بعدما تسببت في خلاف بين الجارتين المغرب والجزائر حول موروث الزليج (البلاط باللهجة المغاربية)، أصدرت شركة أديداس الألمانية بلاغاً محايداً تقول فيه إنها توصلت لاتفاق مع وزارة الثقافة المغربية.
وكانت وزارة الثقافة المغربية قد طالبت أديداس بسحب تشكيلة أقمصة منتخب الجزائر لكرة القدم، التي تقول الشركة إنه مستوحى من زليج قصر المشور بتلمسان، في حين يرى المغرب أن الزليج موروث خاص وحصري للمملكة.
الطرف المغربي يؤكد أن الزليج مسجّل باسم وزارة الصناعة التقليدية المغربية دولياً، وسبق لها أن وجهت إنذارات قضائية في شأنه وربحتها على المستوى الدولي، والدولة سجلت قانونياً الزليج كموروث لا مادي لها، وليس للجزائر.
زليج قصر مشور تلمسان.. مَن بنى القصر؟
اللافت في تغريدة أديداس أنها لم تربط تراث الزليج بدولة معينة، ولكنها اكتفت بالإشارة إلى قصر المشور في تلمسان أو القصر الزياني الذي يشهد على عراقة هذه الحاضرة التي اختيرت عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2011.
واختلفت الروايات التاريخية حول من قام بتشييد قصر المشور في الجزائر، بين المرابطين الذين حكموا المغرب الكبير من العاصمة مراكش، وبين الزيانيين الذين حكموا المغرب الأوسط، وهي الجزائر حالياً، وكانت عاصمتهم تلمسان.
وتقول الرواية الأولى إن قصر المشور في تلمسان بُني على يد يغمراسن بن زيان أوائل القرن الـ13، وهو الذي تولى الحكم على المغرب الأوسط (الجزائر) بعد أن كتب له الخليفة المُوَحّدي عبد الواحد الرشيد بن المأمون الحكم على هذه المنطقة.
وتذهب رواية تاريخية ثانية، إلى أن تأسيس القصر كان على يد المرابطين في عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين (1009-1106) الذي حكم من مراكش وحتى بجاية شرقاً وضم الأندلس شمالاً أيضاً.
ترميم مغربي
أستاذ التاريخ والآثار بالكلية متعددة التخصصات بتازة منير أقصبي، قال إن "هناك فرقاً بين الزليج الأثري وذلك الموجود اليوم في قصر المشور، باعتبار أقدم القطع الأثرية التي عُثر عليها في هذا القصر تعود للقرن الـ13، حينما كانت تلمسان محط صراع بين والزيانيين والمرينيين".
وأشار أقصبي، في تصريحه لـ"عربي بوست"، إلى أن "القصر أسسه أمير بني عبد الواد يغمراسن في منتصف القرن الـ13 في ربوة تُطل على تلمسان والتشكيلات الموجودة حالياً؛ هي ترميم وإعادة إنتاج قام بهما حرفيون مغاربة في العقود الأخيرة".
هذا الكلام، يتوافق فعلاً مع تصريحات الرئيس الجزائري الراحل، عبد العزيز بوتفليقة، التي نقلها التلفزيون الرسمي الجزائري، حينما أمر شخصياً بالاستعانة بخبرة المغاربة في ترميم قصر المشور بتلمسان.
و"كان بوتفليقة، حسب حديثه، يعرف أن المغاربة هم أصحاب هذا التراث المعماري الأصيل، يعني الزليج الذي حافظوا عليه جيلاً بعد جيل، والذي وُرِّثَ للإسبان عبر الأندلس".
كلام الرئيس الجزائري السابق، جاء في سياق كانت فيه العلاقات السياسية بين المغرب والجزائر لا تشهد حدة في الخلاف، وبذلك جاء ذاك الاعتراف الرسمي بأحقية المغرب بهذا الموروث، وهو ما يذكره الباحثون الذين يؤسسون أدلتهم على تاريخ الدول المتعاقبة على حكم المغرب التي وصل مداها إلى الجزائر شرقاً.
أقدم قطعة الزليج مغاربية
يفيد أستاذ التاريخ والآثار، وصاحب كتاب العمارة العسكرية بفاس عبر التاريخ، أن "أقدم قطعة زليج بالمغرب تعود للقرن الـ13، وهي الموجودة في صومعة مدرسة الصفارين المرينية بفاس".
وأضاف المتحدث في حديثه لـ"عربي بوست" أنه "عُثر على قطع زليج تعود لفترة سابقة، تعود للقرن الـ11 في قلعة بني حماد في الجزائر، وأخرى تعود للقرن الـ9 بمسجد جامع القيروان في تونس، وأخرى في الأندلس".
ولهذا "يشكل القرن الـ14 فترة أوج الزليج كمكون أساسي في زخرفة العمارة الدينية والمدنية في دول المغرب في عهد الدولة المرينية، لكن تطور بشكل كبير على عهد الدولة اللاحقة".
وأشار المتحدث إلى أن "أحسن تشكيلات الزليج توجد بقبور السعديين، ومدرسة بن يوسف بمراكش، وبعض القصور التي تعود الفترة العلوية، كقصر الباهية وقصر المنبهي بفاس".
في الأخير، يخلص أستاذ التاريخ والآثار، إلى أن "الزليج كحرفة تحمل مهارات ومعارف ضاربة في القدم، ينتمي للحضارة المغربية بحكم استمراريته في الاستعمال والممارسة إلى يومنا هذا".
وأشار المتحدث إلى أن "الزليج هو تراث غير مادي حي ورثه المغاربة عن أجدادهم، وما زالوا يصنعونه ويجددون في أشكاله، ويرتبطون به ويمررونه لأبنائهم، الشيء الذي ليس موجوداً في الدول المجاورة التي وجد على أراضيها بعض القطع الأثرية من الزليج".
الثقافة المشتركة لا تؤمن بالحدود السياسية
وللخروج من هذا "المأزق" الذي يحيط بالثقافة والفنون والتراث بين البلدين المغاربيين الجارين، يحاول بعض الباحثين في تراث شرق المغرب وغرب الجزائر، تسليط الضوء على "المشترك" بدل البحث عمن له صكّ حيازة موروث ثقافي ما.
يقول الباحث في التراث، محمد الركاب: "الخريطة الثقافية التي ينتمي إليها المغرب والجزائر لم تكن تنضبط للحدود السياسية الموجودة اليوم، لهذا ينظر لشرق المغرب وغرب الجزائر على أنهما شكّلا وحدة ثقافية منصهرة ومتجانسة روحياً وثقافياً وقبلياً وفنياً".
وأوضح الركاب، في حديثه لـ"عربي بوست"، أنه بين المغرب والجزائر "لم تكن مسألة الحدود مطروحة بالشكل القائم اليوم، وكانت القبائل تتحرك في هذا المجال الحدود بحرية دون أن يضايقها أحد"، مستدركاً أنه "مع الاستعمار أخذت الحدود بعدها السياسي".
فشرق المغرب تاريخياً لم يستقر على صورته النهائية إلا بعد معاهدة لالة مغنية التي وقعها المغرب مع فرنسا سنة 1845، بعد انهزامه أمامها في معركة إيسلي سنة 1844، وكان من أهم بنودها رسم الحدود بين المغرب والجزائر.
وبذلك، يعد "البناء الثقافي لكل مجال حصيلة تراكم تاريخي وتفاعل بشري لا تستطيع الحدود الطارئة محو آثاره، خصوصاً أن الخريطة الثقافية تشكلت منذ زمن بعيد"..
وخلص المتحدث ذاته، أن "هناك مشتركاً يصعب حسمه في منطقة شمال إفريقيا ككل؛ خصوصاً أن دولة مثل المغرب وصلت إلى حدود تونس، ما يعني أنها تركت بشكل مؤكد بصماتها في هذه الدول التي كانت آنذاك مجتمعة".
الدول المتعاقبة والتأثير المغربي
في بحث لها حول جماليات الفن المعماري المرابطي بالجزائر، تؤكد الخبيرة في التراث المعماري الجزائري، صبرينة دحماني، أن "الوحدة السياسية التي حققها المرابطون بين الأندلس والمغرب أثرت فعلاً على الحضارة".
وتقول المتحدثة إن "المرابطين مزجوا بين الحضارتين المغربية والأندلسية، وجلبوا المهندسين والصناع من الأندلس معتمدين لإنشاء القصور والمساجد، وفي نفس الوقت أدخلوا إلى الأندلس مظاهر الحضارة المغربية المتعلقة بفن العمارة والبناء".
وترى الباحثة الجزائرية أن "المرابطين فتحوا أبواب المغرب المرابطي على مصراعيها أمام الحضارة الأندلسية لتتدفق التأثيرات الأندلسية، فبدأت تظهر بالمدن روائع الفن المغربي الأندلسي لهذا العصر في الأبنية، خاصة الدينية بالجزائر كالجامع الكبير في تلمسان (…)".
لهذا يؤكد الباحثون الجزائريون أن دخول المرابطين إلى الجزائر؛ وخصوصاً تلمسان، كان له أثره على المستوى المعماري، باعتبارهم ساهموا في تعمير البلاد بالقلاع والحصون والمدارس والمساجد، على الشاكلة الذي يوجد في المغرب الآن.
وبطبيعة الحال، سيشهد هذا المعمار تطوراً في ظل حكم الزيانيين الذين كانوا تابعين للدولة المُوَحّدية مباشرة بعد المرابطين، فخلّفوا بذلك تراثاً عمرانياً في زمن لم تكن قد وجدت فيه الحدود المتعارف عليها اليوم.