بسبب اتهامات وُجهت لها من طليقها، فقدت أم كلثوم، وهي مهاجرة تونسية مقيمة بألمانيا طفلها البالغ من العمر سبع سنوات، سحبته منها موظفات مكتب رعاية الشباب (سوسيال في ألمانيا)، إلى مركز لرعاية الأطفال بغرض "الحماية من تهديد محتمل".
تحكي أم كلثوم قصتها لـ"عربي بوست"، أن "طليقها الألماني من أصل تركي يُحاول الحصول على حضانة الطفل منذ حصول طلاق بينهما بسبب العنف المنزلي وسوء معاملته لطفله، وهي أحداث موثقة في محاضر الشرطة الألمانية".
تقول الأم في حديثها إن المحكمة الألمانية منعت الأب من لقاء طفله بسبب التهديدات التي يُوجهها لهما في الشارع، ومنحتها هي حضانة الطفل استناداً على محاضر الشرطة، لكن رغم ذلك وجد الطليق طريقاً عبر "سوسيال في ألمانيا" وأخذ منها الطفل بتهمة الإهمال.
قصة أم كلثوم ليست الوحيدة، فالعشرات من الأسر أغلبها مهاجرة تُعاني من تسلط السوسيال في ألمانيا، والذي يُقرر فجأة سحب الأطفال من أسرهم وتقديمهم لأسر أخرى بحجة أن الوسط غير قادر على رعاية طفل.
ويعطي القانون الألماني الحق للأسر باللجوء إلى القضاء لاسترجاع الأطفال حال حكم لهم بذلك، لكن الأمر لا يتم في أسابيع أو أشهر بل يحتاج إلى سنوات ليصدر حكم المحكمة وتستطيع الأسرة استرجاع أطفالها.
كيف يعمل نظام السوسيال في ألمانيا؟
إن تنظيم عمل مكتب رعاية الشباب "السوسيال في ألمانيا" أو ما يعرف بـ "يوغند آمت" حسب هشام عبيدي، مرشد اجتماعي في سوسيال مدينة هينيف يتم اعتماداً على "قوانين تميز ألمانيا على باقي البلدان، يؤطرها القانون المدني والقانون الزجري المتعلق بالجنايات، أهمها القانون الاجتماعي رقم 8".
يقول هشام عبيدي لـ"عربي بوست": "هنا في ألمانيا تربية الأبناء ليست حقاً بل هي واجب بنصوص القانون، فالوالدان ملزمان بضمان "رفاهية الطفل" وتربيته والحرص على أمنه وأمانه جسدياً ونفسياً وروحياً".
أما الموظفون لدى مكتب رعاية الشباب فلهم حسب المتحدث "مسؤولية خاصة، إذ يعملون بصفة "الضامن" لتطبيق هذا القانون ويمثلون الدولة، لكنهم في واقع الأمر هؤلاء الآباء هم بشر وفي الكثير من الأحيان يقعون في الخطأ، وهو ما لا يغفره السوسيال".
تتدخل اليوغند آمت (السوسيال في ألمانيا) بخصوص طفل ما عندما "يتلقى المكتب إخباراً بتعرض طفل ما للخطر، كيفما كان نوعه، فالموظفون مطالبون بتقييمه فوراً، حسب ما توفر من معلومات في إطار لجنة تتكون على الأقل 4 أو أكثر، يتداولون الأمر ثم يتخذون القرار بكيفية التدخل".
المبلغون عن الخطر حسب عبيدي "قد يكونون أشخاصاً أو مؤسسات، مثل الطفل نفسه مهما كان سنه، أو معلمته في الروضة أو المدرسة، أو أي جمعية أو مركز له علاقة بالطفل، أو الجيران على سبيل المثال، أو حتى الطليق (ة)، أو حتى من مُبَلِّغ مجهول".
وهنا يشير موظف السوسيال في ألمانيا إلى أن "التبليغ الكاذب، هو من أكبر المشاكل التي تواجه هذه الإدارة الحكومية، وغالباً يلجأ إليها الأزواج المطلقون المتخاصمون، أو شخص آخر من أجل الانتقام".
حين تلقي التبليغ هاتفياً أو حضورياً، يحرص الموظف في مركز رعاية الشباب على ملء استمارة دقيقة مكونة من أربع صفحات، يوصف فيها الخطر المحدق بالطفل، وهذه الاستمارة يكون لونها أحمر، ما يشير إلى أن هناك خطراً.
وحسب المتحدث، يتم تضمين هذه الاستمارة في ملف الطفل كلما كان هناك تبليغ عن حالة تخصه ليسهل لاحقاً متابعة ملفه، وبعد التداول بشأن مدى جدية البلاغ وخطورة الموقف داخل اللجنة، لا يكون دائماً القرار هو السحب مباشرة، بل فقط إذا توفر عنصر الخطر على حياة أو صحة الطفل.
السوسيال في ألمانيا.. مواجهات مع الأسر
بعد تبليغ طليق أم كلثوم عن الجريمة التي اتهم بها والدة طفله، لم يكن هناك وقت لتبليغها بشكل كتابي كما تستدعي الإجراءات الإدارية لليوغند آمت، لأن التقييم أظهر أن الخطر كبير على الطفل، فتلقت القرار عند حضور عناصر الشرطة رفقة الموظفين لأجل تنفيذ السحب.
"لقد صدمت، لم أدرِ ماذا يمكن أن أفعل، كنت أنا وابني بصدد تغيير ديكور غرفته استعداداً لدخوله المدرسة. سألتهم أكثر من مرة: لماذا تفعلون ذلك؟ ما السبب؟ فكان الرد أن طليقها يتهمها بجريمة مالية، وقدرت لجنة مكتب رعاية الشباب أن الطفل رفقتها صار في خطر، وإلى أن تثبت صحة الاتهام أو بطلانه، فالطفل سيكون في حماية الدولة، وعليها تسليمه".
تحكي أم كلثوم "تم طرد زوجي الحالي من البيت قبل سحب ابني منِّي، وتحدثت لي الموظفة بشكل غير لبق نهائياً، ولم تكن تتجاوب مع أسئلتي. لكن حينما أعطت الأمر للشرطة لأجل أخذ طفلي لم أقاوم أبداً خشية على سلامته الجسدية والنفسية فور ما التقط الشرطي يده تركته حتى لا يتأذى".
تصف أم كلثوم مشهد سحب ابنها منها بأكثر الأحداث ألماً التي عاشتها طيلة حياتها: "بكى ابني كثيراً وكان يناديني وهو يصرخ ويرفض المغادرة، في تلك اللحظة غلبتني دموعي وانهرت وتعرضت للهجوم من طرف الشرطة بأمر من موظفة اليوغند آمت".
تحكي أم كلثوم أن يوم سحب طفلها منها حضر إلى بيتها عدد من أفراد الشرطة والموظفين الحكوميين التابعين للبلدية وأيضاً موظفو مكتب الرعاية واقتادوها في الأخير لمصحة نفسية بسبب ردة فعلها وانهيارها لحظة سحب طفلها منها.
لم تجد أم كلثوم اليوم غير صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي للتعريف بحالتها، علها تجد من يساعدها من المجتمع المدني، فتقوم يومياً بنشر فيديوهات تصف من خلالها الوضع الحالي لابنها والذي تقول إنه متوقف عن الدراسة ولا يخضع لحصص الترويض الطبي التي يحتاجها.
السوسيال في ألمانيا.. استغلال للقانون
راينر بوهم، المحامي الألماني المتخصص في قضايا الأسرة بمدينة زولينغن، نشر نصاً تفصيلياً عبر موقعه الخاص على الإنترنت، دق عبره ناقوس الخطر من تأويل النص القانوني الذي يعتبره فضفاضاً.
يقول المحامي الشهير في ألمانيا إنه "يمكن تأويل البند القانوني الذي يتحدث عن رفاهية الأطفال من طرف موظفي مكتب رعاية الشباب (سوسيال في ألمانيا)، بأن الوالدين ليسا على قدر المسؤولية، وأن كل شيء يمكن أن يؤول على أساس "تعريض رفاهية الطفل للخطر"".
كما يبين المحامي من خلال نصه التحذيري بشأن موضوع سحب الأطفال من الوالدين بنبرة نقدية حادة، أنّ "هناك فراغاً قانونياً يمكن أن يقود إلى عمل تعسفي، وأن الخطر الأكبر يكمن في أن هذه المصالح لها الحق في أخذ طفلك دون إذن من المحكمة، ويمكن للأبوين رفع دعوى لكن المدة الزمنية لمعالجة الملف قد تستمر لأشهر أو لسنوات".
كما يؤكد راينر بوهم أنه سنة 2020 "48 ألف أسرة بينت أنها ترعى أطفالها بشكل عادي ولا توجد أي مشكلة في طريقة تربيتها ومع ذلك عاشوا مشاكل مع السلطات، 40 ألفاً منهم لم يكن هناك اشتباه للعنف الأسري لأجل اتخاذ قرار السحب، بل فقط سوسيال هو من قرر أن الأسرة غير قادرة على رعاية أطفالها".
الرواية الثانية!
تعتبر ألمانيا نفسها من أقوى الدول في العالم اقتصادياً، ولهذا وضعت نظاماً اجتماعياً يُعتبر الأطفال أول المستفيدين منه، وهو نفس النظام الذي يخول للسلطات سحب الأطفال من ذويهم.
ولأن الألمان يعرفون جيداً ثغرات القانون الألماني فهم يتجنبون أي خطأ يمكن أن يوقعهم في فخ السوسيال، لكنَّ المهاجرين خصوصاً الوافدين في العشر سنوات الأخيرة لم يستوعبوا القانون الألماني بشكل كلي فما كان أمامهم سوى الوقوع في أخطاء قد تبدو عادية.
ويمنح السوسيال في ألمانيا، حسب المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست"، أجرة شهرية مخصصة للأطفال، كما يُخول للطفل الدراسة منذ أول يوم في حياته بشكل مجاني في مدارس ذات جودة.
بالإضافة إلى ذلك، يستفيد الطفل في ألمانيا والذي يخضع لنظام السوسيال من العلاج بالمجان، مقابل ذلك يكون تحت أعين السوسيال الذي له الحق في سحب الطفل من أسرته إذا فشلت في ضمان الرفاهية له.
بعد سنوات من عمله داخل مكتب رعاية الشباب في ألمانيا، أوضح هشام عبيدي، المرشد الاجتماعي بمدينة هينيف الألمانية، أن الفيديوهات التي تثير ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى نقص في الوعي لدى المهاجرين في كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن الأمر نفسه يجري على الألمان، لكن بحدة أقل بكثير من المهاجرين، لكنهم لا يواجهون القرار بنفس ردة الفعل، بل يسلكون طرقاً تُساعدهم على استرجاع أطفالهم.
وأوضح المتحدث أن "قرار السحب يكون ملزماً للسلطات في حال تبين أن الطفل معرض لخطر قد يودي بحياته أو يلحق الأذى بسلامته الجسدية أو النفسية أو العقلية، حتى بدون إذن من المحكمة في حال تعذر ذلك بسبب عطلة أو حصول الخطر ليلاً، أي أنه لا مهرب نهائياً من تنفيذ القرار، لذلك لا بد من التعاون قدر الإمكان من العائلة حتى لا يحسب تعنتهم ضدهم".
كما أشار عبيدي إلى كون السلطات تحاول بعد الاضطرار لسحب الطفل، أن تجد أولاً واحداً من الأقارب، ويمكن أن يكون أحد الوالدين، ليتولى حمايته، في انتظار التحقق من المخاطر التي تم الإبلاغ بها.
وأوضح المتحدث أن "تطبيق قرار السحب لا يتم دائماً بالإكراه، فأحياناً يتم اللقاء بين العائلة والموظفين ويتم تسليم الأطفال بدون مشاكل، ويكون السحب دائماً أوّلياً، وليس قراراً نهائياً". مبرزاً "أن المحكمة هي التي تتخذ القرار النهائي في كل قضية، وتساعدها على اتخاذ القرار مجموعة من المؤسسات والأشخاص، الذين لهم علاقة مباشرة بالطفل".
أما عن ظهور الشرطة خلال عمليات سحب الأطفال من عائلاتهم في ألمانيا في بعض الفيديوهات، وما يسببه الأمر من ارتباك وخوف، فيشرحه المتحدث بكون "وجود عناصر الشرطة ضرورياً عندما لا يتوفر إذن من المحكمة، وذلك لأجل أن يتمتع الموظفون بحماية أثناء تنفيذ القرار بموجب القانون".
وأبرز المتحدث أن "الكثير من الملفات التي حصلت فيها تجاوزات أو أخطاء غير بريئة، سببها الأحكام المسبقة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بقضايا أطفال عائلات مهاجِرة، وأغلبها يتم نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي".
وشدد الخبير أن "تسلم القرار وتوقيعه، ثم تسليم الطفل حين صدور القرار في الموعد عوض افتعال المشاكل والرفض، يُحسب للعائلات، وأن محاولة التفاهم مع الموظفين للوصول لحلول عوض الشجار وتوضيح الرغبة في التعاون لأجل مصلحة الطفل سيساعد في الخطوات اللاحقة".
كما أوصى بعدم استخدام العنف اللفظي والصراخ لأن ذلك في نظره يزيد من تأزيم الوضع، كما أن الشرطة والموظفين يزيدون اقتناعاً بوجود ثقافة العنف داخل الأسرة، وأيضاً تجنب التجاذبات الجسدية التي تخلق ضرراً جسدياً للطفل، أو مثلاً تؤدي إلى عنف الشرطة تجاه الوالدين، ما يسبب للطفل حالة صدمة نفسية بليغة.
ومن أهم ما أوصى به عبيدي اللجوء للقضاء، معتبراً أنه "أمر ضروري بعد صدور قرار السحب، وذلك لأجل الاعتراض، والاستعانة دائماً بمحامٍ في أسرع وقت، فالقضاء غالباً ما يكون منصفاً ولو بعد حين".
ومن ثم يمكن "اللجوء للقضاء ضد القضاء، أي للمحكمة الإدارية، حينما لا ينصفك القاضي، أي يجب أن تكون متأكداً من براءتك من التهم، أو الاعتراف بها إن كانت حقيقية، والعمل على إصلاح المشكل". مشيراً إلى أنه "يحق للوالدين الوصول إلى محكمة حقوق الإنسان في ستراسبورغ، لأجل استعادة أطفالهم".