في تعبير شائع عن وحدتهم الترابية، ظل المغاربة يرددون المقولة الشهيرة: "من طنجة إلى لكويرة"، التي أطلقها العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني بُعيد المسيرة الخضراء، في إطار التعبئة الوحدوية للأقاليم الجنوبية للمملكة وربطها بالمغرب ككل.
غير أن مدينة لكويرة الصحراوية الصغيرة وشبه المهجورة، المركونة بمحاذاة مدينة نواذيبو الموريتانية، فإنها توجد في وضع "ملتبس"؛ إذ إنها تخضع منذ 1975 للسلطات الموريتانية، لكنها إدارياً تابعة للمغرب، باعتبارها جماعة حضرية تابعة لإقليم أوسرد بجهة الداخلة وادي الذهب.
وعاد الجدل حول مدينة لكويرة عندما كتب وزير الإعلام الموريتاني السابق، محمد أمين، في تدوينة على فيسبوك: "لكويرة ليست موريتانية منذ تخلت عنها موريتانيا طوعاً في 1979. إذا أراد المغرب أخذها فذلك أمرٌ لا يعنينا".
واعتبر الوزير السابق، أن مهمة موريتانيا "ليس حراسة أراضي الغير، كما هو الحل منذ نيف وأربعين سنة". فما هي حقيقة هذه المدينة؟ وما سيرتها التاريخية حتى أضحت اليوم في هذا الوضع "الملتبس"؟
"لكويرة" أم "لغويرة" أم "بئر الذئب"؟
تقع مدينة لكويرة في نقطة قصية على شاطئ المحيط الأطلسي، تحدها ولاية نواذيبو الموريتانية شرقاً، والمحيط الأطلسي من غرباً وجنوباً، ومن الشمال وادي الذهب، أطلق عليها الإسبان مسمى لكويرة عندما وصلوا إلى شبه جزيرة الرأس الأبيض عام 1884.
وتُعرف أيضاً باسم "بئر الذئب"، وهو اسم لبئر أجاج استخدمه الرعاة القدامى في المنطقة لسقي قطعان الإبل. لكن المؤرخ المغربي المتخصص في تاريخ الصحراء المغربية، نور الدين بلحداد، يرى أن "الاسم الأصلي لهذه المدينة هي "لغويرة"، لكونها تقع في شبه جزيرة الرأس الأبيض ما بين منطقة وادي الذهب وحدود موريتانيا".
هناك "تنتشر تلال رملية بيضاء، ومنها جاء اسم لغويرة؛ لأن أمواج المحيط الأطلسي عندما ترتطم بالصخور الهشة تحدث أغواراً، من ثم تداول اسم لغويرة لقرون قبل دخول الإسبان للمنطقة"، يوضح بلحداد لـ"عربي بوست".
وتابع المؤرخ، أن "المنطقة أصبحت تُعرف باسم لكويرة عندما برز اسمها إلى السطح في الأحداث السياسية، وخاصة في المنافسة الاستعمارية بشأن الحدود الجنوبية لمنطقة وادي الذهب منذ 1886 ما بين فرنسا وإسبانيا".
وأضاف المتحدث أنه "بعد سنوات بعد ذلك، ونتيجة الاتفاقات الثنائية التي جرت بين فرنسا وإسبانيا سنة 1900، تشكّلت ازدواجية حول المنطقة بتقسيم شبه جزيرة الرأس الأبيض؛ وبذلك أصبح الجزء الغربي لمدينة لكويرة تابع للإسبان، والجزء الشرقي تابعاً لفرنسا".
فرنسا وإسبانيا.. آثار الاستعمار في المنطقة
بعد عقدين تقريباً من ترسيم مناطق النفوذ بين المحتلين الإسباني والفرنسي وُلدت مدينة لكويرة، عندما بدأ الإسبان بالاستقرار الفعلي فيها وأنشأوا مركزاً عسكرياً لحماية معمل تصبير وتمليح السمك، بناه مقاولون من جزر الكناري.
وكانت لكويرة عام 1974 مستعمرة إسبانية تُعد بمثابة قطبٍ مهمٍ لأنشطة الصيد البحري بنحو 8000 طن من الأسماك المُصدّرة من نواذيبو نحو معمل "إنسامارطا"، ثم غادرت الساكنة الأوروبية المدينة سنة بعد ذلك، على أثر إعلان الملك المغرب الراحل الحسن الثاني سنة 1975 عن المسيرة الخضراء نحو الصحراء وتأكيد انتمائها للمملكة.
وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وُقّع اتفاق مدريد الذي ينهي استعمار إسبانيا للصحراء، على أن يسترجع المغرب شمال ووسط المنطقة، بينما يعود جنوبها لموريتانيا، وبعد ذلك سحبت إسبانيا آخر جندي لها من الصحراء في 12 يناير/كانون الثاني 1976.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل وقّعت موريتانيا على اتفاق سلام في 5 أغسطس/آب 1979مع جبهة البوليساريو التي تطالب بانفصال المنطقة عن المملكة، ما دفع الجيش المغربي إلى السيطرة على الإقليم الذي يضم مدينة لكويرة في 14 من الشهر ذاته.
لكويرة خارج خريطة موريتانيا
فماذا يعني إذن استمرار حضور موريتانيا في لكويرة اليوم؟ هل هو تواجد مؤقت تمليه الظروف الخاصة بمنطقة الصحراء، أم أن نواكشوط ضمّت هذه الأراضي إلى ترابها بصفة نهائية، وبالتالي قد تشكل مصدر توتر بين الرباط ونواكشوط مستقبلاً؟
يقول المحلل السياسي الصحراوي ورئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان (غير حكومي)، محمد سالم عبد الفتاح: "موريتانيا ومنذ انسحابها من نزاع الصحراء لم يسبق أن طالبت رسمياً بمنطقة الكويرة، وخرائط الدولة الموريتانية الرسمية الصادرة عنها منذ سنة 1979، والمودعة لدى الأمم المتحدة، لا تتضمن أي شبر من الصحراء، كما لا تتضمن منطقة الكويرة".
وتابع عبد الفتاح، في تدوينة على فيسبوك أن "لكويرة يسري عليها ما يسري على بقية الصحراء الغربية، كون الأخيرة مسجلة لدى الأمم المتحدة كمنطقة نزاع، لكن المغرب يمارس سيادته على الغالبية العظمى من ترابها، ما عدا الشريط العازل شرق الجدار الذي تحكمه قواعد اتفاق وقف إطلاق الذي انسحبت منه البوليساريو فيما لا يزال المغرب متمسكاً به".
وكان اتفاق وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو دخل حيز التنفيذ في 16 سبتمبر/ أيلول 1991، تحت مراقبة بعثة "المينورسو" الأممية التي أنشأت بقرار أممي في أبريل/نيسان من نفس السنة، لكن جبهة البوليساريو خرقت الاتفاق مع المغرب في نونبر 2020.
واقع مؤقت فرضته المرحلة
مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الاستراتيجية (غير حكومي)، عبد الفتاح الفاتحي، قال إن "واقع المدينة الحالي فرضته ظروف المرحلة، والتي اقتضت إقامة حزام رملي إلى المحيط الأطلسي سنة 1987، وترك مدينة لكويرة خارجه، فكان حالها كحال عدد من المناطق التي تركت كمنطقة عازلة".
واعتبر الفاتحي، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "الوضع الجغرافي والسياسي للكويرة يقول إنها جزء لا يتجزأ من تراب الصحراء المغربية التي كانت مستعمرة إسبانيا، وفق التوثيق التاريخي لدى الأمم المتحدة".
وأضاف المتحدث أن "النقاشات حول الصحراء المغربية يتأسس على حدودها التي لا يشوبها غموض أو التباس مع الحدود الترابية لموريتانيا، وخلاف ذلك يعتبر مواجهة مع مبادئ القانون الدولي، وبالتالي تحدي القواعد القانونية، التي تترتب عنها جزاءات وتبعات قانونية".
لهذا يقول المتحدث "وعلى الرغم من أن الخريطة السياسية والسيادية على الصحراء غير مستقرة بسبب النزاع المفتعل حول الصحراء، فإن وضعها اليوم يبقى مؤقتاً بالنظر إلى تطور السياسة الترابية للمملكة المغربية".
وأشار مدير مركز الصحراء وإفريقيا للدراسات الاستراتيجية في تصريح لـ"عربي بوست" إلى أن "المغرب يمتلك تصوراً لتنمية المنطقة اقتصادياً، فقط هي مسألة وقت لا غير".
مدينة لكويرة في قلب مخطط الإعمار
برز إلى السطح توجّهٌ مغربي جديد في التشكل في أقاليم الصحراء على مدى الأشهر الماضية، يستهدف تنمية المنطقة الممتدة بين مدينتي الداخلة ولكويرة التي يفصل بينهما نحو 446 كيلومتراً وتحويلها إلى منطقة جاذبة للاستثمارات.
يذكر الباحث والإعلامي، محمد كريم بوخصاص، أنه "رغم ما يظهر من الوهلة الأولى على أن الإجراءات الجديدة سيادية، تدخل ضمن حرص المغرب على حماية صحرائه وضمان احترام سيادة أراضيه، فإن نظرة استشرافية لما يجري على الأرض تُظهر وجود أبعاد جيوسياسية ترتبط بوضع ضمانات على أرض الواقع لزيادة ثقة المجتمع الدولي في مقترح الحكم الذاتي".
ويعد هذا المقترح مبادرة رسمية قدمها المغرب سنة 2007، تهدف إلى وضع حد للنزاع حول الصحراء، إذ لقيت اعترافاً من دول كبرى منها أمريكا وإسبانيا، وهو ينص بالأساس على نقل جزء من اختصاصات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى جهة الحكم الذاتي للصحراء، ليدبر سكانها شؤونهم بأنفسهم بشكل ديمقراطي، بينما تحتفظ الرباط باختصاصاتها المركزية في ميادين السيادة.
وفي بحثه المنشور على موقع المعهد المغربي لتحليل السياسات (غير حكومي)، سجل بوخصاص أن هناك عدداً من المشاريع الكبرى في طور الإنجاز في جهة الداخلة وادي الذهب؛ على غرار المشروع الضخم لميناء الداخلة الأطلسي الذي يوجد قيد الإنجاز.
وأضاف المصدر نفسه، أن "نشر القناة الأولى الرسمية لصورة ثلاثية الأبعاد لميناء الكويرة في نشرتها الرسمية في 28 أبريل 2021، ضمن تقرير عن المواقع المينائية الحالية والمستقبلية على طول السواحل المغربية، شكل مؤشرا على أن لكويرة في قلب مخطط الإعمار بالجهة التي بلغت مرحلة النضج من حيث جلب المستثمرين".
كما أشار بوخصاص، إلى أن "المغرب الذي يبسط سيادته الإدارية على كل أقاليم الصحراء، يجعل لكويرة ضمن التقطيع الجماعي جماعة حضرية تابعة لإقليم أوسرد، ويوجد مقرها في مدينة الداخلة، على غرار عدد من الجماعات المتواجدة شرق الجدار، وتَنتخب رئيسها في كل استحقاقات انتخابية من طرف السكان المنتسبين إليها، آخرها انتخابات 8 سبتمبر/أيلول التي أفرزت مجلساً جماعياً جديداً برئاسة عبد الفتاح المكي عن حزب الاستقلال".