منذ أسبوع تقريباً، كان من الناحية النظرية رجلاً مشتبهاً فيه، بعد أن اتهمته الأمم المتحدة بأنَّه العقل المدبر المحتمل لواحدةٍ من أكثر جرائم القتل ترويعاً وإثارةً للجدل في السنوات الأخيرة.
لكنَّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، كان يتنقل في هدوء في اليومين الماضيين بين الرؤساء ورؤساء الوزراء بالقمة الدولية المنعقدة في اليابان، مخالطاً إياهم كما لو كان أحد الزعماء الحاضرين الذين يُجرون مداولاتٍ حول الاقتصاد والطاقة.
دعوة إفطار خاصة وتجاهُل للصحفيين
وفي الواقع لا يوجد من هو أهم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالنسبة للجهود السعودية لإعادة تأهيل حاكم المملكة الفعلي بعد مقتل جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله، فقد كان يُمازح وليَّ العهد في أثناء جلسة تصوير للقمة الجمعة 28 يونيو/حزيران 2019.
في اليوم التالي، دعا ترامب وليَّ العهد السعودي إلى إفطار خاص، وأسرف في الثناء على الأمير، واصفاً إياه بالمُصلح الذي يعمل على تحقيق الانفتاح في مجتمعه، بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية.
إذ قال ترامب لولي العهد: "الأمر يشبه ثورة إيجابية حقيقية. أود فقط أن أشكرك نيابةً عن كثير من الناس، وأودُّ أن أهنئك. ما فعلته رائعٌ حقاً". وأثنى ترامب على ولي العهد، لمنحه النساء الحق في قيادة السيارات، ومحاربته الإرهاب على وجه الخصوص.
تجاهل ترامب أسئلة الصحفيين حول مقتل خاشقجي ودور ولي العهد الواضح في الجريمة، كما لم يُشر إلى حملة القمع التي شنتها الحكومة السعودية على المعارضة، والتي شملت محاكمة عددٍ من الناشطات، والاعتقالات الأخيرة بحق مفكرين وصحفيين، يحمل اثنان منهم الجنسية الأمريكية إلى جانب السعودية.
وبعد الإفطار، ذهب ترامب لحضور جلسة حول تمكين المرأة.
رغبة ترامب في دعم الأمير محمد بطريقةٍ تشي بأنَّ كل شيء على ما يرام، بعثت بإشارةٍ قوية إلى بقية العالم، هي أنَّ علاقة أمريكا بالسعودية أهم من وفاة خاشقجي، الذي كان معارضاً سعودياً فترة طويلة وعمل كاتباً لمقالات الرأي في صحيفة The Washington Post الأمريكية، وكان مقيماً بالولايات المتحدة بصفة قانونية.
ومع أنَّ ترامب لم يُجرِ سوى حوار قصير مع الأمير محمد على هامش قمة العشرين العام الماضي (2018) في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، كان هذا أول اجتماع رسمي لهما منذ مقتل خاشقجي.
لم يبدِ الرئيس وفريقه أي تردد في دعوة ولي العهد ليكون واحداً من اثنين فقط من قادة العالم سُمح لهم بالانضمام إلى ترامب، لتناول وجبة منفصلة معه في أثناء إقامته بمدينة أوساكا اليابانية.
جديرٌ بالذكر أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية في إدارة ترامب خلصت منذ فترة طويلة، إلى أنَّ ولي العهد أمر بقتل خاشقجي، وتوصل أحد المحققين التابعين للأمم المتحدة في انتهاكات حقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، إلى أنَّ تدمير الأدلة بعد الجريمة "لم يكن ليحدث دون علم وليّ العهد"، وهو ما يشير إلى تواطئه.
وقبل يومين فقط من افتتاح اجتماع قمة مجموعة العشرين السنوي في مدينة أوساكا، دعت خبيرة الأمم المتحدة المعنيَّة بعمليات القتل خارج نطاق القضاء إلى إجراء تحقيقٍ دولي في وفاة خاشقجي. وقد أنكر المسؤولون السعوديون أن يكون ولي العهد قد تورط في القتل. وأمَّن ترامب على موقفهم عملياً.
وقال بروس ريدل، وهو مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية يعمل حالياً بمعهد بروكينغز الأمريكي، وألَّف كتاب Kings and Presidents حول العلاقات بين القادة السعوديين والأمريكيين: "الرئيس يدعم أكثر الحكام تهوراً وطغياناً في تاريخ السعودية. لقد جعل العلاقة مع السعوديين قضية سياسية حزبية. إذا فاز ديمقراطي بانتخابات عام 2020، فمن المحتمل أن نواجه أزمة وجودية في علاقتنا بهم حول خاشقجي واليمن".
الخلاصة 1: قالت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والصحافة إنَّ إفطار ترامب مع الأمير محمد يُقوِّي شوكة الطغاة في جميع أنحاء العالم، ويعطيهم إشارة واضحة إلى أنَّ بوسعهم قمع الصحفيين بل اغتيالهم، دون عقاب أو مساءلة من جانب الولايات المتحدة.
وقال جويل سايمون، المدير التنفيذي للجنة حماية الصحفيين: "إن جهود ترامب للتغاضي عن مقتل خاشقجي وإحباط أي تحقيق جعلته بشكل غير مباشر مشتركاً في واحدةٍ من أخطر الجرائم في التاريخ الحديث".
لكنَّ ترامب أوضح أنَّ العلاقة مع السعودية أهم من حادثٍ فردي في تقديره، إذ قال في حوارٍ مع شبكة NBC News الأسبوع الماضي، إنَّه لا يريد المخاطرة بصفقات مبيعات الأسلحة المربحة مع السعودية بالتحدث علناً عن مقتل خاشقجي.
ما الذي يجعل ترامب يتصرف هكذا؟
وقال بعض المتخصصين بالسياسة الخارجية إنَّ هذا ليس سوى الواقع المروع للعلاقات الدولية. وأضافوا أنَّ الرؤساء الأمريكيين ليس لديهم خيار سوى التفاعل مع الشخصيات البغيضة أحياناً؛ سعياً لتحقيق أهداف تمثل أهمية أكبر للأمن القومي الأمريكي. وقالوا إنَّ السعودية كانت ركيزة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وأمن الطاقة على مدى عقود.
وعلَّق مايكل دوران، وهو باحث بارز بمعهد هدسون الأمريكي، قائلاً إنَّه "من الأهمية بمكانٍ أن يتشاور الرئيس من كثب مع الحاكم الفعلي للسعودية، وأن يُنظر إليه على أنَّه يتشاور بصراحة وثقة. إذ إنَّ السعودية أهم حليف عربي للولايات المتحدة، وهي شريك لا غنى عنه في الجهود الرامية إلى احتواء إيران وتجريدها من الأسلحة النووية، وهي أكثر الدول الفاعلة وتأثيراً في العالم الإسلامي".
جديرٌ بالذكر أنَّ الأمير محمد لم يكن الشخصية الوحيدة في قمة أوساكا، التي تلطخت سمعتها مؤخراً. إذ حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يُشرف على حملة قمع في روسيا واتُّهم بقتل بعض الصحفيين والمعارضين السياسيين. وكان هناك الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يتزعم أكبر دولة قمعية في العالم، وهي الدولة التي احتجزت مئات الآلاف من مسلمي الإيغور، إن لم يكن أكثر، لتلقينهم مبادئها قسراً.
لكن كان من المفاجئ مع ذلك رؤية الأمير محمد وهو يتجول في الغرفة مرتدياً جلبابه الأبيض وغُترته السعودية المميزة بلونيها الأحمر والأبيض، وهو يبتسم ويصافح ويتبادل النكات مع ترامب وآخرين.
ففي أثناء وجوده في بوينس آيرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وُضع على أطراف "الصورة الجماعية" الرسمية لقادة العالم، كما لو أنَّه يتعرض للتهميش. لكنَّه احتل هذا العام مركز الصدارة بين ترامب وشينزو آبي رئيس وزراء اليابان، البلد المضيف.
الخلاصة 2: ترى الصحيفة الأمريكية أن الأمير محمد، وبعد قمة العشرين، قد يستأنف دوره على الساحة الدولية دون أن يدفع ثمناً باهظاً لجريمة قتل خاشقجي، وحرب اليمن. ويمكن له أن يطمئن إلى تولي دورٍ قيادي في قمة مجموعة العشرين العام المقبل أيضاً. إذ تقرر في النهاية أنَّه من سيستضيفها.