أظهرت انتخابات البرلمان الأوروبي أنه أصبح مفكَّكاً بشكل غير مسبوق، وهو الأمر الذي يثير مخاوف من طريقة اتخاذ القرار بعد أن أصبح متشرذماً بهذا الشكل.
وانصبَّ التركيز في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019 على صعود الشعوبيين اليمينيين المتطرفين، الذين عقدوا العزم على تمزيق التقسيم التقليدي للبرلمان القائم على وسط اليمين/وسط اليسار، وهو التقسيم الذي دام عقوداً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
كما يسعى هؤلاء اليمينيون للحدَّ من سُلطة الاتحاد الأوروبي؛ في محاولة لإعادة السلطة إلى أيدي الدول الأعضاء بالاتحاد.
إذ يحاول ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة الإيطالي، تشكيل تحالف من الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة، مثل حزب الجبهة الوطنية الذي تتزعمه ماري لوبان في فرنسا، وحزب البديل من أجل ألمانيا AFD الألماني، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الشعب الدنماركي (DPP) وحزب الفنلنديين الحقيقيين الفنلندي، لتحقيق هذه الأهداف.
ما حجم المنتقدين للاتحاد الأوروبي بعد الانتخابات؟ وكيف تجرى محاولة زيادة وزنهم؟
"انقلاب نائب رئيس الوزراء الإيطالي"، كما تصفه الصحيفة البريطانية، يهدف إلى توسيع مجموعة قائمة أصلاً من اليمينيين المنتقدين للاتحاد الأوروبي عن طريق ضم أعضاء من مجموعتين أخريَين.
فإذا تمت إضافة القوميين المحافظين والقوى اليسارية المتطرفة، فسيبدو أن المعسكر "الأقل ميلاً إلى الاتحاد الأوروبي" -وفقاً للنتائج الأولية- قد يحصد ثلث مقاعد البرلمان البالغ عددها 751 مقعداً.
وقد أدى هذا إلى صدور تقارير إعلامية عن اجتياح موجة عاتية من المنتقدين للاتحاد الأوروبي للبرلمان الأوروبي.
لكن الصحيفة ترى أن التغيير الذي أحدثته الانتخابات لا يعادل عاصفة دخول دونالد ترامب للبيت الأبيض أو صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي زلزلت السياسة البريطانية. إذ لا تزال القوى الموالية للاتحاد الأوروبي تتمتع بأغلبية مُطمئِنَة.
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي ستجعل عمله أكثر تعقيداً
سوف يصبح عمل البرلمان الأوروبي أكثر تعقيداً، لكن هذا لا يرجع إلى تقدُّم الشعوبيين فحسب.
فقد اكتسب البرلمان صلاحيات إضافية كبيرة في السنوات الأخيرة ويؤدي الآن دوراً رئيساً في العملية التشريعية للاتحاد الأوروبي، ومع النتائج الأخيرة ستزداد الصعوبات.
فمنذ أول انتخابات أوروبية أُجريت عام 1997، كان يدير البرلمان مجموعتان رئيستان: يمين الوسط ويسار الوسط، وهو ما كان يعكس حقيقة أن السواد الأعظم من مواطني الاتحاد الأوروبي كان يعيش في بلدان تحكمها أحزاب تنتمي إلى إحدى هاتين المجموعتين.
ولكن مع التراجع المطرد لأحزاب الوسط بأوروبا، تراجع تمثيل هذه الأحزاب للناخبين في البرلمانات الوطنية.
وحاليا تحكم عدد من الدول الأعضاء الرئيسة، مثل إيطاليا واليونان وبولندا وفرنسا، من قبل أحزابٌ لا تنتمي إلى حزب الشعب الأوروبي ولا إلى تحالف الاشتراكيين والديمقراطيين.
على هذا النحو، يصبح من المنطقي أن تخسر هاتان المجموعتان الكبيرتان عددا كبيراً من المقاعد في البرلمان الأوروبي (أكثر 80 عضواً) ، وفقاً للنتائج الأولية- وبالتالي تفقد لأول مرة، أغلبيتهما التاريخية المشتركة.
وهذه حصص الأحزاب الجديدة التي دخلت البرلمان، وليست كلها متطرفة
أما الأحزاب التي حصدت مقاعد أكثر أو دخلت لأول مرة، فهي حزب الديمقراطيين الأحرار الليبرالي (40 مقعداً، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى حزب الجمهورية إلى الأمام الذي أسسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون).
وكذلك حزب الخضر (نحو 20 مقعداً) والقوميين اليمينيين (نحو 30 أيضاً، بفضل حزب الرابطة الذي يتزعمه سالفيني).
والنتيجة برلماناً متشرذماً بدرجة لم تحدث من قبل، حسب وصف The Guardian.
واليمينيون المتطرفون مختلفون فيما بينهم
وهذا التشرذم يشمل المعسكر"الأقل دعماً للاتحاد الأوروبي" من القوميين والمنادين بالسيادة والمنتقدين للاتحاد الأوروبي، ويزيد من حدَّته الاختلافات العميقة في الأيديولوجية والسياسة.
على سبيل المثال، فإن الخلاف حول الموقف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جعل حزبي القانون والعدالة القومي البولندي وديمقراطيي السويد اليميني المتطرف يتحاشيان الانضمام إلى تحالف سالفيني، لأنهما لا يثقان بولعه بالرئيس الروسي.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب الشعب الدنماركي اليمينيَّين هما من أشد الليبراليين الداعمين للسوق الحرة، لكن الزعيمة الفرنسية ماري لوبان تعارض "العولمة غير المنضبطة"، وترغب في زيادة الإنفاق العام.
وفيما يتعلق بالهجرة، يفضل سالفيني نظام الحصص الذي يُلزم الدول الأعضاء توزيع طالبي اللجوء بشكل أكثر إنصافاً على دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يخفف الضغط على دول "الخط الأمامي" بجنوب أوروبا؛ لكن الديمقراطيات غير الليبرالية في شرق أوروبا، وعديداً من الدول الأخرى، ترفض أي شيء يشبه هذا المخطط.
والنتيجة أن اتخاذ القرار داخل البرلمان الأوروبي سيكون أصعب وأكثر إزعاجاً
وهذا يعني عمليات التصويت السهلة عبر حشد الأغلبية، الذي كان يتحقق في البرلمان الأوروبي لتمرير تشريع خاص بالاتحاد الأوروبي في الماضي، سيصبح أمراً صعب الحدوث.
إذ ستصبح الائتلافات المشكَّلة من مجموعات مختلفة أكثر شيوعاً، وهو ما قد يعقِّد عملية صنع القرار في الأمور الحساسة، مثل ميزانية الاتحاد الأوروبي المقبلة، وضوابط الحدود وتدابير المناخ.
وما سيزيد من صعوبة الأمور، العوائق السياسية التي يواجهها حزب الشعب الأوروبي في سعيه للحصول على دعم أعضائه من اليمين.
إذ إن هذا النوع من تحالف يمين الوسط/اليمين المتطرف الذي حكم النمسا حتى وقت قريب، لا يمكن تصوُّره في بروكسل، لأسباب ليس أقلها أنه سيقسم حزب الشعب الأوروبي، المنقسم بالفعل حول كيفية التعامل مع زعيم المجر غير الليبرالي، فيكتور أوربان.
لكن البعض يرى أن هناك حسنات لهذا التشرذم
يعتقد كثيرون أن التشرذم لن يكون أمراً سيئاً. وقال أغاتا جوستينسكا ياكوبوفسكا وليونارد شويت، من مركز الإصلاح الأوروبي: "قد يجعل برلمان أوروبي أكثر تشرذماً من عملية صنع القرار الأوروبي أكثر إزعاجاً وانقساماً".
وتابعا مستدركَين: "لكنه يمكن أن يكون ميزة للديمقراطية الأوروبية؛ إذ قد تؤدي المنافسة السياسية الأكبر على مستوى الاتحاد الأوروبي إلى زيادة الاهتمام العام بانتخابات البرلمان الأوروبي، وسيكون ذلك بمنزلة تطور مفيد للاتحاد الأوروبي".
ويعتقد لوك فان ميديلار، وهو مؤرخ هولندي بارز للاتحاد الأوروبي، أن وجود "معارضة مناسبة" من النوع الذي يشكله أمثال سالفيني وأوربان -اللذين يهدفان إلى التأثير في المنافسة بدلاً من الصراخ من بعيد، والترويج لإنجازاتهما وتمويل أحزابهما- يمكن أن يعزز البرلمان الأوروبي.
وحتى الآن، يتسم البرلمان في الغالب برغبة في "إلغاء تسييس" المناقشات كلما أمكن، لتصبح مجرد بحث عن حلول فنية أو إجرائية، وفقاً لما قاله فان ميديلار لصحيفة EUobserver، وهو ما قد يعني أن الاتحاد الأوروبي يواجه مشكلة مصداقية.
وقال إنه مع ذلك، قد تؤدي منافسة سياسية أصدق إلى زيادة قوة البرلمان، لأنه "سيصبح تجسيداً أكثر مصداقية للطيف الكامل للرأي العام في الاتحاد الأوروبي".