حين وصلت العطاءات على لوحة ليوناردو دافنشي، المسماة "سلفاتور مندي" إلى مبلغ 200 مليون دولارٍ سرت همهماتٌ مسموعةٌ بقاعة المزاد، لكن حين بلغت العطاءات 300 مليون دولارٍ ضج المتفرجون بالتصفيق، وفي اللحظة التي بيعت فيها اللوحة بمبلغ 450.3 مليون دولارٍ كانت صالة Christie's للمزادات بنيويورك تشهد واحدةً من أكثر اللحظات دراماتيكيةً في تاريخ الفن الحديث.
هذه اللوحة الغامضة التي تُصور المسيح، والتي رُفضت من قبل في الخمسينيات من القرن الماضي باعتبارها منسوخةً، وبيعت بمبلغ 47 جنيهاً إسترلينياً فقط وقتها (57 دولاراً)، قد أصبحت -وبفارقٍ كبيرٍ- أغلى عملٍ فنيٍّ يظهر في مزادٍ.
لم تتوقف الدراما عند ذلك الحد
يقول تقرير لشبكة CNN الأمريكية، لم تظهر لوحة "سلفاتور مندي" للعامة منذ تلك الليلة في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017. وأصبح مكان وجودها مثار تكهناتٍ كثيرةٍ، خاصةً أن متحف اللوفر بأبوظبي، الذي كان قد أعلن سابقاً أنه سيعرضها، أجّل العام الماضي كشف النقاب عنها دون إبداء أسبابٍ.
أكثر النظريات شيوعاً هي تلك القائلة إن اللوحة البالغة من العمر 500 عامٍ تقبع في مخزنٍ في سويسرا -في جنيف تحديداً- حيث تقول صحيفة The New York Times الأمريكية، إن أكثر من مليون عملٍ فنيٍّ يحفظها الجامعون والمعارض في مخازن سريةٍ معفاةٍ من الضرائب.
غير أن نظريةً أُخرى ظهرت الأسبوع الماضي في مقال رأيٍ كتبه سمسار الأعمال الفنية كيني شاستر، ونُشر على موقع Artnet، وتقول النظرية إن آخر لوحات دافنشي المباعة لأفرادٍ موجودةٌ على متن يختٍ يملكه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
يسود الاعتقاد أن العطاء القياسي قدَّمه بالنيابة عن محمد بن سلمان صديقه وحليفه وقريبه الأمير بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان آل سعود. وبُعيد تداول الشائعة بوقتٍ قصيرٍ نشرت السفارة السعودية في واشنطن بياناً، زعمت فيه أن الأمير بدر قد كلَّفته بلعب دور الوسيط في الصفقة وزارة الثقافة والسياحة بإمارة أبوظبي، وليس ولي العهد السعودي، لكن محمد بن سلمان نفسه لم ينفِ أو يؤكد بنفسه أي ضلوعٍ له في عملية الشراء.
هل هي مخبَّأة في يخت لمحمد بن سلمان؟
يرى بين لويس، مؤلف كتاب The Last Leonardo الذي يُفصل الغموض والجدال الذي يُحيط باللوحة، أن قصة اليخت قد لا تكون بعيدة الاحتمال بقدر ما تبدو.
وفي مقابلةٍ هاتفيةٍ أُجريت معه قال: "إنها إما في اليخت وإما في خزنةٍ بجنيف، وأنا أقتنع تدريجياً بأن قصة اليخت جديرةٌ بالتصديق، لكنني سأقول إن تلك ليست أكثر البيئات أماناً لتعليق تلك اللوحة".
يرتكز اقتناع لويس المتزايد على سجلٍ يرجع لدايان موديستيني، القيّمة التي كانت مسؤولةً عن ترميم لوحة "سلفاتور مندي"، قبل بيعها بـ450 مليون دولارٍ. قالت دايان لشبكة CNN، إنها تلقَّت اتصالاً من قيّمٍ سويسريٍ بعد عامٍ من المزاد، يسألها النصيحة حيال نقل اللوحة الرقيقة بأمانٍ إلى فرنسا، مُشيراً إلى أنها ربما تتوجه إلى متحف اللوفر في باريس.
مع ذلك يبدو أن اللوحة لم تصل إلى باريس إلى الآن، أو على الأقل لم تصل للوفر. (أكدت إدارة المتحف لشبكة CNN أنها لم تتلق رداً للآن على طلبها استعارة اللوحة من حكومة أبوظبي).
بالطبع ورود استفساراتٍ لوجستيةٍ لا يعني بالضرورة أن اللوحة قد نُقلت. وقالت موديستيني إنه بعد التواصل الأول مع القيّم السويسري، أُلغي فحصٌ تالٍ للوحة، وقالت في رسالة إلكترونيةٍ: "ما يعني، بالنسبة لي على الأقل، أن نقل اللوحة المخطط له قد أُلغي".
وتتابع: "وبالطبع قد يكون أمرٌ آخر طرأ منذ ذلك الوقت. أجد من الصعب تخيل أن شركة تأمينٍ ستقبل بتغطيتها وهي تعلم أنها ستُحفظ على متن يختٍ، لكن ذلك مجرد تكهنٍ من جانبي". وتُضيف: "شخصياً لا أعتقد أن القصة موثوقةٌ بشكلٍ كبيرٍ".
أما شاستر، الذي يكشف فقط عن أن عملية النقل إلى يخت بن محمد سلمان قد وقعت "خلال العام الماضي"، فيردّ قائلاً: "يمكنك التأمين على أي شيءٍ في أي مكانٍ، يمكنك فعل أي شيءٍ ما دمت ستدفع ما يكفي".
للّوحة قضية نسبٍ غامضة ومثيرة للجدل
كان ذلك أحدث ما أثير عن اللوحة من شائعاتٍ ونظريات مؤامرةٍ، وبالطبع تظل مصداقية أية روايةٍ من تلك الروايات محلَّ جدلٍ.
ولكن الاهتمام العالمي بهذه الادعاءات يعكس هوس عالم الفن بمعرفة مكان اللوحة، والكثير من التكهنات المثارة حول سبب بقاء اللوحة في الخفاء يدور حول نسبها.
لقرونٍ، اعتُقد أن لوحة "سلفاتور مندي" محضَ نسخةٍ، أو من عمل أحد مساعدي الفنان الإيطالي، ولكن عام 2005، اشترى تحالفٌ يقوده سمسارا التحف الفنية روبرت سايمون وألكسندر باريش اللوحة بأقل من 10 آلاف دولارٍ، على أمل الكشف عن كونها إحدى قطع ليوناردو الأصلية.
كانت اللوحة في حالةٍ مزريةٍ عندما أوكلا لموديستيني مهمة ترميمها، فقد أُعيد طلاؤها بكثافةٍ، وتضرَّرت تلبيستها الخشبية للغاية، ولم تُعلن نسبتها لليوناردو دافنشي إلا بعدما اكتمل العمل على ترميمها.
وفي عام 2011، وبعد ستة أعوامٍ من التقصّي والبحث الموثق، كشف المعرض الوطني في لندن الستار عن اللوحة المُرمّمة حديثاً، وأدرجها ضمن معروضاته من أعمال ليوناردو. وتصف سجلات دار Christie's لهذه المهمة توافق آراءٍ "واسعاً" و "اتحاداً غير عاديٍّ" على أن اللوحة من أعمال ليوناردو.
مع ذلك لا يزال العديد من المؤرخون يشككون في نسب اللوحة. فالمجهودات المشتركة بين ليوناردو ومساعديه لم تكن قليلةً، وبينما يستبعد القليل من الخبراء اشتراك الفنان الإيطالي في العمل بالمرة، يعتقد البعض أن "سلفاتور مندي" يجب أن تُنسب، على أقل تقديرٍ، إلى ورشته.
أشار الباحثون الذين أيدوا نسب العمل لليوناردو إلى بصماته البارزة في أعماله الفنية: المحاكاة الماهرة في يد المسيح المرفوعة، وتقنية "سفوماتو" في مزج الألوان المستخدمة في وجهه، واستخدام الصبغات والتركيبات التي تتوافق مع نمط الفنان. وجود صورةٍ أُخرى مخبأةٍ "بينتيمنتو" أو "الفكرة الثانية" التي تدل على أن الرسام قد غير رأيه، كل هذه الافكار تُثبت، للبعض، أن اللوحة لا يمكن أن تكون منسوخةً.
دليلٌ تاريخي آخر يُستشهد به عادةً، وهو وجود رسوماتٍ أوليةٍ لليوناردو ونقوشٍ ترجع لعام 1650 للوحة "سلفاتور ماندي"، قام بها مصمم المطبوعات وينسلوس هولار، الذي ادَّعى أنَّه قد نقلها مباشرةً من العمل الأصلي للفنان الإيطالي.
وصرَّح مارتين كيمب، الباحث في أعمال ليوناردو، في مقابلةٍ عبر الهاتف أن: "الصورة في العديد من عناصرها الأساسية تُظهر ما أُطلق عليه اسم (علم فن ليوناردو)".
وأضاف: "ومن بين ذلك: فهمه لعناصر الطبيعة المتنوعة، وكيف يمكن إعادة صياغتها (كيف تتجلى) بطريقةٍ لا يمكن لأحد من المزورين فهمها. في الحقيقة، لم يتمكن أيٌّ من أتباع ليوناردو المباشرين في الاستوديو من الوصول لمستوى فهمه العبقري للعلوم، والبصريات، والتشريح، والديناميكا وغيرها.
وقال كيمب، الذي يحضِّر لنشر كتابٍ عن هذا الموضوع في وقتٍ لاحقٍ من هذا العام: "بناءً على ما رأيته في الصورة بدقةٍ رقميةٍ لا تصدق، في الاختبار العلمي، وفي الصور الفوتوغرافية لها أثناء عملية حفظها، فلا أستبعد إمكانية مشاركة مساعديه في الاستوديو، ولكنني لا أستطيع تحديد أي الأجزاء التي يمكننا أن نقول إنهم عملوا عليها".
منازعاتٌ علميةٌ على اللوحة الغامضة
كثيرون على النقيض ليسوا على نفس القدر من الثقة، فهناك العديد من الكتّاب والمؤلفين الذين ملأوا الصمت المحيط باللوحة بنظرياتٍ بديلةٍ.
يعتقد لويس أن القطعة الفنية "اشترك فيها ليوناردو وأعضاء ورشته، وقام ليوناردو بالقليل". في حين يرى ماثيو لاندروس، المؤرخ بجامعة أوكسفورد، أن ما أتمه ليوناردو في اللوحة يتراوح بين 5 إلى 20% فقط، وقال لشبكة CNN العام الماضي: "اللوحة لوحة ليوناردو، ولكن بمساعدة مساعديه في ورشة العمل"، (ونسب حينها العمل لمساعد الرسام بيرناردينو لويني).
ويُتوقع أن أمينة متحف ميتروبوليتان للفنون كارمن بامباخ، التي كانت مع كيمب، واحدة من الباحثين القلائل الذين دُعوا لفحص اللوحة في المعرض الوطني عام 2008، قد تنسب اللوحة إلى مساعدٍ آخر، هو جيوفاني أنطونيو بولترافيو، في كتابها القادم.
وطبقاً لكلام لويس، فالرفض ليس موجوداً فقط على نطاقٍ واسعٍ في المجتمع الفني، ولكنه ينتشر أيضاً بين أعضاء الفريق الصغير من الخبراء الذين فحصوا اللوحة عام 2008، في اجتماعٍ وصفه بـ "العصيب للغاية"، بشأن اتخاذ قرار نسبة اللوحة لليوناردو. وبالفعل، ففي تعليقاتٍ نُشرت في صحيفة The Guardian البريطانية، انتقدت بامباخ دار Christie's لإدراجها اسمها في كُتيّب اللوحة، قائلةً إنها لم تُصرّح بنسب اللوحة بشكلٍ مباشرٍ خلال الاجتماع.
لم ترد دار Christie's بشكلٍ مباشرٍ على انتقادات بامباخ، ولكن متحدثاً باسم دار المزادات قال لشبكة CNN عبر رسالة بريدٍ إلكترونيٍ: "نسبة اللوحة لليوناردو جرت قبل نحو عشر سنواتٍ من بيعها، من قِبل ملاكها السابقين أثناء التجهيزات لإدراجها ضمن معروضات المعرض الوطني… وبينما نُدرك أن هذه اللوحة مثار جدلٍ هائلٍ في الأوساط العامة، لكننا منذ بيعها في دار Christie's عام 2017، لم يجعلنا أي رأيٍ أو تكهنٍ جديدٍ نتحدث في هذا الأمر".
وصف كيمب تقرير لويس عن الاجتماع بأنه: "زائفٌ كلياً"، قائلاً إنه: "لم يطلب منا أي أحدٍ أن نصوت أو نصرح (ما إذا كانت اللوحة لليوناردو).. فلقد كانت عمليةً محكومةً ومسؤولةً، لم أوضع تحت أي ضغطٍ بالمرة حتى أُصرح برأي معينٍ".
وفي بيانٍ أُرسل عبر البريد الإلكتروني لشبكة CNN دافع المعرض الوطني عن قراره بنسبة اللوحة لليوناردو في معرضه المُقام عام 2011، قائلاً: "إننا نأخذ في الحسبان اعتباراتٍ كثيرةً قبل إدراج أي أغراضٍ في العرض".
وفي خضمّ تلك النزاعات، فإن أقلها إثارةً للخلاف هو أن أي تغييرٍ في نسب اللوحة سيتسبب في تدميرٍ كبيرٍ لقيمة تلك القطعة الفنية، وبالمثل سيؤثر على مصداقية المؤسسات المشاركة في التوثيق. يتوقع لويس، الذي قال إنه "إذا كانت اللوحة من رسم ورشة العمل فيمكن أن تساوي نحو 1.5 مليون دولارٍ إلى 20 مليون دولارٍ"، أن المالك الحالي قد يُخفي القطعة الفنية لحمايتها من المزيد من الفحوصات.
وقال: "أعتقد أن المالك قلقٌ بشأن كشف اللوحة للرأي العام. فما الذي سيُسببه ذلك؟ يمكن أن يأتي الكثير من الناس ويتناقشوا حول ما إذا كانت اللوحة لليوناردو أم لا… وقتها ستتعرض الصورة للكثير من الانتقادات. أعتقد أن ذلك قد يجعل صحة نسبها محل جدلٍ".
وتابع: "الحقيقة البسيطة هي أن أعظم خبراء أعمال ليوناردو في العالم قد انقسموا حول نسب تلك اللوحة".
عراقة الأصل للوحة "سلفاتور مندي"
بالنسبة لكل ذلك الجمهور الذي يتجادل حول نسبها، فإن الهوس بلوحة "سلفاتور مندي" بدأ بالأساس من تاريخها القيّم. يُعتقد أنها قد رُسمت بناءً على طلب لويس الـ13 ملك فرنسا. وقد أصبحت بعد ذلك ملكاً لتشارلز الأول ملك إنجلترا. ويعتقد بعض المؤرخين أنها حُفظت بعد ذلك في الغرفة الخاصة لزوجة تشارلز الثاني هنريتا ماريا.
لكن تاريخ اللوحة مليءٌ كذلك بالفترات -مثل الفترة الحالية- التي كان مقرها فيها غير معروفٍ.
لم تكن هناك أية معلوماتٍ عن لوحة "سلفاتور مندي" في الفترة بين عامي 1763 و1900 حين أصبحت في حوزة الرسام وجامع التحف السير تشارلز روبنسون (كانت لا تزال في ذلك الوقت تنسب إلى لويني). بيعت في دار Sotheby's للمزادات عام 1958 مقابل 45 جنيهاً إسترلينياً (ما يعادل 57 دولاراً)، واختفت بعدها ثانيةً، قبل أن تظهر مرةً أخرى في دار مزاداتٍ صغيرة بالولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هناك قام سايمون وباريش بشرائها، وفي عام 2013، وبتتبع توثيق البيانات الخاصة باللوحة، باعها مقابل 80 مليون دولار ( أكثر مما دفعا فيها بنحو 8000 ضعف) لبائع تحفٍ سويسريٍّ يُدعى إيف بوفير، الذي باعها بعد فترةٍ لرجل الأعمال الروسي ديمتري ريبولوفليف مقابل 127.5 مليون دولارٍ.
قصة صعود اللوحة من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش، تتواءم مع عراقة تاريخ اللوحة وحقيقة أنها تُعتبر واحدة مما يُقارب 20 عملاً ناجياً من أعمال ليوناردو، الأمر الذي يُثبت أنه، من الممكن، أن تكون قيمة العمل تأتي من قصته بنفس القدر الذي تأتي به من قيمته الجمالية.
لكن التقلبات الأخيرة في تلك القصة الملهمة قد تكون لها آثارها العكسية. قال لويس: "من الصعب بيع اللوحة حالياً مقابل 450 مليون دولارٍ، إن لم يكن مستحيلاً، فالأمر محل جدلٍ".ولم تستجب الحكومة السعودية ولا متحف اللوفر بأبوظبي حتى وقت النشر لأي طلبات تعليقٍ من شبكة CNN.