يسارع قادة اليمين الشعبوي في العالم، في خطاباتهم، إلى استخدام لغة تحمل صبغة دينية، تمثل بشكل أساسي التراث "اليهودي-المسيحي" كركيزة للحضارة الأوروبية الغربية، وذلك في وقت تشهد فيه المجتمعات الغربية تراجعاً ملحوظاً في مسألة الانتماء لدين معين، على حساب تتبع معتقدات جديدة، بحسب صحيفة The Guardian البريطانية.
ففي بلجيكا مثلاً أوجد الحزب القومي الفلمنكي (حزب يميني) مكانةً لنفسه بالدفاع عن المؤسسات "التي هجرها" الديمقراطيون المسيحيون، مثل نظام التعليم الكاثوليكي والخدمات الكنسية. وفي إيطاليا لوّح سالفيني بمسبحة كاثوليكية متباهياً مع ظهور نتائج الانتخابات الأوروبية.
وفي المجر حوَّل أوربان الدفاع عن "الحضارة المسيحية" إلى عقيدة رسمية للدولة، في خطاب ألقاه في وارسو، حيث يقدم حزب القانون والعدالة الحاكم نفسَه على أنَّه الجناح السياسي للكنيسة الكاثوليكية المحافظة، كما ردد دونالد ترامب الهتاف القديم ليوحنا بولس الثاني: "نريد الله".
نشأة الشعبوية بدأت بارتباط شديد بالكنيسة
ترتبط الشعبوية بصلة محورية مع الدين، فالحركة التي أطلقت مصطلح الشعبوية -ونقصد هنا الشعوبية الأصلية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة- كانت مرتبطة بالكنيسة بشدة.
وبوصفهم ائتلافاً من المؤمنين بالإصلاح الزراعي والعمال الراديكاليين المعادين للرأسمالية، اعتمد الشعبويون على الشبكات الميثودية (طائفة مسيحية بروتستانتية) السابقة (بشكل أساسي في الجنوب) ومصادر في التقاليد الإنجيلية الأمريكية، وأطلقوا على حركتهم "الصليبية التعاونية".
لم نعد نعيش في عصر الانخراط الجماهيري الواسع، سواء في السياسة أو الدين، فقد شهدت الأحزاب والجمعيات المدنية في جميع الديمقراطيات الغربية انخفاضاً كبيراً في العضوية خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وفقدت الكنائس التقليدية أتباعها لصالح مجموعات تتبع معتقدات جديدة.
ومع ذلك فهناك أسباب وجيهة للغاية تدفعنا للنظر إلى الكثير من الحركات الشعبوية اليوم، باعتبارها إلى حد ما ردة فعل دينية.
الشعبويون برعوا في اختطاف الدين
فالتقليد الأوراسي لفلاديمير بوتين، والديمقراطية المسيحية لأوربان، والهوية اليهودية المسيحية لترامب، والحركة الخمسينية البروتستانتية المؤمنة بالرخاء لبولسونارو، والكاثوليكية الشعبوية لسالفيني، والقومية الهندوسية لمودي، كلها تشير إلى رد فعل ذي صبغة دينية على الحكم العلماني.
فالذي تراجع على مدى العقود القليلة الماضية ليس مجرد قيم الديمقراطية والليبرالية وحدها؛ بل كانت هناك أيضاً شكوك متزايدة في العلمانية والنخب التي تنشرها.
بدأت هذه العملية مع صعود الحركة الإنجيلية الأمريكية في أواخر السبعينيات. لم يؤد ذلك إلى نجاحات سياسية في الداخل فحسب، بل أدى أيضاً إلى توسع البعثات التبشيرية العالمية إلى أمريكا اللاتينية وإفريقيا، التي صدرت شكوكاً حول كل شيء علماني.
ويشير ذلك إلى فشل في رؤية الثورة اللاهوتية العالمية المضادة. وهذا قد يفسر بشكل كبير السبب الذي جعل الشعبويين اليمينيين يحققون انتصارات كثيرة في السنوات الأخيرة، فقد أثبت الشعبويون براعتهم الكبيرة في اختطاف الدين.
تقول الصحيفة البريطانية إن استخدام الدين في المجتمعات الغربية لا يتعلق بتقوية الحياة العقائدية الدينية، فالممارسة الدينية مستمرة في الانخفاض بوتيرة مطردة في معظم الديمقراطيات الغربية، وغالبية المواطنين لا ينخرطون في المؤسسات الدينية.
فهِم الشعبويون هذا الأمر جيداً، فاستخدموا الدين كطريقة لتجميع الناس، وجعلوه أداة لجذب مجتمع يشعر بأنَّه فقد ركيزته من الأخلاق.
يقول الفاشي الفرنسي شارل موراس إنَّه لا يؤمن بالله، لكنه "يظن أنَّ إيمان الناس بالله مهم".
يتبع هؤلاء الشعبويون إرشادات ستيف بانون (كاثوليكي)، الذي يدعي أنَّ الأزمة المالية العالمية قد حدثت بسبب توقف تهذيب النفس، الذي تحضّ عليه التقاليد الدينية، وأنَّ ذلك من الآثار المدمرة للعلمانية الملحدة.
فاعلية اللغة الدينية اليوم
إنَّ الأديان مهما تحولت إلى علاج نفسي وأُفرغت من محتواها الاجتماعي، توفر أداة "لاسترجاع الافتتان"، لكن مع اكتساب الحركات الشعبوية اليمينية نفوذاً في الديمقراطيات الغربية، قُدمت أيضاً لغة لـ "إعادة التسييس"، موجَّهة ضد عالم من قوى السوق والتكنوقراط.
اليسار الذي يستجيب لهذه التطورات لا يحتاج إلى إيقاف التزامه بالعلمانية، لكنه سيكون من المفيد إدراك فاعلية اللغة الدينية اليوم، وقدرتها على إعادة صياغة السلوكيات. إنَّ الرأسمالية تتغير أمام أعيننا، وتلبس رداء جديداً قدمه لها الشعبويون.
إنَّهم يقدمون الرموز الدينية والتقاليد بوصفها ملاذاً آمناً في عالم بلا قلب، وركيزة أخلاقية جديدة، وعلى خصوم الشعبوية اليمينية أن يجدوا رداً.