستهدفين بالقتل على الموقع الإلكتروني للنازيين الجدد. ونُشر عنوانه الشخصي على مدونة يمينية مُتطرّفة.
ونُشر مقطع فيديو جرى تداوله مئات الآلاف من المرات، إلى جانب الرموز التعبيرية لصور البنادق والمشانق وأحياناً دعوات صريحة لقتله على شاكلة: "اقتلوا هذا الوغد الآن" .
ثم، استجاب شخصٌ ما ونفّذ ذلك.
القاتل اعترف بالجريمة ثم تراجع عن ذلك..
المشتبه به -الذي أدلى باعتراف مُفصّل الشهر الماضي، لكنَّه تراجع عن أقواله الأسبوع الماضي تحت إشراف فريق قانوني جديد- لديه سوابق ارتكاب جرائم عنف مع حركة النازيين الجدد، فضلاً عن سجل إجرامي لدى الشرطة، مما يجدد الانتقادات بأنَّ جهاز الأمن الألماني، بسجله الحافل الطويل من إهمال التطرّف اليميني، لا يزال يفشل في أخذ التهديدات على محمل الجد.
الخلاصة: عاد التشدّد اليميني للظهور مُجدَّداً في ألمانيا، بطرق جديدة وقديمة للغاية، بخطاب مرعب لدولة تفخر بنفسها في التعامل بنزاهة مع ماضيها الإجرامي. أصبحت اللغة الفجَّة المفعمة بالكراهية شائعة بصورة متزايدة على المواقع الإلكترونية، وتتزايد وتيرة تعرّض السياسيين للتهديد، لدرجة أنَّ البعض أصبح يحتاج حالياً إلى الحماية.
قال وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، على شاشة التلفزيون الرسمي مؤخراً: "صدمني مقتل فالتر لوبكه تماماً مثلما صدم كثيراً من الأشخاص"، داعياً الألمان إلى تنظيم احتجاجات أسبوعية ضد التطرف اليميني.
في بريطانيا، توفي النائب العمالي، جو كوكس، بعد إصابته بطلق ناري وتعرّضه للطعن عدة مرات على يد رجل متعاطف مع اليمين المُتطرّف، وذلك قبل أسبوع من استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016.
أما في بولندا، فقد قُتل رئيس بلدية مدينة غدانسك البولندية الليبرالي، بافل أداموفيتش، إثر تعرضه للطعن في شهر يناير/كانون الثاني بعد تعرضه لحملة كراهية ضارية شُنّت ضده وعُرضت على هيئات البث المملوكة للدولة.
نسي الألمان التطرف الداخلي بالتركيز على التطرف القادم من الخارج
أُنشئت وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية، المعروفة باسم المكتب الفيدرالي لحماية الدستور، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بهدف واضح مُتمثّل في منع صعود أي قوى مناهضة للديمقراطية، مثل حزب نازي آخر.
ولكن مع وصول أكثر من مليون مهاجر منذ عام 2015 -وعدد كبير منهم جاء من دول إسلامية- ركَّزت تلك الوكالة الاستخبارتية على مواجهة تهديدات إرهاب التّطرف الإسلامي.
واليوم، تُقدّر الوكالة وجود 24100 متطرف يميني معروف في ألمانيا، من بينهم 12700 يُحتمل أن يكونوا عنيفين. وهناك حوالي 500 أمر اعتقال صادرة بحق مُتطرّفين يمينيين.
ومن جانبه، نفى هورست سيهوفر، وزير الداخلية الألماني الُمشرف على وكالة الاستخبارات الداخلية الألمانية، أنَّ يكون المسؤولون الألمان "تقاعسوا"، لكنَّه أقرَّ بأنَّه كان ينبغي فعل المزيد في قضية لوبكه.
قال سيهوفر: "هذا الاغتيال السياسي يشكل لحظة مهمة، وإشارة من نوع ما؛ لأنَّه موجه ضد ثقافتنا الديمقراطية الحرة" .
وكان المشتبه به، ستيفان إرنست، البالغ من العمر 45 عاماً، معروفاً لدى السلطات. كان إرنست يدور في فلك حزب النازيين الجدد وطعن مهاجراً حتى الموت في عام 1992. وقضى مدة عقوبة في السجن بعد تنفيذه محاولة تفجير، وكان بحوزته 5 أسلحة على الأقل، من بينها مدفع رشاش ومسدس عيار 38 استخدم في قتل فالتر لوبكه.
تنبأ إرنست في منشور على شبكة الإنترنت قبل جريمة القتل، قائلاً: "سيموت الناس".
كان عملاء المخابرات الداخلية الألمانية يراقبون إرنست حتى بعد انقضاء فترة عقوبته، لكنه سقط من دائرة الاهتمام في وقت تحوَّل تركيز معظمهم إلى الإسلاميين المُتشدّدين. ثم، دخل نظام فرض قيود زمنية على الاحتفاظ بالبيانات الشخصية حيز التنفيذ.
قال ستيفان كرامر، رئيس وكالة الاستخبارات الداخلية في ولاية تورينغن الشرقية: "كان ينبغي مواصلة مراقبته باستمرار. ولكن على مدى مدة طويلة للغاية، أُهملت على المستوى الفيدرالي احتمالية صعود إرهاب محلي نابع من اليمين المُتطرّف" .
وبدأ الخطاب النازي ينضج مع صعود اليمين المتطرف سياسياً
على الصعيد السياسي، شهدت ألمانيا تنامي غضب تيار اليمين على نحوٍ كبير للغاية بعد أزمة الهجرة عام 2015. صدم حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المُتشدّد مؤسسات الدولة بفوزه بعدد كافٍ من الأصوات سمحت له بشغل مقاعد في البرلمان. وقد تراجع الدعم الشعبي لحزب
"البديل من أجل ألمانيا" خلال العام الماضي، وصعد حزب "الخضر" الليبرالي مؤخراً إلى قمة استطلاعات الرأي.
لكن المحللين يقولون إنَّه على الرغم من أن "البديل من أجل ألمانيا" لم يكن لديه ارتباط مباشر بجرائم عنف سياسي، أسهم الوجود الصاخب للحزب في تطبيع لغة العنف، التي تخاطر بإضفاء الشرعية على آلية العنف نفسه. تعهَّد الحزب "بملاحقة" ميركل. وفي هذا الشهر يوليو/تموز، سمَّى أحد مسؤولي الحزب المحليين حزب "الخضر" باعتباره العدو الجديد، متعهداً "بالتغلّب عليه".
كان هذا المزاج السياسي الغاضب يعني مرحلة خطر بالنسبة لبعض السياسيين. نجا عمدة مدينة ألتينا الشمالية الألمانية، أندرياس هولشتاين، من هجوم بسكين في عام 2017.
وفي عام 2015، تعرّضت عمدة مدينة كولونيا، هنرييت ريكر، للطعن في الحلق على يد رجل عاطل عن العمل قال إنَّه يريد بعث رسالة بشأن سياسة اللاجئين في البلاد.
وقالت ريكر في إحدى المقابلات إنَّ تهديدات القتل، التي كانت نادرة قبل عام 2015، أصبحت حقيقة يومية وإنَّها أصبح لديها الآن موظفو أمن خاص موجودون خارج مكتبها.
وقالت ريكر: "المدافعون العلنيون عن مجتمعنا المفتوح أصبحوا أهدافاً للقتل".
بعد وقتٍ قصير من مقتل لوبكه، تلقت ريكر رسالة بريد إلكتروني تقشعر لها الأبدان من أشخاص ذكروا التحية الرسمية لألمانيا النازية في عهد هتلر Sieg Heil and Heil Hitler؛ وتعني "يعيش النصر ويحيا هتلر".
وجاء في نص الرسالة: "لقد بدأت مرحلة التطهير مع قتل فالتر لوبكه. ولا يزال هناك كثيرون سيتبعونه. من بينهم أنتِ. حياتك ستنتهي في عام 2020".
نفَّذ متطرفون يمينيون في العقود الأخيرة العشرات من جرائم القتل في ألمانيا – 169 جريمة قتل منذ عام 1990 فقط، وفقاً لتحقيق صحفي أجرته صحيفتا Die Zeit وDer Tagesspiegel الألمانيتان. ومع ذلك، يعتبر لوبكه أول سياسي يُغتال على يد متشددين يمينيين في ألمانيا ما بعد الحرب.
وقد يؤدي كل ذلك إلى زعزعة الديمقراطية ونشر الفوضى..
ورأى تانيف شولتز، خبير في شؤون اليمين المُتطرّف، أنَّ التهديدات الجديدة ضد السياسيين تحمل أصداء جمهورية فايمار، وهي المرحلة بين الحربين العالميتين، عندما قتل الإرهابيون اليمينيون عدداً من السياسيين لزعزعة استقرار الديمقراطية الناشئة في ألمانيا، وتمكّنوا من تحقيق ذلك في نهاية المطاف.
وقال شولتز: "زعزعة استقرار الدولة كان دائماً الهدف الاستراتيجي للنازيين الجدد، لكن السلطات الألمانية لم تنظر أبداً إلى الأمر على هذا النحو، بل كانوا يميلون إلى التعامل مع عنف اليمين المُتطرّف باعتباره تصرفات فردية عشوائية".
وأشار شولتز إلى أنَّه كان هناك تباعد مذهل بين الوعي الجمعي القوي لألمانيا بماضيها النازي وبين وعيها الجمعي الأضعف كثيراً بإرهاب النازيين الجدد في العقود الأخيرة.
وقال: "نادراً ما ذُكرت هذه المسألة في الكتب المدرسية وفي الخطاب العام"، مشيراً إلى أنَّه يعكس حقيقة أنَّ "أجيالاً متعاقبة من المسؤولين قلَّلت ببساطة من أهميتها".
للأسف العمى يسيطر على الألمان ولا يريدون أن يروا ما يجري
تمتلك هنرييت ريكر، عمدة كولونيا، نظرية خاصة بها لتفسير هذا العمى الجماعي المشترك. فقالت: "ربما يتسبب تاريخنا في الحد فعلياً من وجهة نظرنا. مضيفة أن الألمان يحبون الاعتقاد بأنَّهم تعاملوا مع ذلك التاريخ النازي بشكلٍ حاسم، مما نتج عنه وضع مُضلّل ذاتياً مفاده أنَّ "ما لا يجب أن يحدث، لا يمكن أن يحدث".
لكن بعض المسؤولين يصفون الآن مقتل لوبكه بأنَّه دعوة للانتباه واليقظة قد تفرض إعادة تفكير رئيسي في عنف اليمين المُتطرّف على مدار عقد من الزمان.
في أوائل الألفينات، قتل إرهابيو النازيين الجدد 9 مهاجرين على مدار 7 سنوات، حتى أنَّ مخبري وكالة الاستخبارات المأجورين ساعدوا في إخفاء قادة المجموعة وفي بناء شبكتها. وقد أصبحت هذه القضية معروفة باسم فضيحة جرائم الاشتراكيين الوطنيين (N.S.U).
جاء تعيين كرامر رئيساً للمخابرات في تورينغيا باعتباره جزءاً من عملية الإصلاح بعد تلك الفضيحة. وقال كرامر، الأمين العام السابق للمجلس المركزي لليهود في ألمانيا، إنَّ تغيير المواقف الرسمية لا يزال أمراً صعباً.
وأضاف أنَّ وكالته عندما أبلغت مسؤولي المخابرات عن تصاعد تهديد اليمين المُتطرّف على المستوى الفيدرالي، "قيل لنا إنَّ إرهاب اليمين المُتطرّف غير موجود وجرى اتهامنا بالمبالغة والتهويل".
فاليمين المتطرف يتمدد إلى داخل المؤسسة العسكرية
وعندما اندلعت أعمال شغب يمينية متطرفة في شوارع مدينة كيمنتس الشرقية العام الماضي، قلَّل رئيس الاستخبارات آنذاك، هانز جورج ماسن، من خطورة هذا العنف، في تناقض علني مع تصريحات ميركل. لذا، تعيَّن عليه الاستقالة في نهاية المطاف.
إذ أُلقي القبض على ضابط شرطة في فرانكفورت هذا الأسبوع للاشتباه في إرساله تهديدات إلى محامٍ منوط بالدفاع عن ضحايا هجمات الاشتراكيين الوطنيين، متعهداً فيها بذبح ابنته البالغة من العمر عامين.
وقال آرمين لاشيت، السياسي المحافظ البارز، "لم تواجه جمهوريتنا قط منذ إنشائها قدراً كبيراً من الضغط من جانب اليمين المُتطرّف مثل الذي تواجهه الآن".