في سلسلة جديدة لجريدة The Guardian البريطانية حول الأمراض التي تُؤثر على ما يقرب من مليار شخص في جميع أنحاء العالم، يقول كبار الباحثين إنَّ حياة الأشخاص يمكن إنقاذها من خلال الاستثمار أكثر في الحفاظ على صحة الناس.
ويقول الباحثون إنَّ الثورة في اللياقة الشخصية، والنظام الغذائي، والدواء على مدار السنوات الخمسين الماضية قد أحدثت تحولاً في الصحة البدنية، ولكن لم تُبذل جهود مُماثلة للحفاظ على صحة الناس العقلية.
وقال رون كيسلر، أستاذ كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية: "الوقاية من الاضطرابات العقلية تُعتبر في مرحلة أقل تطوراً، مقارنةً بالوقاية في مجالات الطب الأخرى، في الطب النفسي وعلم النفس، يبدو الأمر وكأنَّنا نمارس طب القلب في الخمسينيات، حيث تنتظر تعرض المريض لنوبة قلبية، وبمجرد حدوث ذلك تعرف ما عليك فعله".
وأضاف: "نحن بحاجة إلى أن نتطور أكثر من ذلك بقليل".
لا تزال الصحة العقلية ضعيفة الموارد، مقارنةً بالصحة الجسدية، فالصحة العقلية متأخرة للغاية من حيث الوقاية.
بعض الشركات تجد صعوبة في التعامل مع الأمر، خاصة فيما يتعلق بالإسعافات الأولية للصحة النفسية، والمستشارين الرقميين، وحملات التوعية.
لكن في المقابل تقوم بعض المدارس بتعليم التلاميذ المرونة النفسية في سن مبكرة، وتقدم المشورة في المدارس، كما يُمارس العديد من الأفراد "التدريبات" العقلية التي يعتقد المُعالجون أنَّها تساعد في هذا المجال.
ولكن بشكلٍ عام، يُنفق 5% فقط من تمويل أبحاث الصحة العقلية على التحقيق في الوقاية من الأمراض العقلية.
هل الأمراض العقلية أصبحت وباءً عالمياً؟
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، ففي عام 2017، كان نحو شخص من بين كل ثمانية أشخاص، ما يعادل 970 مليون شخص حول العالم، يُعانون من نوع من الاضطراب العقلي، وأعداد الأشخاص الذين يسعون للحصول على علاج في ارتفاع.
ويقول هارفي وايتفورد، أستاذ الصحة العقلية للسكان بجامعة كوينزلاند الأسترالية: "لا يوجد وباء من الأمراض العقلية يجتاح العالم، ولكن كثر الحديث حول هذا الموضوع والمزيد من الناس يُعالجون".
أدى ذلك إلى حدوث ضغط على هذا المجال، فهناك 10 دول فقط، معظمها في أوروبا الغربية، تجد بها أكثر من 20 طبيباً متخصصاً في الأمراض العقلية لكل 100 ألف شخص. و5 دول فقط لديها أكثر من اختصاصي نفسي لكل ألف شخص، ودولتان فقط -تركيا وبلجيكا- لديهما أكثر من ممرضة واحدة مُتخصصة في الصحة النفسية لكل ألف شخص.
لماذا تعد الوقاية من الأمراض العقلية أمراً صعباً؟
وسرعان ما تتحول الوقاية إلى كلمة متداولة، ولكنها موضوع صعب نظراً لأنَّ الأمراض العقلية لا تزال غير مفهومة جيداً.
ويقول وايتفورد: "هناك أشياء يمكننا فعلها، ولكننا لا نعرف ما يكفي عنها (الأمراض العقلية)، كما أنَّها لا تُعتبر ضمن النظام الصحي. فلا يتعلق الأمر بضغط الدم، والكوليسترول، والتوقف عن التدخين. إنَّ عوامل الخطر هي إساءة معاملة الأطفال، والعنف المنزلي، والتنمر، وعلم الوراثة".
وحددت ورقة بحثية حديثة نشرتها دورية Lancet Psychiatry للطب النفسي عوامل الخطر الرئيسية، التي قد تؤدي إلى المرض العقلي.
تشمل هذه العوامل: الوراثة، والصدمات المُبكرة للدماغ، وإساءة معاملة الأطفال و/أو قلة التحفيز، والتنمر، وإساءة استعمال المواد المخدرة، والصعوبات الاجتماعية، والصدمات النفسية، والتعرض للعنف على الصعيدين المنزلي والعسكري، والهجرة، والعزلة الاجتماعية.
واقترح الباحثون القائمون على الورقة البحثية في إسبانيا، وأستراليا، والولايات المتحدة، وكندا، وهولندا أنَّ استراتيجيات الوقاية قد تشمل:
- اتباع نهج من السياسات، مثل الحد من عدم المساواة، وتحسين رعاية الطفل، وإزالة وصمة العار عن المرض العقلي.
- مبادرات الرعاية الصحية مثل الكشف عن المخاطر الوراثية، والأمراض العقلية لدى الوالدين، وتأخر مؤشرات النمو لدى الأطفال الصغار.
- اتباع أفضل الممارسات التعليمية مثل التعامل مع التنمر، والتأكيد على أهمية التغذية وممارسة الرياضة، وتعليم الأطفال ليكونوا واعين بطريقة تفكيرهم.
تُصيب معظم الأمراض العقلية الناس للمرة الأولى قبل سن 25 عاماً، وهو الأمر الذي دفع آن جون، وهي أستاذة في جامعة سوانسي التي تنصح الحكومة الويلزية حول الوقاية من الانتحار وإيذاء الذات، إلى الإشارة إلى أنَّه من المنطقي أن يكون جزءاً كبيراً من جهود الوقاية في مرحلة الدراسة الثانوية.
وتؤيد آن فكرة تُسمى "نهج التعامل مع المدرسة بأكملها"، وهو نهج يحظى باهتمام في المملكة المتحدة، ونيوزيلندا، وأماكن أخرى.
ويؤكد هذا النهج على مهارات التأقلم والمرونة، ويرى أنَّ الصحة العقلية الإيجابية للطلاب هي مهمة أساسية ضمن الواجبات الأخلاقية لأي مدرسة.
ما هي السن الفضلى لممارسة أساليب الوقاية من الأمراض العقلية؟
ويعتقد ريكاردو أرايا، أستاذ في جامعة كينجز كوليدج لندن، أنَّ العمل على ذلك يجب أن يبدأ في وقتٍ مبكر أكثر.
شارك أرايا في التجارب التي شملت الأطفال قبل سن المراهقة في بريطانيا، والبرازيل، وشيلي، حيث ساعد على غرس قدر أكبر من المرونة النفسية. ويقول أرايا: "نحن نساعد الأطفال على فهم العواطف، والاستجابات الطبيعية، وأنَّ ما تفعله سيكون له تأثير على ما تشعر به، وكيفية تفسير الأشياء التي تحدث، وكيف يمكنك تسميم حياتك الخاصة من خلال التوصل إلى التفسير الخاطئ لسبب حدوث الأشياء".
ويشير أرايا إلى عمل الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، جيمس هيكمان، الذي أظهر أنَّ الاستثمار المُستهدف للطلاب في مرحلة ما قبل المدرسة الذين بحاجة إلى مساعدة يؤتي ثماره بنسبة 13% سنوياً في صورة نتائج أفضل في الصحة، والسلوك الاجتماعي والتوظيف.
ويقول أرايا: "يجب أن يحدث ذلك في سن العاشرة أو يكون قد فات الآوان من حيث الوقاية".
ويقول وايتفورد إنَّ تشجيع الناس على تجنب الكثير من الإجهاد والضغط من شأنه أن يقلل من "الضرر التلقائي المتراكم مع تعرض الشخص لتوترات متكررة أو مزمنة"، وهو عبارة عن مجموعة من الصدمات النفسية التي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
ويُذكّر وايتفورد أنَّ الوقاية من الأمراض العقلية تدور حول تغيير طريقة تفكير الناس. ويقول هاملت في المسرحية التي كتبها ويليام شكسبير: "لا يوجد شيء جيد أو سيئ، لكن التفكير هو الذي يجعل الأمر كذلك"، لقد استغرق الأمر 400 عام حتى يفهم الناس ما يعنيه.