تمضي التدابير الجديدة لتنظيم الطائفة اليهودية المغربية، والتي أقرها العاهل المغربي، الملك محمد السادس، خلال مجلس وزاري يوم الأربعاء 13 يوليو/تموز الجاري، في تكريس التوجه المغربي الرسمي لتعزيز حضور الرافد العبري اليهودي في المملكة.
فقد كشف وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، في عرضه أمام الملك، أنه سيتم إحداث 3 هيئات جديدة لفائدة اليهود المغاربة؛ وهي "المجلس الوطني للطائفة اليهودية المغربية"، و"لجنة اليهود المغاربة بالخارج"، وأخيراً "مؤسسة الديانة اليهودية المغربية".
وقد اعترف دستور 2011 في المغرب لأول مرة بالرافد العربي كجزء من مكوّنات الهوية الوطنية، إذ جاء في تصديره "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة (…)، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية".
ويمتد تاريخ اليهود في المغرب إلى مئات السنين، إذ هناك مصادر تشير إلى أن ذلك التاريخ يرجع إلى فترة ما قبل الميلاد، فيما تذكر مصادر مغايرة أن جزءاً من أمازيغ شمال إفريقيا كانوا يهوداً، وأنهم من السكان الأصليين في هذه المنطقة.
الباحث في التاريخ اليهودي المغربي، رشيد دوناس، يؤكد أن "الوجود اليهودي بالمغرب قديم يمتد إلى نحو ألفي سنة، ولدينا في المغرب موروث قديم في مجال التساكن بين اليهود والمسلمين، بغض النظر عن التوترات واللحظات الصعبة التي أصابت هذا التساكن، باعتبار المغاربة اليهود تأثروا، كغيرهم من المجموعات الإثنية، بتقلبات الظروف سلبيها وإيجابيها تبعاً لإكراهات وشروط السياق التاريخي".
لكن كل ذلك لم يمنع اليهود المغاربة "من المساهمة بالكم والكيف في صياغة خصوصية الهوية المغربية، كما هو الحال في كل تجربة إنسانية اغتنت بالتنوع والاختلاف، فكان وجودهم فاعلاً ومؤثراً في التركيبة الاجتماعية والثقافية للمغرب"، يستطرد دوناس في حديثه لـ"عربي بوست".
وسجل الباحث في التاريخ اليهودي المغربي، أن القرارات التي اتخذتها الدولة المغربية تأتي "لتثمين المكون العبري المغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية للمغرب، من نسيجه الاجتماعي العريض المتعدد الثقافات، إن على المستويات العرقية أو الدينية".
كما أنها قرارات تأتي "لاستدراك ما فات، وفي نفس الوقت من شأنها أن توفر شروطا مؤسساتية مساعدة في تأطير أنشطة وفعاليات ثقافية وعلمية وفنية، من شأنها أن تمكن المغرب من أن يصير قوة ناعمة وفضاء مثالياً لاحتضان مشاريع حوار وتثاقف بين الخلفيات الثقافية والعرقية والدينية المختلفة، فضلاً عن تعزيز ارتباط مغاربة الخارج ببلادهم وضمان الاستفادة من ديانتهم، وهو الأمر الذي سبق أن دأبت عليه الدولة المغربية منذ مدة ليست بالقصيرة"، يردف المصدر ذاته.
اليهود في المغرب.. "ليسوا كتلة مضطهدة"
في علاقة اليهود المغاربة بباقي فئات المجتمع المغربي، يؤكد المؤرخ المتخصص في اليهود المغاربة، محمد كنبيب، أنهم (أي اليهود) "تميزوا فعلاً باندماجهم داخل المجتمع المغربي بصفتهم أحد مكوناته المتعددة، وبتشبعهم بالثقافة السائدة في المدن والبوادي، وبمساهمتهم بحظ وافر في إثراء رصيد البلاد الحضاري، كما أثروا بدرجات متفاوتة عبر العصور في مجريات الأحداث".
ويبيّن كنبيب، في كتابه "يهود المغرب"، أنه كان لليهود المغاربة "وظائف تقليدية في مجالات المال والنقود والمبادلات التجارية بمختلف أصنافها الداخلية والخارجية، ولاسيما البحرية منها، والحِرف والمخالطات في القطاع الفلاحي".
ونبه المؤرخ ذاته، إلى أن الكتابات الأجنبية بالغت في تصوير يهود المغرب "وكأنهم مجرد كتلة من المضطهدين، عاشوا على هامش التاريخ وضد منطقه، في حين أننا نلاحظ استمرار الوجود اليهودي بالمغرب".
صلة بالوطن رغم الهجرة
حتى وإن عرف الوجود اليهودي في المغرب تراجعاً كبيراً، من خلال هجرة الكثير منهم نحو أوروبا وأمريكا وإسرائيل أيضاً، فإن العدد الحالي لأبناء الطائفة اليهودية المغربية المقيمين حالياً في المملكة يقدَّر بنحو ثلاثة آلاف شخص، وهم بذلك أكبر طائفة يهودية في شمال إفريقيا على الخصوص.
لكن ذلك لا يعني أن اليهود المهاجرين قطعوا صلتهم نهائياً بالمغرب، بل إن الآلاف من اليهود يحجون إلى المملكة من كل أصقاع العالم سنويا، لإحياء احتفالات دينية يهودية تسمى بطقوس "الهيولة" تتم على مدى أسبوع كامل، إذ يوجد أكثر من 50 هيلولة من وزان شمال غرب المغرب، مروراً ببني ملال وسط البلاد، وانتهاء بالصويرة المطلة على الأطلسي جنوباً.
وعادة ما تنطلق الاستعدادات لموسم هيلولة أياماً قبل موعدها، وتحرص السلطات المغربية على تأمينها، إذ تعرف حضور بعض الشخصيات الرسمية المغربية.
ويوجد في المملكة أكثر من 600 ولي يقصده اليهود المغاربة، ضمنهم أولياء مشتركين بين المسلمين واليهود، بالإضافة إلى مزارات عديدة، ومدافن ومعابد لليهود المغاربة، منتشرة في عدد من القرى والمدن المغربية.
مشترك يهودي أمازيغي
في سياق التعايش هذا، يرى الباحث في التاريخ الاجتماعي لليهود في منطقة الأطلس الصغير بسوس (جنوب)، الحسن تيكبدار، أن "مختلف الأبحاث في مجال التواجد اليهودي بالمغرب، كشفت على أن مبادئ التسامح والعيش المشترك واحترام الآخر لذاته ولإنسانيته؛ هي أسس ثابتة استمرت مع الإسلام، وما زالت قائمة إلى يومنا هذا، وما حديثنا اليوم عن التاريخ المشترك لليهود والأمازيغ إلا حالة من حالات التعايش على أرض المغرب السمحة".
وأوضح تيكبدار، في تصريحه لـ"عربي بوست"، أن "الذاكرة الجماعية اليهودية جزء لا يتجزأ من الأمازيغ، إذ أكدوا في مختلف الروايات الشفوية لمن عايشهم أنه بالفعل حصل تعايش لغوي وثقافي مجتمعي قوي وصل حد الإنصهار".
لهذا "فحميمة هذا الجوار والتعايش المشترك بين الطرفين، تمخض عنه بروز عدة عادات وتقاليد وأعراض مشتركة في مجالات الأضرحة والجنائز والاستسقاء، ثم على مستوى اللغة والاستنجاد بالذبائح، وطقوس التحصين (…)".
وخلص الباحث ذاته إلى أن "استمرارية اليهودية المغربية، ومقاومتها لصروف الدهر، أمران يجدان تفسيرهما بشكل كبير في التجذّر العميق لهذه الجماعة في أرض المغرب طوال ما يزيد على ألفي سنة، وفي وزنها الديموغرافي قبل الخمسينيات من هذا القرن، إلى جانب مساهمتها التاريخية في التراث الوطني".