أصبحت مواقف الناخبين الديمقراطيين تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أكثر توازناً بصورة واضحة خلال العقدين الماضيين. في حين تتنامى المواقف المواتية للشعب الفلسطيني، تبدو المواقف الداعمة لإسرائيل في تراجُع. وعلى الرغم من أنَّ النظرة العامة لإسرائيل تبقى إيجابية، يعارض عدد كبير من الديمقراطيين السياسات الإسرائيلية –لاسيما سياسة بناء المستوطنات وانتهاكات الحقوق الفلسطينية. كذلك، يُنظر إلى زعيم إسرائيل، بنيامين نتنياهو، نظرة سلبية من جانب معظم الديمقراطيين.
تحوُّلات كبيرة.. والمأزق في انتقاد إسرائيل أكبر
تلك التحوّلات في الآراء وضعت العديد من المرشحين الديمقراطيين للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 في مأزق، لاسيما أولئك الذين كانوا أعضاءً في الكونغرس أو شغلوا مناصب حكّام ولايات. وبقدر إدراكهم للمزاج المُتغيّر المحتمل لقاعدتهم الانتخابية، فقد دُرّبوا أيضاً على عدم تنفير المانحين الموالين لإسرائيل أو إثارة غضب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، التي تستطيع، إذا تعرّضت للاستفزاز، إرباك حملاتهم الانتخابية من خلال تنظيم سلسلة من الاحتجاجات المستمرة.
يقول جيمس زغبي، مدير ومؤسس المعهد العربي الأمريكي بمقالة نشرها في موقع LobeLog الأمريكي: في ظل هذه الخلفية، شاهدت نتائج مشروع استغرق شهوراً أعدّته صحيفة The New York Times الأمريكية، حيث أجرت مقابلات مع 21 من المرشحين الديمقراطيين، الذين يخوضون سباق الانتخابات الرئاسية، ووجهت لهم أسئلة بشأن مجموعة من قضايا السياسة الخارجية والداخلية التي ستواجه الرئيس القادم. كانت هناك أسئلة حول أفغانستان وامتلاك الأسلحة النارية والرعاية الصحية والهجرة وعقوبة الإعدام.
كان الأمر الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي هو السؤال الرابع؛ لأنَّه كان يكشف بعمق عن مبادئ كل مرشح ومدى فهمه واستعداده للتعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والسؤال هو: "هل تعتقد أنَّ إسرائيل تفي بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان؟".
ومن دواعي القلق أنَّ تلك القضية بدت لا تحظى بأي اهتمامٍ جدي إلا من جانب عدد قليل من المرشحين. ومع استثناءات بارزة تتمثَّل في السيناتور بيرني ساندرز والعمدة بيت بوتيجيج وعضوي الكونغرس إريك سوالويل وسيث مولتون، تعثَّر معظم المسؤولين المنتخبين مثل طلاب مدارس ثانوية خائفين يُطرح عليهم سؤال في اختبار لم يكونوا جاهزين له.
إجابات متعددة لسؤال واحد.. جلّها رمادية
ولم يتحلّ سوى حفنة من أولئك المرشحين بالقوة الداخلية للقول بإنَّ إسرائيل تنتهك حقاً حقوق الإنسان. في المقابل، وازن معظم المُجيبين ردودهم بالإشارة إلى التحديات التي تواجهها إسرائيل أو محاولات إسرائيل لتلبية معايير حقوق الإنسان، على الرغم من إمكانية تحقيق نتيجة أفضل.
أشار عدد قليل من المرشحين الديمقراطيين، مثل السيناتور كامالا هاريس والسيناتور مايكل بينيت وعمدة مدينة نيويورك بيل دي بلاسيو وعضو الكونغرس جون ديلاني، إلى اعتقادهم بأنَّ إسرائيل تلتزم بمعايير حقوق الإنسان. وبدلاً من الإجابة مباشرةً عن السؤال، انتقل البعض إلى منطقة أكثر أماناً من خلال انتقاد فشل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكأن ثمة إيحاء بأنَّ المشاكل بدأت مع مجيء هذين الزعيمين إلى السلطة.
وبالنسبة لأولئك، الذين تحوّطوا في إجاباتهم وحاولوا الموازنة من خلال التلميح بأنَّ سجل إسرائيل في حقوق الإنسان يُعد جيداً، لكنَّه أقل من المستوى المثالي المطلوب، وجدوا مخرجاً عبر الظهور كما لو أنَّهم ينتقدون إسرائيل من خلال إجابة مفادها أنَّ "إسرائيل تحاول فعل الشيء الصحيح، لكنها تفشل في بعض الأحيان وتحتاج إلى مساعدتنا".
أخيراً، بخلاف القلّة التي ذكرت التوسّع الاستيطاني، فشل معظمهم في التطرُّق إلى انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى، التي تحدث في الأراضي المحتلة. لكن المرشح الديمقراطي الوحيد، الذي تحدّث عن ذلك، كان سيث مولتون، الذي أشار إلى دعمه السابق للتشريع الداعي إلى "وقف إمدادات الأسلحة والسلع لإسرائيل إذا لم تتمسك بالمعايير الدولية لمعاملة الأطفال الفلسطينيين المعتقلين في السجن".
بينما يكافح أولئك المرشحون بشق الأنفس لتجاوز التحدي الذي فُرض عليهم، تستطيع تقريباً رؤية الأفكار تعصف بأدمغتهم لتحقيق الموازنة بين الحاجة إلى تأكيد حسن نواياهم المؤيدة لإسرائيل وضرورة أن تكون على وفاق مع المزاج العام المُتغيّر للديمقراطيين الناخبين. كان الوضع بالنسبة للكثيرين معيباً وسيقود إلى إثارة الغضب أياً كانت الإجابة.
ما أصبح واضحاً بصورة مؤلمة هو إلى أي مدى وجد معظم المرشحين أنفسهم مضطرين إلى استدعاء نقاط حديث مريحة آمنة، على الرغم من كونها غير ذات صلة بموضوع السؤال، ذلك إما لأنَّهم لم يرغبوا في توجيه أية انتقادات لإسرائيل أو لأنهم ببساطة لم يكن لديهم فكرة عن كيفية الإجابة عن هذا السؤال.
كانت الإجابة الأكثر تبادراً إلى ذهن أغلبية المجيبين تنحصر بين "إسرائيل حليفنا الأكثر أهمية" أو "إسرائيل دولة ديمقراطية ليبرالية" -فيما يعتبر تهرّباً تاماً من الإجابة عن السؤال المطروح. وبالمثل، من الإجابات الخارجة عن موضوع السؤال المطروح كان إعلان أغلبية المرشحين عن دعمهم لخيار "حل الدولتين".
يتخبّطون في إيجاد مخرج للإجابة خوفاً من اللوبيات الإسرائيلية
تستطيع قراءة نصوص تعليقاتهم، لكن الأكثر إثارة للاهتمام كان مشاهدة وجوههم وهم يكافحون للإجابة عن هذا السؤال البسيط.
أولاً، كان هناك انزعاج واضح من دعوتهم للحديث عن موضوع يفضلّون تجنّبه. بعد ذلك، يمكنك رؤيتهم يتخبّطون في محاولة لإيجاد مخرج وتذكُّر نقاط حديث أخرى آمنة. عند نقطةٍ ما، تستطيع رؤية البريق يسطع في عيونهم عندما يتذكّرون صيغة "حل الدولتين" السحرية.
بدا الأمر كما لو أنَّهم تذكروا صيغة "الدولتين" في نهاية إجابة طويلة شاقة غير مكتملة الإعداد عن سؤال غير مرغوب فيه– وهذه الصيغة بالنسبة لهم كانت السبيل للخروج من هذا المأزق. ثم بدون أي صلة بالسؤال أو أي شيء يتعلق بما قالوه حتى تلك اللحظة، ينتقلون إلى منطقة الراحة الخاصة بهم ويقولون: "ينبغي لنا فعل المزيد للضغط على الأطراف للتفاوض على حل الدولتين – انتهت الإجابة وارتسمت الابتسامة كما لو كانوا يقولون: "أووف! هل تجاوزنا هذا السؤال؟".
وما يثير القلق على نحو خاص فيما يتعلّق باللجوء إلى إجابة حل الدولتين، بالإضافة إلى حقيقة أنَّها لا علاقة لها بالسؤال المطروح، هو أنَّ معظمهم بدا وكأنَّه يتصرف وكأن مجرد القول بأنَّه يؤيد إقامة دولتين يعفيه من الحاجة إلى ذكر مزيد من التفاصيل أو محاولة اتخاذ مزيد من الإجراءات.
لهذا السبب، يمكن لي تسمية تلك الصيغة باسم "إعفاء حل الدولتين". وكان الاستثناء البارز في هذا الشأن هو عضو الكونغرس جوليان كاسترو، الذي أقرَّ بأن التوسع الاستيطاني "زاد من صعوبة" تحقيق هدف إقامة دولتين.
في حين أكثر ما يخيب الآمال كان عدم استجابة السيناتور المعروفة بالتأني المدروس وعمق التفكير، إليزابيث وارين، التي قالت إنَّها ستحث الإسرائيليين والفلسطينيين على "الجلوس على طاولة المفاوضات، ثم الابتعاد عن المشهد للسماح لهم بالتفاوض"، كما لو كانت طريقة مبتكرة لم تُجرّب من قبل وكما لو أنَّ تيار اليمين المتطرف الصاعد في إسرائيل غير عازم على فعل كل ما في وسعه لتجنَّب قيام دولة فلسطينية مستقلة.
الحياد في القضية الفلسطينية سيجلب نتائج مؤلمة للديمقراطيين
خلاصة القول إنَّ معظم الديمقراطيين، الذين يتنافسون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أمامهم شوط طويل يتعين عليهم قطعه في التعامل مع إسرائيل وفلسطين. فالوجود المتغلغل للقوات الموالية لإسرائيل وقوتها قد جعل المسؤولين المنتخبين منذ فترة طويلة يتّبعون ببساطة نهج "عدم التدخل" في التعامل مع هذه القضية.
وقد تعلّم كثيرون أنَّ الحياد عن هذا النهج يجلب نتائج مؤلمة -مكالمات هاتفية تشغل هواتف مكاتبهم ورسائل بريد إلكتروني غاضبة تملأ صناديق البريد الوارد الخاصة بهم، الأمر الذي يدفعهم إلى تجنّب هذه المشكلة تماماً مثل تجنّب الإصابة بمرض. والنتيجة هي ما سمّيته "الجهل المُتعمَّد". يركز المرشحون على "قضاياهم" الداخلية، التي يُنتَخبون من أجلها ويتجاهلون القضايا التي لا تجلب سوى المتاعب. لذا، لا يتلقون أو حتى يطلبون إحاطات معلوماتية بشأن هذا السؤال الحاسم.
لكن الوضع يتغير الآن، فالمواقف المتطورة للناخبين، لاسيما الكتل الرئيسية للناخبين الديمقراطيين واشمئزاز العديد من الديمقراطيين من سياسات نتنياهو وحالة الغرام السياسي بين ترامب ونتنياهو، تشير جميعها إلى حقيقة أنَّ هذه لن تكون المرة الأخيرة التي تُطرح فيها أسئلة صعبة مُربكة بشأن النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. لقد حان الوقت لأولئك الآملين في قيادة الولايات المتحدة إلى أخذ الوقت الكافي لمعرفة تفاصيل هذه القضية، التي أزعجت كل رئيس أمريكي وأرهقته على مدار 70 عاماً.