من بوغوتا إلى السودان.. أدلة تكشف كيف يجري تجنيد المرتزقة الكولومبيين لصالح قوات “الدعم السريع” ومن يقف وراء العملية

عربي بوست
تم النشر: 2025/11/14 الساعة 06:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/11/14 الساعة 06:17 بتوقيت غرينتش
تظهر أدلة تورط كولومبيين في القتال إلى جانب قوات الدعم السريع في السودان - عربي بوست

في قلب واحد من أعقد النزاعات في إفريقيا، يتزايد حضور المرتزقة الكولومبيين كجزء رئيسي من الحرب الدائرة في السودان، إذ يقطع هؤلاء آلاف الكيلومترات من أمريكا اللاتينية، للقتال إلى جانب "قوات الدعم السريع" مقابل المال، في عملية تجنيد معقدة تمتد خيوطها بين كولومبيا والإمارات، ويقف خلفها عسكريون سابقون حولوا خبراتهم العسكرية والقتالية إلى تجارة حرب مربحة.

معركة "الفاشر" واستمرار القتال بين "الدعم السريع"، والجيش السوداني، يظهران مزيداً من الإثباتات على انخراط المرتزقة الكولومبيين في الحرب، بما في ذلك أدلة من المصادر المفتوحة يوردها هذا الاستقصاء، وتتضمن فيديوهات وصور، وبيانات رسمية، ووثائق شخصية لكولومبيين انخرطوا في القتال، إضافة إلى تتبع المسارات التي يسلكها المرتزقة من بداية تحركاتهم وصولاً لأماكن المواجهات.

وتحمل الأدلة المتاحة على نشاط المرتزقة الكولومبيين، إشارات عدة إلى دور دول أخرى غير الإمارات في تسهيل تدفق المرتزقة إلى السودان، ضمن شبكةٍ تتداخل فيها خطوط التمويل والنقل والتجنيد، وتتشابك داخلها المصالح الأمنية والعسكرية والمالية.

من كولومبيا إلى السودان.. عقود أمنية مزيفة 

يجري تجنيد المرتزقة الكولومبيين للقتال في السودان، من خلال عملية مزدوجة الأطراف، طرفها الأول في كولومبيا، والثاني في الإمارات، ففي كولومبيا تتولى شركة "وكالة الخدمات الدولية" المعروفة بـ(A4SI)، عملية استقطاب المرتزقة، وتُركّز تحديداً على المقاتلين ذوي الخبرة العسكرية العالية.

يذهب بعض المرتزقة الكولومبيين بكامل إرادتهم للقتال في السودان، وآخرون يجدون أنفسهم في قلب المواجهة، بعدما تعرضوا لعملية خداع بعد توقيع عقود التوظيف.

في وثيقة رسمية قدمها السودان لمجلس الأمن في سبتمبر/ أيلول 2025، تتحدث عن نشاط المرتزقة الكولومبيين في البلاد، ذكرت الخرطوم أن عملية التعاقد مع مرتزقة كولومبيين تمت بصورة "مخادعة"، إذ تم إيهامهم بأنهم سيلتحقون بوظائف في مجال "الأمن والحماية" في الإمارات، قبل أن يُنقلوا مباشرة إلى السودان للقتال إلى جانب قوات الدعم السريع.

لا تقتصر الخديعة فقط على إيهام المقاتلين الكولومبيين بالعمل في وظائف أمنية بالإمارات، فبحسب الجريدة الرسمية "للكونغرس الكولومبي" في نسختها الصادرة في يوليو/ تموز 2025، فإن كولومبيين تعرضوا للخديعة بعدما تلقوا وعوداً بحراسة آبار نفطية في ليبيا، لكن الأمر انتهى بهم في السودان.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
إشارة من الجريدة الرسمية للكونغرس الكولومبي تتحدث عن تعرض كولومبيين للخداع، من خلال إيهامهم بالعمل في ليبيا – مجلة الكونغرس

تأسست شركة (A4SI) الكولومبية عام 2017، على يد الضابط السابق في الجيش الكولومبي، عمر أنطونيو رودريغيز بيدويا، قبل أن يضطر إلى بيع الشركة للعقيد الكولومبي المتقاعد، ألفارو كيجانو وزوجته كلوديا أوليفيروس، وفق ما أكده الضابط عمر في تصريحاته لصحيفة La Silla Vacía الكولومبية.

ورد في نص الوثيقة السودانية لمجلس الأمن، اسم العقيد الكولومبي المتقاعد ألفارو كيجانو، المتهم بأنه الشخص الذي يتولى عملية تجنيد المرتزقة في كولومبيا من خلال شركة (A4SI)، تمهيداً لنقلهم إلى السودان.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
العقيد الكولومبي المتقاعد، ألفارو كيجانو في الإمارات – وسائل إعلام كولومبية

أظهر تتبّعنا لتفاصيل عمل الشركة الكولومبية، أنها تبدو في ظاهرها جهة مختصة في إدارة وتوظيف الموظفين، غير أن نمط الأسئلة التي توجهها للمتقدمين إلى العمل يكشف طابعاً مختلفاً.

يتيح موقع الشركة استمارة للتوظيف، وتطلب من المرشحين مجموعة واسعة من المعلومات، يرتبط جزء منها بشكل مباشر بالعمل في بيئات النزاعات، إذ تسأل الاستمارة على سبيل المثال، عما إذا كان المتقدّم يجيد استخدام الأسلحة، وما هي الرتبة العسكرية التي شغلها خلال خدمته في الجيش، إضافة إلى الاستفسار عن امتلاكه خبراتٍ عسكرية سابقة.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
استثمارة من الشركة الكولومبية A4SI تطلب معلومات ذات طبيعة عسكرية – الموقع الرسمي لـ A4SI

يعرض قسم الوظائف المتاحة في الموقع الإلكتروني للشركة الكولومبية، شواغر ذات طبيعة عسكرية واضحة، من بينها وظيفة للعمل على تشغيل الطائرات بدون طيار، مع الإشارة إلى أن مناطق العمل لهذه الوظيفة في آسيا وأفريقيا، مقابل رواتب تتراوح بين 2500 و3000 دولار.

تشمل الوظائف الأخرى عروضاً للعمل كحراس شخصيين، وخبراء في الأمن السيبراني، لتنفيذ مهام "القرصنة الأخلاقية"، في حين أن مكان العمل سيكون في آسيا وأفريقيا، وبراتب يصل إلى 4000 دولار.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
شركة A4SI تطلب مشغلين لطائرات من دون طيار للعمل في آسيا وإفريقيا – A4SI

تكتمل عملية التجنيد من خلال طرف ثانٍ في الإمارات، تتهمه السودان رسمياً بالوقوف وراء عملية تجنيد الكولومبيين للقتال في السودان، ويتمثل هذا الطرف بمجموعة خدمات الأمن العالمية (GSSG)، التي يقع مقرها في أبوظبي.

تعرّف الشركة نفسها بأنها "المزوّد الوحيد لخدمات الأمن الخاص المسلّح لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة"، وعملاءها الأساسيون هم: وزارة شؤون الرئاسة، وزارة الداخلية، ووزارة الخارجية الإماراتية.

تظهر الوثائق الرسمية الإماراتية لتسجيل شركة GSSG، والتي وردت في الوثيقة السودانية المقدمة لمجلس الأمن، أن الشركة تأسست عام 2016، ويملكها رجل الأعمال محمد حمدان الزعابي.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
تسجيل شركة GSSG في الإمارات – الوثيقة السودانية التي تم تقديمها لمجلس الأمن في سبتمبر 2025
تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
تسجيل شركة GSSG في الإمارات – الوثيقة السودانية التي تم تقديمها لمجلس الأمن في سبتمبر 2025

من هم المرتزقة الكولومبيون الذين يقاتلون في السودان؟

المرتزقة الكولومبيون الذين يتوجهون إلى السودان، غالباً ما يكونون مقاتلين سابقين في الجيش الكولومبي، وتتراوح أعمارهم بين الثلاثينات والأربعينات، ويُعرف عنهم امتلاكهم خبرة عسكرية طويلة، بحكم الحرب الأهلية الطويلة التي شهدتها كولومبيا، التي امتدت لـ52 عاماً، من 1964 وحتى 2016.

تشير الوثيقة السودانية المقدمة لمجلس الأمن، إلى أن ما بين 350 و380 من المرتزقة الكولومبيين، معظمهم من الضباط والجنود المتقاعدين، تم تجنيدهم للقتال في السودان.

يحمل المقاتلون الكولومبيون المتواجدون في السودان لقب "ذئاب الصحراء"، ويحيطون عملهم بأكبر قدر من السرية، نظراً لكون قتالهم في السودان قد أثار استياء الخرطوم من كولومبيا، التي قدمت بدورها اعتذاراً عن مشاركة مقاتليها كمرتزقة إلى جانب قوات "الدعم السريع".

يمثل القتال خارج البلاد فرصة ذهبية للعسكريين السابقين الكولومبيين، لتحسين أوضاعهم المالية؛ إذ يتقاعد معظمهم عند بلوغ سن الأربعين براتب متواضع، بينما تمنحهم عمليات الارتزاق رواتب تعادل أضعاف ما يتقاضونه داخل كولومبيا.

أظهرت المعلومات المتوفرة في المصادر المفتوحة سلسلة من الأدلة التي توثق قتال كولومبيين في السودان، وكانت أولى الإشارات المؤكدة على مشاركة مرتزقة كولومبيين إلى جانب "الدعم السريع"، قد ظهرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، عندما تعرضت قافلة عسكرية لقوات "الدعم السريع" إلى كمين من الجيش السوداني في طريق صحراوي.

عقب مهاجمة القافلة، عثر الجنود السودانيون على عدد من الوثائق الشخصية التي تعود لكولومبيين، بما في ذلك صور جوازات السفر ووثائق شخصية أخرى، وبعضهم كانت لديه أختام دخول وخروج من وإلى الإمارات قبل أن يصل إلى السودان.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
وثائق لكولومبيين تم العثور عليها في السودان بعد مهاجمة قافلة عسكرية لقوات الدعم السريع

وفي وثيقتها التي قدمتها السودان إلى مجلس الأمن، ذكرت الخرطوم أن المعلومات المتوفرة لديها تؤكد أن أول وحدة من المرتزقة الكولومبيين، وعددهم 172، وصلوا إلى الفاشر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، ثم تبعها عمليات انتشار أخرى.

تقول السودان أيضاً إن المرتزقة الكولومبيين قاتلوا في مناطق عدة، كالخرطوم، وأم درمان، والجزيرة، والنيل الأبيض، والنيل الأزرق، وسنار، وكردفان، ودارفور.

يشارك المرتزقة الكولومبيون أيضاً في تشغيل الطائرات المسيّرة، وهي مهمة كانت شركة A4SI الكولومبية قد عرضت وظائف للتقدم إليها على موقعها الإلكتروني، كما شملت الأدوار القتالية للمرتزقة الكولومبيين المدفعية، والمدرعات، والهجمات المباشرة.

إلى جانب هذه الأدلة، نشرت وسائل إعلام كولومبية مقاطع فيديو تظهر مقاتلين كولومبيين وهم يشاركون في عمليات قتالية داخل السودان، أحدهم كان يطلق النيران بكثافة، وآخرون ينفذون عمليات قصف، وبعضهم الآخر صوّر نفسه داخل سيارات أثناء تواجدهم في السودان.

واجه المرتزقة الكولومبيون في السودان، اتهامات من الخرطوم بأنهم تورطوا أيضاً في تدريب أطفال مُجنّدين تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاماً، وزودت السودان مجلس الأمن في الوثيقة التي قدمتها له بصور تظهر مشاركة مقاتلين كولومبيين في تدريب أطفال سودانيين، كما اتهمتهم الخرطوم بأنهم استخدموا أسلحة محظورة مثل الفسفور الأبيض.
في المعركة الأخيرة في مدينة "الفاشر" بدارفور غرب السودان، والتي انتهت بسيطرة "الدعم السريع" عليها وارتكاب مجازر فيها، عاد الحديث مجدداً عن دور كبير لعبه المرتزقة الكولومبيون في السيطرة على المدينة.

وتظهر وثائق قدمها السودان لمجلس الأمن خططاً كانت بحوزة المرتزقة الكولومبيين لمحاصرة مدينة الفاشر واقتحامها.
تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
وثيقة الشكوى السودانية المقدمة إلى مجلس الأمن، التي وردت فيها خطة لمحاصرة الفاشر، قالت الخرطوم إنها كانت بحوزة المرتزقة الكولومبيين

الطريق من كولومبيا إلى الإمارات

تمر رحلة المرتزقة الكولومبيين من بلادهم إلى السودان في مراحل متعددة، فهم لا يتوجهون مباشرة إلى الأراضي السودانية، ويسلكون طرقاً مختلفة، ويتم ذلك من خلال 4 مراحل.

تبدأ المرحلة الأولى بالسفر عبر رحلات تجارية من كولومبيا إلى الإمارات، وذلك بعد توقيعهم لعقود التوظيف، ويقطنون أياماً في الإمارات، وكما ذُكر أعلاه، وُجدت في جوازات سفر مقاتلين كولومبيين عُثر عليها في السودان أختام دخول وخروج إلى الإمارات قبل انتقالهم إلى السودان.

في المرحلة الثانية، يخضع المقاتلون الكولومبيون في الإمارات لتدريبات عسكرية، بحسب ما أكدته شهادة مقاتل كولومبي لموقع "lasillavacia" الكولومبي، ومن ثم يتم نقلهم إلى قاعدة عسكرية في "بوصاصو" بإقليم بونتلاند في الصومال.

وفي المرحلة الثالثة، يتم نقل المقاتلين من "بوصاصو" إلى ليبيا، وبحسب الوثيقة السودانية، فإن المرتزقة يتم نقلهم إلى "بنغازي"، وتتهم الخرطوم ضباطاً متحالفين مع المشير الليبي خليفة حفتر بالإشراف على استقبال المرتزقة.

في النهاية، يتم نقل المرتزقة الكولومبيين عبر الصحراء الكبرى، عن طريق تشاد، وصولاً إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات "الدعم السريع" في السودان.

تجنيد المرتزقة الكولومبيين في السودان
مراحل انتقال المرتزقة الكولومبيين إلى السودان – عربي بوست

كولومبيا مصدر رئيسي للمرتزقة

تعد مشاركة الكولومبيين المرتزقة في الحرب الدائرة بالسودان، جزءاً من حالة أوسع يشارك فيها كولومبيون في نزاعات مختلفة حول العالم، إذ ترغب دول عدة في استقطابهم بسبب خبرتهم العسكرية الكبيرة.

لم يكن السودان أول بلد عربي انخرط فيه كولومبيون بالقتال، فسابقاً تم استقدام كولومبيين للمشاركة في حرب اليمن ضد الحوثيين، كما لجأت الشركة الأمريكية التي كان اسمها "بلاك ووتر" إلى تجنيد مرتزقة كولومبيين في العراق، بحسب ما تؤكده "الجريدة الرسمية للكونغرس" في كولومبيا.

الجريدة الرسمية للكونغرس الكولومبي تتحدث عن تجنيد مرتزقة كولومبيين في العراق

وفي يوليو/ تموز 2021، كان نشاط المرتزقة الكولومبيين قد أثار انتباه العالم، بعدما اعتقلت السلطات في هايتي 18 مرتزقاً كولومبياً واتهمتهم بأنهم شاركوا في اغتيال رئيس البلاد آنذاك، جوفينيل مويز، الذي قُتل في منزله.

كذلك كشفت الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت عام 2022، والمستمرة حتى الآن، عن مشاركة كبيرة لمرتزقة كولومبيين في صفوف القوات الأوكرانية، وعلى قنوات التلغرام الروسية التي ترصد مشاركة أجانب في صفوف الجيش الأوكراني، تنتشر عشرات الصور لمقاتلين كولومبيين إما قُتلوا خلال المواجهات، أو وقعوا في الأسر.

ويُحظر القانون الدولي تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، إذ تنص الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد واستخدام وتمويل وتدريب المرتزقة (تم اعتمادها عام 1989 ودخلت حيز النفاذ عام 2011)، على أن كل من يقوم بهذه الأفعال يرتكب جريمة ويجب أن يخضع للمساءلة القانونية، سواء كان فرداً أو دولة.

تحظر الاتفاقية على الدول الأطراف تجنيد أو استخدام أو تمويل أو تدريب المرتزقة، خاصة إذا كان الهدف مقاومة حق الشعوب في تقرير المصير حسب القانون الدولي.

تلزم الاتفاقية أيضاً الدول باتخاذ التدابير اللازمة لمنع هذه الأفعال، كما تنص على التعاون الدولي في هذا المجال، وتوجب محاكمة أو تسليم مرتكبي هذه الجرائم.

تحميل المزيد