هي ليست مبالغة فمارك زوكربيرغ البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاما يمتلك إمكانيات وصلاحيات تفوق ما يمتلكه رئيس أقوى دولة في العالم، وكان هذا واضحا العام الماضي أثناء استجوابه من جانب الكونغرس الأمريكي في قضية انتهاك خصوصية ملايين المشتركين في مملكته المعروفة بالفيسبوك، حيث بدا واثقا وكأنه أقوى من مستجوبيه من أعضاء الكونغرس، فكيف وصل إلى تلك المكانة وما هي قصة صعوده الصاروخي وماذا يمكن أن يتسبب فيه القيصر الشاب؟
القيصر أقوى من ترامب؟
بقى أن نذكر أن ثروة زوكربيرغ بلغت مطلع العام الحالي نحو 70 مليار دولار أمريكي، تتمثل في 18% من أسهم شركة فيسبوك وهي 7 أكبر شركة عملاقة على مستوى العالم، لكن الأهم من القيمة المالية هي أن زوكربيرغ يمتلك 60% من حق التصويت في قرارات فيسبوك، أي أنه المتحكم الوحيد في أخطر سلاح ثقافي اخترعه الإنسان.
ولو قارنا بين زوكربيرغ وترامب سنجد أن الأول أقوى بكثير، كيف؟ صحيح أن ترامب يرأس القوة العظمى الأبرز على سطح الكوكب والتي تمتلك القوة العسكرية الأكثر فتكا واقتصادا تبلغ قيمته 18 تريليون دولار سنويا، ولكن سلطات الرئيس الأمريكي محدودة بقوانين وكونغرس ودستور ورأي عام واعتبارات سياسية واقتصادية تجعله غير قادر على تنفيذ أي قرار يراه مناسبا، كما أنه لا يمكن أن يظل في منصبه لأكثر من 8 سنوات.
على الجانب الآخر، زوكربيرغ هو المتحكم الوحيد في شركة عملاقة في المركز السابع عالميا، ويتحكم من خلال فيسبوك وواتساب وانستغرام في حياة أكثر من ملياري شخص، ولكن الأهم أنه يمتلك سلطة مطلقة لا تخضع لمراقبة أو مساءلة سواء داخل الشركة أو خارجها، ويمكنه أن يظل في منصبه مدى الحياة ومع كل يوم تزداد قوته وتتسع صلاحياته.
حياة القيصر الشخصية في سطور
ولد مارك إيليوت زوكربيرغ 14 مايو\أيار 1984 في بلينس بولاية نيويورك الأمريكية، ينتمي لأسرة يهودية، وبعد تخرجه من اكاديمية اكستر في 2002, التحق بجامعة هارفارد وبدأ يقوم بعمليات تطوير في الجامعة التي تحتل المرتبة الأولى في العالم، حيث طور برنامج يسمى كورس ماتش والذي يساعد الطلاب على اختيار صفوفهم بناء على اختيار الطلاب النخب السابقين في الجامعة.
يجيد مارك خمس لغات هي الإنجليزية والعبرية والفرنسية واليونانية واللاتينية القديمة، وهو مثقف للغاية ومبرمج ورجل أعمال، متزوج ولديه ابن وابنة.
قصة زواج مارك عام 2011 في حد ذاتها تستحق التوقف حيث جاء 100 شخص مدعوين إلى منزله في مدينة بالو ألتو بكاليفورنيا للاحتفال بتخرج صديقته بريسيلا تشان من كلية الطب يكتشفوا أنهم جاءوا ليحتفلوا بزفاف مارك (28 عاما وقتها) وبريسيلا صديقته منذ 9 سنوات! وتزامن قراره الزواج المفاجئ بقرار آخر وهو توقف مارك عن تناول اللحوم وأصبح نباتيا من يومها.
شخصية العام في 2010
يمثل اختيار مجلة التايم الأمريكية الشهيرة لمارك كشخصية العام في 2010 محطة هامة يمكننا من خلالها أن نلقي الضوء على القدرة الخارقة للعادة التي يمتلكها زوكربيرغ اليوم.
فقد رأت المجلة وقتها أن مؤسس موقع "فيس بوك" ساهم من خلال موقع التواصل الاجتماعي الأشهر في تغيير حياة مئات ملايين البشر والمجتمع بالكامل.
وعبر عن ذلك وقتها مدير تحرير المجلة ريتشارد ستينغل بقوله أن عدد مشتركي "فيس بوك" وصل إلى 500 مليون شخص ساهم الموقع في ربطهم ببعضهم البعض، مضيفا "ساهم (مارك زوكربرغ من خلال الموقع) في خلق نظام جديد لتبادل المعلومات وغير حياتنا كلها".
فماذا عن اليوم وقد تخطى مشتركي الفيسبوك مليار شخص ؟!
الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان شريك مارك في تأسيس الفيسبوك كريس هيوز الذي زامله في هارفارد وأسس معه الموقع، وذلك في سياق مقال طويل نشرته نيويورك تايمز يحذر فيه من خطورة فيسبوك وينادي بضرورة تقسيمه إلى شركات أصغر.
إحدى الجمل المعبرة عن مدى التأثير الهائل الذي يمتلكه زوكربيرغ هي "إنه إنسان وهذا ما يجعل قوَّته التي ليس لها رادعٌ أمر شديد الخطورة."
ما الذي يجعل زوكربيرغ أقوى من رؤساء دول؟
يقول هيوز: "يملك مارك نفوذاً هائلاً، أكثر بكثيرٍ من أي أحدٍ آخر في القطاع الخاصِّ أو الحكومة، فهو يتحكَّم في ثلاث منصَّاتٍ أساسيةٍ للتواصل -فيسبوك وإنستغرام وواتساب- يستخدمها ملياراتٌ من الناس كل يومٍ، ويؤدِّي مجلس إدارة فيسبوك دوراً أشبه بلجنةٍ استشاريةٍ عن جهةٍ إشرافيةٍ، لأن مارك يتحكَّم في نحو 60% من أسهم التصويت.
"وحده مارك قادرٌ على أن يقرِّر كيفية ضبط خوارزميات فيسبوك لتحديد ما يراه الناس على صفحاتهم الرئيسية، وأية إعدادات خصوصيةٍ يمكنهم استخدامها وحتى الرسائل التي تصلهم. وهو يضع القواعد لكيفية التمييز بين الخطاب العنيف والمثير للفتنة وبين ما هو مُسيءٌ فقط، ويمكنه أن يختار إغلاق أحد المنافسين من خلال شرائه أو حجبه أو تقليده."
هل ترجم مارك تأثيره إلى واقع؟
الرد يأتي أيضا على لسان هيوز الذي يرى أن مارك شخصٌ صالحٌ طيِّبٌ، "لكن يغضبني أن تركيزه على التنمية أدَّى إلى تضحيته بالأمان والتحضُّر لأجل مشاهدات الإعلانات، وأشعر بخيبة الظنِّ بنفسي وبفريق فيسبوك في بداياته بسبب عدم تفكيرنا لمدَّةٍ أطول في كيف يمكن لخوارزمية الصفحة الرئيسية أن تغيِّر ثقافتنا، وتؤثِّر في الانتخابات وتعزِّز زعماء القوميَّة، وأخشى أن يكون مارك قد أحاط نفسه بفريقٍ يؤيِّد معتقداته عوضاً عن أن يتحدَّاها."
كي نضرب مثالا على ما يمكن لمارك أن يفعله، نتوقف عند فضيحة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتي اتهمت فيها شركة دعاية انتخابية تسمى كيمربيدج أناليتكا. كانت الشركة قد وقعت عقدا بقيمة 15 مليون دولار مع روبرت ميرسر وهو مستثمر من رعاة الحزب الجمهوري في أميركا لمساعدة الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عام 2014.
المشكلة التي واجهت الشركة أنها لا تمتلك بيانات تخص الناخبين الأمريكيين، فقامت بالحصول على معلومات أكثر من 50 مليون مستخدم أمريكي لموقع فيسبوك دون تصريح منهم وذلك في أكبر تسريب للبيانات في التاريخ، ما تكشف من مستندات ومن شهادات موظفين سابقين في الشركة.
وقد مكن ذلك الاختراق الشركة من استغلال الأنشطة الاجتماعية لقطاع ضخم من الناخبين الأمريكيين وتطوير أساليب تأثير وإقناع مثلت أساس عمل الشركة في حملة الرئيس ترامب في 2016.
ويمكن في ذات السياق أن نذكر الثورة المصرية في يناير 2011 والتي أطلق عليها "ثورة الفيسبوك" نسبة إلى الدور الكبير الذي لعبه موقع التواصل الاجتماعي في الحشد والإعلان عن فعاليات التظاهر وكذلك كوسيلة لنشر المعلومات في ظل تحكم النظام في وسائل الإعلام التقليدية سواء قنوات أو محطات إذاعية أو مواقع وصحف.
رجل واحد يتحكم في محادثات ملياري شخص
نعود لهيوز الذي يرى أن الجانب الأكثر إشكالية في قوة فيسبوك هو سيطرة مارك الأحادية على المحتوى، فلا توجد سابقة تُبرز قدرته على متابعة أو تنظيم أو حتى مراقبة المحادثات بين ملياريّ شخص، فمهندسو فيسبوك يكتبون الخوارزميات التي تختار تعليقات ومنشورات المستخدمين التي تظهر في الصفحات الرئيسية لأصدقائهم وعائلاتهم، وتخضع ملكية هذه الخوارزميات لفيسبوك، وهي معقدة جداً، حتى إن العديد من موظفي فيسبوك أنفسهم لا يفهمون طريقة عملها.
وفي يناير/كانون الثاني 2018، أعلن مارك أن الخوارزمية ستفضِّل المحتوى غير الإخباري الذي يشاركه الأصدقاء والأخبار من المصادر "الموثوقة"، وهو ما فسَّره مهندسو فيسبوك –برغم حيرة بعضهم– بتعزيز نشر أي شيء يندرج تحت فئة "السياسة، والجريمة، والكوارث".
بلغة أبسط مارك زوكربيرغ يمتلك القدرة من خلال فيسبوك على تغيير حياة أكثر من 2 مليار شخص حول الكرة الأرضية، وهي بالقطع قدرة لا تتوفر لأي شخص آخر على وجه الكرة الأرضية حاليا، وربما لم تتوفر أصلا لأي شخص آخر عبر التاريخ.