هل هناك فوائد للغضب، وهل يمكن تحويل الغضب لطاقة إيجابية؟، وهل عصرنا الحالي أكثر إثارة للغضب من الأزمنة السابقة.
تبدو كلها أسئلة ملحة علينا في وقت أصبح فيه الشعور بالغضب أحد أكثر المشاعر انتشاراً بين الناس، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
هل العصر الحالي أصبح أكثر غضباًَ من الأزمنة الغابرة؟
يتفق الجميع على أن العالم يزداد غضباً، ولكن الحقيقة هي أن قياس حرارة الانفعالات لعصر كامل لا يجدي نفعاً. فمن ناحية، يكاد يكون من المستحيل العثور على المنظور التاريخي اللازم: فعلى سبيل المثال، يبدو لك الغضب أثناء القيادة ظاهرة حديثة، حتى تكتشف أنه في عام 1817، قدم أحدهم بلاغ للشرطة ضد اللورد بايرون لأنه "سدد لكمة لأذن أحد المصاحبين له في العربة، كان فظاً مع حصاني". ومن السهل أيضاً التغاضي عن الطرق التي يتغير بها الأفراد: فأنا أتذكر جيداً أن الحياة في أوائل الثمانينيات كانت أقل إحباطاً، ويعود ذلك بالتأكيد إلى أنني كنت طفلاً أحيا حياة رغدة، تُدفع فيها كل النفقات.
ومع ذلك، فإن أفضل البيانات التي لدينا تشير إلى أننا، بصفة عامة، نزداد غضباً. في العام الماضي، قال 22% من المشاركين في جميع أنحاء العالم لمنظمة Gallup إنهم شعروا بالغضب، وهو رقم قياسي منذ طرح السؤال لأول مرة عام 2006. وهناك شيء آخر، تزداد صعوبة قياسه، ويبدو أنه مختلف أيضاً: وهو أن غضبنا قد تعرض لما يشبه التخثر، وأصبح فاسداً. فعلى صعيد المجتمع، لا يبدو أننا نعبر عن غضبنا ونتجاوز الأمر، بل إننا نكتمه داخلنا -حتى يشتد ويتحول، في أشد صوره، إلى عنف وكراهية.
هل هناك فوائد للغضب
ونظراً لأن آثار الغضب مروعة جداً في بعض الأحيان، فمن السهل أن نستنتج أن الغضب سيئ بطبيعته- إلا في بعض الحالات المتفرقة التي قد تكون تحولات اجتماعية كبرى، مثل الدفاع عن حق المرأة في التصويت، أو حركة الحقوق المدنية الأمريكية.
لكن الدراسات أظهرت تباعاً أنه حتى الغضب اليومي العادي -أي بعض التعليقات الغاضبة على طاولة العشاء وليس الحملات التي تُشن ضد الظلم- عادة ما يكون له نتائج إيجابية.
إذ وجدت دراسة رائدة أجراها الباحث الأمريكي جيمس أفريل في السبعينيات، وتأكدت نتائجها في السنوات اللاحقة، أن التعبير السلمي عن الغضب ساعد الناس بصفة عامة على فهم بعضهم البعض بصورة أفضل، والتعاون بطريقة أنجع.
فهو وسيلة للتفاوض ونيل المكاسب بالنسبة للطرف الأضعف
وكتب تشارلز دويج في مجلة Atlantic مؤخراً مُلخصِاً النتائج التي توصل إليها أفريل: "عندما يحتج أحد المراهقين على القيود المفروضة عليه، يوافق والداه على تخفيفها قليلاً، طالما أن ابنهما وعد بأن يعمل على رفع درجاته. وحتى مواجهة الزوجة الغاضبة لزوجها الخائن تؤدي إلى محادثة مثمرة".
ويعد ذلك منطقياً من الناحية التطورية. إذ لم يستمر شعور واسع الانتشار وقديم مثل الغضب عن طريق الصدفة، ولكنه يخدم غرضاً واضحاً: حماية الحدود وردع التهديدات والحدّ من تحوله لفرصة مغرية لإيذائك أو استغلالك- أن يجعل المستهدف من الغضب "أقل استعداداً لفرض عقوبة وأكثر استعداداً لتحمل العقوبة"، على حد تعبير عالم النفس آرون سيل.
لكن المهم تحوله إلى دافع للبحث عن حل
فالغضب يمنحك شعوراً بالسيطرة والدافع للتصرف بالطريقة اللازمة لتأكيد هذه السيطرة، ويحدث ذلك عندما يساعد مراهقاً غاضباً في التفاوض مع والديه ليمنحاه المزيد من الحرية.
غير أن النقطة الحيوية حول هذه الانفجارات الغاضبة المثمرة -سواء في عصر السافانا في فترة ما قبل التاريخ، أو في المواقف المحلية العصرية في بحث أفريل- هي أن هناك مساراً واضحاً لترجمة الشعور بالغضب إلى أفعال، وبالتالي التوصل إلى حل.
المشكلة أن عصرنا الحالي مملوء بالغضب الذي ليس له فائدة
ولكننا، على النقيض من ذلك، شيدنا عالماً بارعاً في توليد أسباب الغضب، ولكنه فاشل في تزويدنا بأي وسائل بنّاءة للتعامل معه. إننا نعيش في مجتمعات أكثر كثافة، وبالتالي نحصل على دعم بعضنا البعض في الكثير من الأحيان، لكن غضبنا عادة ما يكون مع غرباء، مما يعني أنه لا توجد علاقة مسبقة تجمعنا بهم يمكن مناقشتها وإعادة تقييمها. (فمن المرجح أن يكون صراخك في وجه الأحمق الذي يدفعك على رصيف القطار المرة الوحيدة التي تقابله فيها على الإطلاق).
إننا نواجه قوى نظامية هائلة تهدد راحتنا -الأتمتة والعولمة وقبل كل شيء تغير المناخ- ولكنها توفر طرقاً قليلة للأفراد أو المجتمعات لتحويل غضبهم إلى تغيير. وبالمصادفة، يفسر هذا أيضاً السبب وراء أن "التنفيس" عن غضبك، بضرب وسادة أو ما شابهها، لا ينجح، بل ويمكن أن يزيد الأمر سوءاً. إذ أن هذه النصيحة القديمة تقوم على افتراض أن المشاعر تحتاج ببساطة إلى متنفس. لكن الغضب ليس رياحاً عالقة. فهو لا يتطلب مكاناً ينطلق إليه. بل يتطلب فعل شيء.
وشبكات التواصل الاجتماعي تعتمد على إثارة غضبك كما فعلت الصحف الصفراء من قبل
ولسنا بحاجة إلى القول إن الشبكات الاجتماعية هي المكان الذي وصلت فيه هذه المشكلة إلى مداها الأقصى. إذ تُعرضنا خوارزميات اقتصاد الانتباه باستمرار لقصص وآراء تثير الغضب، وذلك لسبب مباشر وهو أن الغضب ينتشر بصورة أسرع وأشد من المشاعر الأخرى- لذلك فأنت على الأرجح تضغط إعجاب أو مشاركة، وتظل متسمراً أمام فيسبوك أو تويتر عندما تكون غاضباً. واكتشفت الصحف الصفراء وفوكس نيوز هذا الأمر منذ سنوات؛ ولكن على الإنترنت، يمكن تخصيص مجموعة الأمور التي تثير الغضب بدقة لتشمل كل ما يثير غضبك بصفة شخصية. والأمر لا يتعلق كثيراً بأن منصات التواصل الاجتماعي مليئة بالمتصيدين المتعصبين والأغبياء ذوي الآراء المتعصبة، ولكنه، على الرغم من وجود العديد منهم بالفعل، يتعلق بأن هذه المنصات مصممة للتأكد من أنه لا يمكنك تجنب أولئك الذين يثيرون غضبك.
ومع ذلك، في الوقت نفسه، تتجاوز أهداف الغضب عبر الإنترنت على الأرجح الوصول إلى محادثات مثمرة، إما لأن هذه الأهداف عبارة عن تشكيلات كبيرة لا تحمل تعريفاً واضحاً -المهاجرون، ومؤيدو البريكست، والناخبون الجمهوريون، والذين لا يؤمنون بالطب- أو، في حالة نظريات المؤامرة، لأنها غير موجودة على الإطلاق.
المهمة الأسمى للقائد تحويل الغضب لقوة التحول
إن العبقرية المعقدة لمواقع التواصل الاجتماعي تكمن في أنها تبدو وكأنها تقدم شيئاً بنّاءً لتفعله، عبر التفاعل مع المنشورات، فيما يصبح كل ما يفعله ذلك هو المساعدة في انتشار الغضب بصورة أكبر. ومن هنا تأتي الاستراتيجية الثنائية التي يتبعها الزعماء الشعبويون: أولاً، الإقرار بحقيقة الغضب، في حين يفضل ساسة السلطة القضاء عليه -وبعدها يبقونه محتدماً، لتعزيز سلطتهم، وزيادة الضغط عليهم عبر الحديث عن أعداء وهميين، بدلاً من توجيهه بطريقة مسؤولة نحو الحل.
وقال مارتن لوثر كينغ: "لا يكفي أن يشعر الناس بالغضب". فـ"المهمة الأسمى" للقائد هي "تنظيم وتوحيد الناس حتى يصبح غضبهم قوة تحول". ويظل قوله هو التعبير الأبلغ والأدق عمّا لا يفعله الغوغائيون مثل دونالد ترامب.
وبهذه الطريقة يستغل الزعماء الشعبويون متعة الغضب
ولمحاربة الاستغلال الشعبوي للغضب -وللتعامل مع الغضب في حياتنا اليومية أيضاً- قد نبدأ بالاعتراف بحقيقة أن ترامب وآخرين، بطريقة غريزية ما، يفهمون بالفعل أن الغضب جزء منا.
بل وأنه في كثير من الأحيان جزء يشعرنا بمتعة غريبة.
إن متعة الغضب تشعرنا بالارتياح، مما يؤدي إلى انخفاض الكورتيزول، وهو هرمون التوتر، وزيادة إفراز هرمون نورإبينفرين، الذي يخفف الألم الجسدي.
ويقول أرسطو: "الإنسان الغاضب يهدف إلى الحصول على ما يمكنه الحصول عليه، والإيمان بأنك ستحقق ما تصبو إليه يبعث على السرور".
فالغضب قد يكون بديلاً عن القلق أو الخوف
ومن وجهة نظر بعض المعالجين النفسيين، يكون الغضب دوماً آلية دفاعية -شعور ثانوي ينشأ لاستعادة الشعور بالسيطرة عندما لا تتقبل الذات شعوراً آخر، مثل القلق أو الخوف.
يمكننا القول باختصار إن الغضب ليس جنوناً- سواء في أنفسنا أو في الآخرين، وحتى عندما ينتهي الأمر بالتعبير عنه بطرق بغيضة. فهو دائماً يكون منطقياً بطريقة ما؛ وسنصبح قادرين على التعامل مع أسوأ مظاهره عندما نتوقف عن التظاهر بخلاف ذلك.
ولكن هذا لا يعني تبرير الغضب
وهذا لا يعني بالتأكيد أن الغضب دائماً، أو حتى في كثير من الأحيان، له ما يبرره. إذ تقول الفيلسوفة مارثا نوسبوم إنه لا يمكن تبريره على الإطلاق، لأن الرغبة في الانتقام، التي تكمن في أعماق الشعور بالغضب، غير منطقية في طبيعتها.
إن الغضب من سوء المعاملة، معاملتك أو معاملة أي شخص آخر، لا يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويقلل من سوء المعاملة بطريقة سحرية.
قد يثني الانتقام الآخرين عن ارتكاب أي سوء تصرف في المستقبل، بالطبع؛ لكن الحقيقة المتمثلة في الانتقام ممن تسبب في غضبك لا تحقق شيئاً.
ويترتب على ذلك أن الشخص العقلاني بالكامل لن يغضب؛ إذ أن أي أهداف نبيلة التي قد يحققها بتحفيز قوة الغضب، يمكن دائماً تحقيقها، بصفة عامة، بدونها.
يمكن تغيير العالم بدون غضب
وهذه وجهة نظر مفيدة، ليس لأن أياً منا قد يأمل في أن يصبح عقلانياً بالكامل، ولكن لأن إحدى طرق التخلص من غضبك هي أن تسأل نفسك ما إذا كان سيساعد فعلياً في الموقف الذي يشعرك بالغضب. في هذا، تكمل وجهة نظر مارثا أولئك الذين يقولون إن الغضب مفيد ولا تناقضهم؛ فهم جميعاً يتفقون على أن ما يهم هو التصرف البنّاء.
إذا كنت تريد تخفيف حدة غضبك، أو غضب الآخرين، أو الآثار المدمرة للغضب في العالم بأسره، فإن الطريقة الوحيدة المجدية هي أن تفعل شيئاً ملموساً، مهما كان بسيطاً، بطرق من شأنها تحسين الموقف، بدلاً من تأجيج دائرة الغضب.
ولا تنطبق رؤية مارتن لوثر كينغ فقط على المرحلة التاريخية الكبرى التي كان حاضراً فيها، ولكن على الحياة اليومية، أيضاً. فالغضب يمكن أن يكون بداية لشيء ما. ولكنك بعدها تحتاج شيئاً.