المواطنون يقفون في طوابير للحصول على كيس مُدعّم.. “عربي بوست” يرصد أسباب تكرار أزمة نقص الحليب في الجزائر

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/18 الساعة 10:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/19 الساعة 06:27 بتوقيت غرينتش
مواطن جزائري أثناء شرائه للحليب من مركز تجاري (رويترز)

يستيقظ كمال، الساكن في أحد أحياء بلدية الجزائر الوسطى بولاية الجزائر، باكراً، من أجل اقتناء أكياس الحليب المدعم بسعر 25 ديناراً (أقل من ربع دولار) للكيس قبل نفاده، لأنه يتفادى شراء نوع آخر من الحليب الموجود في السوق بسبب غلائه. 

لكن كمال يضطر في كثير من المرات لشراء الحليب المحفوظ في العلب، الذي يكون ثمنه مرتفعاً 130 ديناراً (نصف دولار تقريباً) للتر، أما مسحوق الحليب الذي يُخلط بالماء فيُباع بسعر أغلى يصل إلى 560 ديناراً للعلبة (حوالي دولارين ونصف).

كمال ليس وحيداً، فوقوف الجزائريين في طوابير للحصول على أكياس الحليب المُدعم أصبح مشهداً مألوفاً يتكرر أكثر من مرة في السنة ومنذ سنوات، رغم أن الدولة تقول إنها تُوفر التموين الكافي من مادة الحليب الذي يكفي مواطنيها.

ويستهلك الجزائريون ما يقارب 5 مليارات لتر من الحليب بأنواعه سنوياً، كما يتم استيراد كميات كبيرة من المادة الأولية لصناعة حليب الأكياس بقيمة تقارب مليار وخمسمائة مليون دولار سنوياً، حسب رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين، الطاهر بولنوار.

"عربي بوست" من خلال هذا التقرير سيُحاول الإجابة عن أبرز الأسباب التي أدت إلى تكرار أزمة الحليب في الجزائر، خصوصاً الحليب المدعم الأكثر استهلاكاً؟

فوضى في مصانع الحليب 

يُخلي موزعو الحليب ذمتهم من أي مسؤولية في الفوضى الحاصلة في عملية توزيع أكياس الحليب المدعم، إذ يرى رئيس الفدرالية الوطنية لموزعي الحليب، فريد عولمي، أن حقيقة الأزمة لا تكمن في سوء التوزيع، وإنما في الفوضى الحاصلة على مستوى المصانع.

ويرجع عولمي في تصريح لـ"عربي بوست" الأزمة لسوء البرمجة على مستوى الملبنات (مراكز إنتاج الحليب)، إذ ينتظر الموزعون ما معدله 10 ساعات ليتسلموا حصتهم من الحليب، وهو ما يدخلهم في فوضى التأخير ثم فوضى التوزيع.

ويروي عولمي أنه كموزع يعاني، رفقة زملائه، من عدم التزام الملبنات بمواعيد تسليم شحنات أكياس الحليب المدعم، وسط طول أمد التبريرات المقدمة والتي اعتبرها غير مقنعة بعدما أصبحت تتكرر بشكل منتظم.

وقال المتحدث إن هذه الملبنات، وهي الجهة الوحيدة المسؤولة عن إنتاج الحليب المدعم في الجزائر، وضعت شاحنات تابعة لها للتوزيع، والتي يكون لها في غالب الوقت الأولوية، الأمر الذي يُثير علامات الاستفهام.

وأثنى رئيس فدرالية موزعي الحليب على قرار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، القاضي برفع هامش ربح موزعي الحليب من 0.9 دينار إلى دينارين عن كيس الحليب الواحد.

واعتبر المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" أن القرار جيد، وأنقذ فئتهم، إلا أن الأزمة متواصلة لكون حقيقة الإشكالية لم تكن كامنة في التوزيع، وإنما في الوضع القائم داخل الملبنات.

لكن، حسب المتحدث، هذه الزيادة استغلتها الملبنات التي من المفروض أن تكون مسؤولة عن التصنيع فقط، فاليوم أصبحت أيضاً توزع، واختطفت جزء من الزيادة باستغلال شاحنات خاصة بها للتوزيع.

وأشار رئيس فيدرالية موزعي الحليب إلى أن أرباح بعض الملبنات كمنتجين وموزعين أصبحت 5 دينارات كاملة عن كيس الحليب الواحد؛ تشمل الدينارين المخصصين للموزع، والدينارين المخصصين لتاجر التقسيط، والدينار الخاص بهم.

وفي الوقت الذي يركن الموزعون شاحناتهم قيد الانتظار لساعات وساعات تستفيد شاحنات الملبنات من الأولوية وهو ما عمّق من معاناة الموزع الذي يبقي على مستوى شاحنته قيد انتظار تسليمه حصته أزيد من 10 ساعات.

وترد الملبنات بأن استغلالهم لشاحناتهم في التوزيع يكون بهدف تزويد نقاط البيع التابعة لهم بالمنتجات، في حين يرى عولمي أن نقاط بيع الملبنات مقدرة بـ1500 لتر في اليوم فقط، في حين أن الشاحنات تحمل 8000 لتر خلال رحلتين.

كيس من الحليب المُدعم في الجزائر (خاص عربي بوست)
كيس من الحليب المُدعم في الجزائر (خاص عربي بوست)

سوء توزيع المصانع جغرافياً

إلى جانب إشكالية التسيير والتوزيع تعرف ولايات وسط الجزائر أزمة من نوع آخر، في ظل عدم توفر ملبنات على مستوى كل من ولاية البليدة وولاية تيبازة المجاورتين للعاصمة، وهو ما جعلهما تعتمدان على ملبنة (كوليطال) في العاصمة.

هذه الملبنة تستفيد من كوطة مسحوق الحليب المخصصة للعاصمة الجزائر فقط، والمقدرة بـ1400 طن شهرياً بإنتاج يومي يقدر بـ47 طناً، ما يعادل 500 ألف إلى 550 ألف لتر يومياً، وهي الكمية المخصصة لولاية الجزائر المشكلة من 57 بلدية.

وعلى أرض الواقع يتم اقتطاع حوالي 30 شاحنة لصالح ولايتي تيبازة والبليدة، أي ما يعادل 150 ألف لتر تسحب من الكمية المبرمجة لسكان ولاية العاصمة؛ أي ما يعادل حصة 10 بلديات لتحوَّل لكل من الولايتين آنفتي الذكر.

وفي هذا الخصوص دعا رئيس فيدرالية موزعي الحليب مديري تجارة كل من ولايتي البليدة وتيبازة للمطالبة بالاستفادة من حصة ولايتهما من مسحوق الحليب على مستوى الديوان الوطني للحليب ومشتقاته، ثم تحويلها لملبنة (كوليطال) وتكليف هذه الأخيرة برفع إنتاجها لتستفيد كل ولاية من حصتها الفعلية.

استغلال غير مشروع للحليب المُدعم

ولمعرفة تفاصيل أدق حول مكامن الخلل في توزيع مادة الحليب بالجزائر، كان لـ"عربي بوست" حديث مع رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وترشيد المستهلك، مصطفى زبدي، الذي أشار إلى وجود سوء ضبط لسوق الحليب بجل أنواعه. 

زبدي، وفي خضم حديثه، ذكر أن السلطات الجزائرية، لم تدّخر جهداً في تموين ودعم سوق الحليب، لافتاً إلى أنه يتم ضخ كميات هائلة من الحليب المدعم في السوق، والذي لا يغطي فقط الاحتياج الوطني الداخلي بل يمكنه توفير طلبات البلدان المجاورة للجزائر. 

ويرجع مصطفى زبدي أسباب الخلل في سوق الحليب، إلى استغلال بودرة الحليب وأكياس الحليب المدعم في نشاطات أخرى عوض استعمالها في الاستغلال المباشر، خاصة أن الحليب المقنن بـ25 ديناراً موجه للعائلات الجزائرية حصراً. 

ويشرح محدثنا هذه النقطة بقوله: "يتم استغلال الحليب المدعم في المطاعم والمقاهي والمنتجات الأخرى، وخير دليل على ذلك هو حجز أزيد من 10 آلاف كيس حليب مدعم يوم 15 سبتمبر/أيلول الماضي، في ملبنة تعمل على تحويل الحليب إلى لبن وبيعه بأسعار مرتفعة". 

ويرى زبدي، أن الإقبال الكبير على الحليب المدعم والمحفوظ في علب جعل جل المستهلكين لا يأبهون بالحليب الطازج، رغم أنه صحي وسعره متقارب مع الأنواع الأخرى المعروضة في السوق، ما يتطلب إعادة النظر في هذه النقطة المهمة وترشيد المستهلكين حولها.

"عربي بوست"، اتصل برئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين، الطاهر بولنوار، الذي أكد أن مادة الحليب تعد مادة واسعة الاستهلاك وموجودة في جميع المحلات الغذائية والمساحات الكبرى بالجزائر. 

ويلفت المتحدث إلى أن التقديرات تقول إن الجزائريين يستهلكون ما يقارب  5 مليارات لتر من الحليب بأنواعه سنوياً، كما يتم استيراد كميات كبيرة من المادة الأولية لصناعة حليب الأكياس بقيمة تقارب مليار و500 مليون دولار سنوياً. 

ويوضح بولنوار، أن هذه الأرقام المذكورة تشير إلى أن مادة الحليب مطلوبة بشدة والاضطراب الحاصل في الوقت الحالي راجع إلى عوامل عديدة منها تراجع الإنتاج والمضاربة والتهريب، إضافة إلى نقص الإنتاج الوطني الذي يتم تعويضه بالاستيراد. 

تُعتبر علب الأكياش المجففة الأغلى في الجزائر (خاص عربي بوست)
تُعتبر علب الأكياش المجففة الأغلى في الجزائر (خاص عربي بوست)

إجراءات حازمة لضبط السوق

ضبط السوق يتطلب، حسب رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وترشيد المستهلك، مصطفى زبدي، إجراءات أخرى، يمكن أن تكون بتتبع مسار الحليب المدعم لدى خروجه من المصنع وحتى توزيعه، في حين شدد على ضرورة الذهاب إلى تشجيع استهلاك الحليب الطازج.

من جهته، يرى رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين، الطاهر بولنوار، أنه يتوجب على المؤسسات الإنتاجية للحليب بكل أنواعه أن تكثف الإنتاج من أجل كبح عمل المضاربين الذين يستغلون أي فرصة لضرب الاقتصاد الوطني لأغراضهم الشخصية، وبالتالي التلاعب بقوت الجزائريين. 

ويضيف بولنوار: "لا بد من التفكير جدياً والإسراع في تغيير طريقة الدعم الحالية، ليتم تحويل الدعم الموجه إلى المواد الغذائية لجيب المواطن البسيط مباشرة، مع العمل على تغطية الطلب الوطني بالاعتماد على 4 أو 5 ملايين من البقر الحلوب". 

ومن أجل ضبط سوق الحليب المدعم، اتخذت السلطات العليا في الجزائر إجراءات تتناسب مع الوضع في السوق بغرض توفير هذه المادة الاستهلاكية المهمة دون أن يشوبها خلل يؤثر على المستهلكين. 

وفي ذات السياق، أمر الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، يوم 10 أبريل/نيسان الماضي، برفع هامش ربح اللتر الواحد من الحليب للمصانع والموزعين، حيث تتكفل الدولة بزيادة هامش الربح بدينار واحد في اللتر من الحليب للمصانع ودينارين للموزعين. 

وفي إطار سياق الحفاظ على وفرة المواد الغذائية، شدد الرئيس تبون، لدى ترؤسه، اجتماعاً استثنائياً لمجلس الوزراء، يوم الأحد 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري على دور الحكومة، في الحفاظ على وفرة واستقرار المواد الغذائية، لا سيّما المدعمة منها.

وأصدر الرئيس الجزائري، يوم الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عند ترؤسه اجتماعاً خاصاً، حول التحكم في السوق ومواجهة المضاربة، تعليمات للتصدي لهذه السلوكيات ومجابهتها بكل صرامة.

علامات:
تحميل المزيد