من ميدان "ألف مسكن" المُزدحم، وصولاً إلى شارع صعب صالح في قلب منطقة عين شمس بالعاصمة المصرية القاهرة، تحركنا باتجاه هدف واحد، بيت محمد صلاح منفِّذ عملية الحدود.
وصلنا إلى أحد الشوارع الجانبية المتفرع من شارع صعب صالح، وهو شارع الهادي سلامة، شارع طولي "هادئ" يختلف عما يسبقه ويتبعه من شوارع، وتتراص على جوانبه محال بنكهة سودانية، حتى تظن في البداية أنك خارج القاهرة.
يبدأ الشارع بصالون حلاقة يعمل به رجلٌ أسمر، ثم محل خياطة لصناعة الزي التقليدي السوداني. وما إن تصل إلى منتصف الشارع، يستقبلك مسجد باسم "الشهيد جمال حجاب".. توقفنا قليلاً لنسأل: أين منزل "محمد صلاح"؟ فتأتي الإجابة: "تقصد الشهيد محمد صلاح"، وأحدهم يشير لنا ناحية منزل متواضع.
محمد صلاح، شاب في العقد الثالث، حصل على الشهادة الإعدادية من مدرسة محمد عبده بحي عين شمس الشعبي، يقضي خدمته الإجبارية في القوات المسلحة المصرية لمدة 3 سنوات، ولقي حتفه بعد تبادل إطلاق نار على الحدود المصرية الإسرائيلية، قتل على إثرها 3 جنود إسرائيليين.
وفي بيان مقتضب، خرج المتحدث العسكري في بيان يوضح ملابسات الواقعة: "فجر اليوم السبت الموافق 3/ 6/ 2023 قام أحد عناصر الأمن المكلفة بتأمين خط الحدود الدولية بمطاردة عناصر تهريب المخدرات وأثناء المطاردة قام فرد الأمن باختراق حاجز التأمين وتبادل إطلاق النيران؛ مما أدى إلى وفاة (3) أفراد من عناصر التأمين الإسرائيلية وإصابة (2) آخرين بالإضافة إلى وفاة فرد التأمين المصرى أثناء تبادل إطلاق النيران".
أثار بيان المتحدث العسكري والبيانات الإسرائيلية كثيراً من الجدل، خصوصاً مع ما ظهر فيها من تضارب في الروايات حول حقيقة ما حدث. وفي محاولة لفهم ما حدث، انتقلنا إلى منزل المجند محمد صلاح، لمعرفة لمحات عن الطفولة والشباب في حياته، والدوافع وراء قيامه بتلك الواقعة.
داخل حارة محمد صلاح
أمام حارة "عتيطو" التي تبدأ بمنزل محمد صلاح، تواجد عدد من الجيران، اقتربنا منهم، فوجدنا السؤال الأبرز على ألسنتهم: كيف مات محمد صلاح؟ وحدها أمل (اسم مستعار) السيدة الأربعينيّة وإحدى جارات محمد، أجابت دون تردد: "لا يهم كيف مات.. المهم وما نعرفه أنه بطل قتل 3 من الإسرائيليين، محمد ذكرنا برجال حرب 1973".
تسرد أمل لـ "عربي بوست" تاريخ معرفتها بمحمد وعائلته، استناداً لجيرة امتدت لأكثر من 20 عاماً: "أعرف محمد منذ كان طفلاً.. منذ صغره وهو رجل وجدع، يبيع روحه ويفدي من حوله"، على حد وصفها.
تصمت أمل للحظات، ثم تُكمل بنفس الحماسة: "والد محمد مات في حادثة، أمه شقيت على تربيتهم.. لذلك كان محمد يعمل ويساعدها، يشتغل في النجارة وفي صناعة الألوميتال".
وتؤكد السيدة الأربعينية أن محمد كان يعيش مثله مثل أي شاب في سنه (23 سنة)، وكان لا يعرف "إخوان ولا سلفيين"، فقط يجري على لقمة عيشه، "نحن كلنا هنا ليس لنا علاقة بالسياسة ولا نعرف عنها شيئاً"، على حد تعبيرها.
في هذا الحي الهادئ، تتناقض الروايات حول ما حدث؛ فرواية تقول إن الشاب العشريني قُتل خلال مطاردته لعصابة تهريب على الحدود المصرية، محل خدمته العسكرية، وخلال المطاردة قتل 3 من الإسرائيليين. لم يهتم أحد بالرواية التي تم سردها، فقط أخذ الجميع يُردد: "محمد بطل شهيد".
الدفاع عن محمد صلاح
تتدخّل إيمان، شابة عشرينية، لتُكمل سرد ما تعرفه عن "محمد البطل ابن الحتة"، كما تصفه، وتقول: "محمد متربّي معنا، شاب جدع ونضيف، لم نرَ منه أي شيء سيئ".
تُضيف أنها أخذت على عاتقها مهمة نشر فيديوهات عن محمد على فيسبوك، لكن "الصهاينة كل ما نرفع فيديو وصور عن محمد يمسحوها؛ لكننا لن نتوقف، نحن لسنا أقل منه، هذه بلادنا أيضاً".
يسكن محمد داخل حارة ضيّقة، لا تتسع سوى لمرور اثنين، اتشحت النساء بالسواد، أقارب وجيران، الكُل يتحدث عن "الشاب الجدع"، وعن أمه المكلومة وشقيقه الذي أخذ يصرخ: "يا جدعان.. محدش يقول لي كلام.. مفيش كلام.. آآآآآه يا وجع قلبي يا محمد". وجع يُشعرك بأنه فقد جماعي وحُزن في كل بيوت الحارة، والشارع، والحي الذي علّق أبناؤه صوراً لـ "محمد البطل الذي قتل الأعداء".
تحدثنا إلى أحمد (اسم مستعار) شاب عشريني وأحد أصدقاء محمد صلاح. يعرفك أحمد بنفسه قائلاً: "أنا ومحمد زملاء من صغرنا، دخلنا إلى المدرسة، لكن التعليم لم يكن نقطة قوتنا".
عمل الثُنائي أحمد ومحمد كـ "صنايعية ألوميتال"، حسب كلماته: "محمد شاب رجولة، من زمان وهو جدع، اشتغلنا في الألوميتال لكن أنا بعد ذلك اشتريت توكتوك، لأن مكسبه أكتر، لكن محمد كان صنايعي فنان يفهم في الشغلانة".
تلّقى أحمد نبأ وفاة صديق عمره سماعياً، فهو لا يجيد القراءة والكتابة، إذ يقول: "أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة، زملاؤنا قالوا لي ما حصل.. أنا حزين على محمد لكن سعيد أنه بطل وشهيد، لا أحد يقدر يعمل ما فعله محمد".
وبطريقة فطرية خالصة، يروي أحمد كيف كان محمد مختلفاً عن باقي أصدقائه "عندما كنا نعمل في صناعة الألوميتال، ذهبنا في إحدى المرات لشقة في الدور الـ18، محمد كان يطلع خارج البلكونة يركب الشغل، وأنا أقف من الداخل أمسك رجله"، يتنهد قليلاً، ثم يكمل: "هل رأيت كيف كان جدع؟".
الأمن يقبض على أقارب محمد
رغم الحُزن الذي يغلف شارع الهادي سلامة، فإن الهدوء كان سيد الموقف. يروي الأهالي أن سلطات أمنية جاءت واصطحبت عم محمد صلاح وشقيقه للتحقيق معهما، ثم عادا بعدها بساعات.
لا أحد يعلم ماذا حدث، الكل ينتظر إقامة سرادق عزاء للبطل فقط، حسب وصفهم. "قالوا لنا إن الحكومة ستأتي لتأمين عزاء محمد"، على حد قول بعض الجيران.
يحكي أحد الجيران لـ "عربي بوست": "ما نعرفه أن محمد رجل وجدع وعمره ما كان قليل الأدب أو قليل الذوق مع أحد. فجأة سمعنا خبر وفاة مجند على الحدود وإنه قتل 3 إسرائيليين، ولم يخطر على بالنا أن يكون محمد".
وأضاف: "بعد ذلك قال لنا أخوه إن الأمن كلم أمه وسألها عن محمد". حاول البعض الاتصال بمحمد صلاح لكنه لم يكن يرد؛ لأنه ممنوع لأحد في الجيش أن يحمل تليفون، "لكن كان أحد زملاء محمد يحمل هاتفاً بشكل سري وكان محمد يتحدث لعائلته منه كل بضعة أيام.. حاولنا نتصل على الرقم لكن دون رد".
ليس إرهابياً ولا إخوانياً
فجأة، سيدة خمسينية تقف في إحدى البلكونات القريبة من منزل محمد، توجه حديثها إلينا: "من أنتم؟ وماذا تريدون"، فنجيب بأننا صحفيون. فتقول: "اكتبوا عنه أنه بطل ورجل أحسن من كثير من الرجال، والكلام إنه إخواني أو إرهابي كذب، اكتبوا الحقيقة".
من أمام منزل محمد صلاح، يقف خمسة شباب يشكلون دائرة مغلقة، نحاول اختراقها بالسؤال عن محمد. يندفع الأول في الحديث: "محمد ليس سلفياً ولا إخوانياً، كان على باب الله، وكان بيعرف ربنا على طريقتنا، دماغه وتفكيره ليس تفكير إرهابي، كان يحب الرسم ويدخن ويسمع أغاني".
ثم قال بانفعال واضح: "سيقولون عليه.. ليقولوا مهما يقولوا، نحن نعرف صاحبنا الذي تربى معنا طول عمره".
يلتقط آخر من الحضور طرف الحديث: "محمد أهله ناس غلابة، كان شقيان على أمه، ولا أحد تخيل في يوم أن يعمل عملاً بطولياً مثل هذا.. أصبح اسمه بالنسبة لنا (أسد عين شمس)، هذا هو البطل الحقيقي".
وتطرق الشاب إلى جانب آخر من حياة محمد بالقول: "محمد يحبه كل من يعرفه.. كان يحب بنت عندنا من المنطقة، وكان نفسه يتزوج ويستقر في بيته، وكان ينتظر انتهاء فترة تجنيده في الجيش حتى يدخل البيت من بابه (أي يتقدم لها رسمياً)".
يتدخل أحد الحضور في الحديث: "كنت مع محمد من فترة بسيطة في آخر أجازة له، تقريباً من أسبوع أو عشرة أيام.. كان أول ما ينزل الإجازة ينزل الشغل على طول.. لم يكن يحب تحميل أهله الهمّ.. كان يعمل فترة إجازته لتوفير بعض سجائره ومصاريف الكانتين في الجيش.. محمد ليس إرهابياً ولا مهرباً".
سألناه عن طبيعة الحديث الذي دار بينهما خلال لقائه الأخير: "كنا نتحدث بشكل طبيعي. ليس شيئاً محدداً، والكلام أنه يكره إسرائيل، هو فيه أحد يحب إسرائيل؟ كل الناس تكره إسرائيل، مثلما قال عمنا شعبان عبد الرحيم زمان"، على حد تعبيره.
وتابع: "طبيعي أن يكره إسرائيل، لكننا لم نتطرق نهائياً لأي فعل يستعد لعمله.. هو فقط كان تعب من صعوبة الحياة، ولم تكن هناك أي ملاحظة على سلوكه".
كان محمد صلاح يجلس مع أصدقائه على قهوة تسمى "قهوة السكرية"، وأحياناً على "قهوة الكابتن" أمام الحارة مباشرة، "كنا نخرج مع بعض بشكل طبيعي.. ما أقصده هو أن أي كلام عن إن محمد عمل هذا الأمر بشكل منظم ومخطط له لا أصدقه، كان الأم بالصدفة فقط.. وفي الآخر لا أحد سوف يعرف السبب، محمد استشهد ودُفن وسره دُفن معه".