قطع عملة قد تعيد كتابة تاريخ أستراليا.
تاريخ هذه العملات أكثر من ألف عام، لا يعرف أحد كيف جاءت لهذا المكان، ولكنها أثارت حماس العديد من العلماء، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فقد تبين أنها جاءت من إفريقيا، وأنها تحوي نقوشاً غامضة قد تكون كتابات عربية.
فكيف تم اكتشافها ولماذا تكتسب عملة واحدة كل هذه الأهمية؟
هذه العملة النحاسية الصغيرة وجدها عالم الآثار مايك هيرمس العام الماضي في رحلة ميدانية إلى جزر ويسيل، شمال شرق أرنهيم لاند. ويعتقد أنها عملة "كيلوة"، وهي منطقة تقع على مبعدة أكثر من 10 آلاف كيلومتر وتوجد الآن باسم تنزانيا، ويرجع تاريخها إلى ما قبل القرن الخامس عشر، حيث قامت فيها سلطنة قديمة تحمل الاسم نفسه.
كان سطح العملة متآكلاً، وقد طُمِسَت أيُّ معالم لتمييزها، ولكن هيرمس كان واثقاً.
وقال هيرمس: "قمنا بوزنها وقياسها، إنها أقرب ما يمكن لعملة كيلوة متآكلة. وإذا كان هذا صحيحاً، فقد يتغيَّر بذلك كل شيء".
عملة قد تعيد كتابة تاريخ أستراليا اكتشفها مجموعة غريبة من العلماء
يعد هيرمس عضواً بمجموعة "أساتذة الماضي" (Past Masters)، وهي مجموعة من المؤرخين وعلماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا وخبراء سك العملات، وعلماء جيولوجيا الزمن، وخبراء آخرين يحققون في المفارقات التاريخية.
وعلى مدار الأعوام الستة الماضية، أوفدوا سبع بعثات إلى ساحل شمال أستراليا، باحثين عمَّا لم يُكتَشَف بعد من الفنون الصخرية، وحطام السفن، والأدوات الحجرية، والبقايا البشرية، والكأس المقدسة، وعملة كيلوة.
ويقول المؤرخ مايك أوين: "الأبحاث حول تاريخ أستراليا ترتكز حول سيدني فقط، وهوية البلد بأكملها قائمة على ذلك. بينما أرنهيم لاند على مبعدة كبيرة جداً نحو الشرق".
ويمتلك أوين في مكتب منزله بضاحية داروين (الواقعة في شمال أستراليا) الكثير من الأدلة على هذا التاريخ غير المعروف.
كنوز من الكتب المتآكلة التي تعود إلى القرن السابع عشر، وأجزاء فخارية وأسلحة قديمة اُكتشفت على الشواطئ المحلية، وبندقية إشارة تعود إلى القرن التاسع عشر من حطام إحدى السفن، ومدفع اكتشفه شخص ما في باحة منزله الخلفية بضاحية داروين منذ عدة أشهر. وعلى رأس ذلك، جمجمة تمساح على لوح خشبي بطول نصف متر من حطام سفينة لبحارة الماكاسان ترجع إلى عام 1895.
ويقول أوين: "لا أسميها كنوزاً، فهي لا تساوي أي شيء. من الناحية التجارية على الأقل".
رجل عسكري كان أول من عثر عليها، ولكنهم لم يثقوا بكلامه
أثناء استكشافه منطقة المد والجزر بجزيرة إلتشو في شهر يوليو/تموز من العام الماضي، لم يكن هيرمس بحاجةٍ إلى كاشف المعادن للعثور على تلك العملة النحاسية الصغيرة. ولم يكن بحاجةٍ حتى إلى الحفر. وجدها على الشاطئ تطل عليه من الرمال بسطحها الأخضر المتقشر.
ولكن اكتشافه لم يكن وليد الصدفة. كان "أساتذة الماضي" يتبعون مسار موري أينزبرغ، عامل رادار بسلاح الجو الملكي الأسترالي، الذي اكتشف خمس عملات كيلوة عندما ارتكزت وحدته العسكرية لفترة وجيزة بالقرب من جزيرة مارتشينبار عام 1945.
وكشف أيزنبرغ عن العملات التي خبأها وقتها في علبة ثقاب بعد 40 عاماً، وسُلِّمَت إلى متحف باور هاوس في سيندي.
وقال هيرمس: "على الرغم من أنها أقدم عملات مُكتشفة في أستراليا، وأنها قد تمثّل مفهوماً جديداً تماماً للتاريخ الأسترالي، كانت هناك شكوكٌ مستمرة بعدم قدرة أيزنبرغ على تحديد موقع اكتشاف تلك العملات بشكل دقيق".
لذا، بحث "أساتذة الماضي" بالقرب من المواقع التي اعتقدوا أنها ملائمة، ووجدت هيرمس عملته على بعد 100 ميل بحري من حيث زعم أينزبرغ أنه اكتشف عملاته.
واللغز الأكبر هو كيفية وصول تلك العملات إلى هذا الجزء من العالم
يقول هيرمس: "لا توجد عملات كيلوة إلا في مملكة كيلوة، وشبه الجزيرة العربية، وجزر ويسيل. إنه توزيعٌ غريبٌ ومحيِّر".
وطرح أوين عدة نظريات. قد تشير تلك العملات إلى وجود اتصال بين سكان أستراليا الأصليين وتجار كيلوة منذ أكثر من 700 عام. وربما لم تكن جزر ويسيل هي الوجهة المقصودة للعملات. ربما كانت هناك علاقات تجارية بين كيلوة والصين، وخرجت السفينة عن مسارها أو هروباً من القراصنة.
وقال هيرمس: "وصل البرتغاليون إلى جزيرة تيمور بحلول عام 1514-1515، هل من الصعب عليهم الإبحار لثلاثة أيام أخرى شرقاً والرياح الموسمية مواتية!".
إذاً، ما الذي يعنيه الاكتشاف المحتمل لعملة مسكوكة قبل 500 عام من وصول جيمس كوك، وأكثر من 300 عام من وصول الهولنديين، بالنسبة لتاريخ أستراليا قبل الأوروبيين؟
ويقول خبير سك العملات بيتر لاين إنها "لو" كانت عملة كيلوة، سيضفي ذلك بعداً مثيراً لتاريخ أستراليا.
وأضاف: "تمثل تلك الاكتشافات قيمة مهمة جداً يستهين بها الكثير من الأشخاص. عندما يتعلق الأمر بأهمية تاريخية، كيف تضع قيمة لشيء مثل هذا من الأساس؟".
طريقة غير تقليدية لفحص العملات
وتوّلى جاك فيني، رئيس مركز الأشعة التشخيصية I-Med بمدينة داروين، مسؤولية التعرف على العملة، في خطوة غير تقليدية لمجموعة "أساتذة الماضي".
وقال أوين: "يمكن استخدام جهاز أشعة مقطعية دقيق وخاص لرصد سطح العملة بدقة متناهية، ولكن لا يمكننا الوصول لمثل هذا الجهاز، قد يكون ذلك خطوتنا التالية".
أمسك فيني العملة الرفيعة والهشّة في يده بحذر، وفحص حوافها الخشنة وسطحها المتعرج المغطّى بالقشور والسخام.
وقال: "لا أمل في هذه العملة، احتمالية نجاحي في التعرف عليها 0%".
فرد عليه أوين: "هذا ما قلته المرة السابقة".
كانت تلك المرة السابقة في شهر مارس/آذار، عندما تبادر لأوين فكرة استخدام الأشعة المقطعية للتعرف على إحدى اكتشافات هيرميس من الجزر الإنجليزية الواقعة شرق جزر ويسيل. حيث تمكنت أشعة الفحص من اختراق طبقة القشور الخضراء على العملة النحاسية لتكشف بوضوح عن ختم VOC (شركة الهند الشرقية الهولندية) والتاريخ: 1790.
بالرغم من وجود أربع عملات لشركة الهند الشرقية الهولندية في مجموعة أيزنبرغ التي اكتشفها عام 1945، وعدم اعتبارها عملة غير شائعة في غرب أستراليا، هذه العملة كانت فريدة.
فهي نحاسية، وسُكّت في أوترخت وليس في آسيا، مما يجعلها أول اكتشاف معزز بالأدلة في المقاطعة الشمالية لعملة شركة الهند الشرقية الهولندية مصنوعة في أوروبا.
وقال لاين: "ربما وجدت طريقها إلى هنا في جيب أحد البحارة اختلطت عليه بعملة أخرى لشركة الهند الشرقية الهولندية".
بينما يعتقد أوين أن العملة وصلت إلى الجزر الإنجليزية عن طريق بحارة الماكاسان، الذين كانوا يزورون المنطقة باستمرار ولديهم تواصل مع الهولنديين.
وتساءل: "ولكنهم فقراء، كيف وصلت إليهم تلك العملة؟".
تشابه قوي
للأسف، هذه المرة كان فيني محقاً؛ عند وضع العملة القديمة بحذر على وسادة وأدخلها للفحص بالأشعة المقطعية، لم تظهر سوى نقطة سوداء على الشاشة. وظهر شكلان دائريان غامضان على إحدى الحواف، ولكنها قد تكون مجرد تعرجات وتشوهات وليست جزءاً من التصميم الأصلي للعملة.
ولكن عند وضع تلك العملة بجوار عملة كيلوة اشتراها أوين من موقع eBay منذ عدة سنوات، كان التشابه قوياً. حتى نمط الصدأ على إحدى الحواف موجود في العملتين.
الخطوة التالية ستكون اختبار التركيب المعدني للعملة ومقارنته بتركيب عملات كيلوة المعروفة، ولكن أوين قال إن ذلك قد يستغرق عدة أشهر.
غادر هيرمس وأوين المختبر، بعزيمة لم تُنتقص جراء الفشل في التعرف على العملة، وقادوا سيارتهم لمسافة 6 كيلومترات وصولاً إلى بافالو كريك سعياً وراء لغز ومغامرة أخرى.
بينما ينتظر ديون وجيس ماكلين بالقرب من مرفأ القوارب بأجهزة كشف المعادن، بانتظار أن تظهر لهم نقطة محددة من اليابسة عند حدوث الجزر حيث اكتشفوا إحدى العملات هناك في شهر فبراير/شباط الماضي.
وقال ديون: "خلال 20 عاماً من الكشف عن المعادن، ربما هي أفضل ما وجدته على الإطلاق. وذلك لقيمتها التاريخية المحتملة".
نقوش عربية تؤشر إلى أنها عملة فارسية
أحضر العملة إلى أوين، وأشارت أبحاثه –غير الحاسمة حتى الآن– إلى وجود ما يشبه النقش العربي على العملة النحاسية الصغيرة، مطليّاً أو مرسوماً بالذهب، مع ثقب صغير بإحدى الحواف. ويعتقد أوين إنها عملة إيرانية منذ 500 عام، أو إنها، بسبب هذا الثقب، حلية من حزام إحدى الراقصات.
ويعتقد أن سلطة كيلوة مؤسسوها من أصول فارسية.
ويقول أوين: "لا أعرف إن كان هناك راقصات في بافالو كريك، ولكن تعجبني النظرية".
وصلت العملة بعد ذلك إلى بيتر لاين، خبير سك العملات، عندها سحب أوين وهيرمس أجهزة كشف المعادن وانضما للأخوين ماكلين على الشاطئ.
وخلال نصف ساعة من الحفر، حصل الرباعي على قطعة معدنية من درع عسكري قديم، وثلاث رصاصات من الحرب العالمية الثانية، وملعقة، و3.45 دولار على هيئة عملات.
وقال هيرمس إن هذا التنوُّع ناتجٌ عن الحرب وإعصار تريسي الذي ضرب المدينة عام 1974، وموجات المد والجزر الكبيرة، مما يعني إمكانية ظهور كل أنواع الأشياء على سواحل أستراليا الشمالية، وليست جميعها ذات أهمية تاريخية، وقد تغفل بسهولة عن الكثير من الأشياء أو تخطئ في التعرف عليها.
ولكن ربما، إن كانت العملة المُكتشفة في جزيرة إلتشو ترجع لمملكة كيلوة، فقد يتغيَّر التاريخ الأسترالي عمَّا نعرفه الآن.