لم يعد صوت العصافير وحفيف أوراق الشجر يُسمع في تلك البقعة الخضراء المليئة بالأشجار العالية عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، لأن أصوات بكاء الصغار وأمهاتهم وانشغالهم بشعور البرد الذي ينخر عظامهم، وصراخ حرس الحدود وتهديداتهم باتت تطغى على كل شيء.
فهناك أسلاك حديدية شائكة، وقوات مدججة تفصل بين الأرض البولندية التي يراها مهاجرون وبعضهم من الشرق الأوسط، بداية حلمهم إلى أراضي الاتحاد الأوربي، وبين أرض بيلاروسية لم تكن سوى ممر عبور إلى أعتاب ذلك الحلم الذي انتهى بوفاة 8 أشخاص من البرد، حتى الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
في هذا الاستقصاء سنروي لكم كيف أصبحت دمشق نقطة انطلاق لنقل مهاجرين إلى بيلاروسيا عبر مطار دمشق الدولي، وكيف ينتهي بهم المطاف عالقين بين قوات جيش بيلاروسي يستخدمهم للانتقام من أوروبا، وقوات دول ترى في المهاجرين خطراً عليها.
كيف أصبحت بيلاروسيا ممراً لأوروبا؟
تقع بيلاروسيا على تخوم دول الاتحاد الأوروبي، ولا تفصل بينها وبين دول الاتحاد إلا بولندا، ويتشارك البلدان في شريط حدودي يبلغ طوله نحو 271 كيلومتراً.
تعود بداية القصة إلى شهر يونيو/حزيران 2021، عندما فرض الاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات على بيلاروسيا، استهدفت قطاعات اقتصادية في البلاد، رداً على "تصاعُد للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في بيلاروسيا".
كان رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو قد أعلن فوزه بالانتخابات، في أغسطس/آب 2020، لكن معارضيه اتهموه بالتزوير، وخرج محتجون بالشوارع وواجهتهم قوات السلطة بعنف شديد.
لوكاشينكو الذي لا يعرف الرحمة مع معارضيه كان قد أغضب أوروبا، في شهر مايو/أيار 2021، بعدما أبلغ مراقبو الطيران في بيلاروسيا طاقم طائرة "ريان إير" بتهديد مزعوم بوجود قنبلة، وأجبروها على الهبوط في العاصمة مينسك، ليتم إثر ذلك اعتقال معارض لوكاشينكو، براتاسيفيتش الذي كان على متنها.
أغضبت العقوبات لوكاشينكو، وبدأ يلوح بورقة اللاجئين كأداة انتقام من أوروبا وعقوباتها، وقال في يوليو/تموز 2021: "من يظن أن مينسك ستغلق حدودها مع بولندا وليتوانيا ولاتفيا وأوكرانيا، وتغدو مقر إقامة للاجئين القادمين من أفغانستان وإيران والعراق وليبيا وسوريا وتونس "فهو على خطأ".
لم ينتظر لوكاشينكو طويلاً حتى يحوّل تهديداته إلى أفعال، ففي شهر يوليو/تموز 2021، كانت ليتوانيا جارة بيلاروسيا على موعد مع تدفق المهاجرين، الذين وصلوا عبر بيلاروسيا إلى الحدود، وحينها توترت علاقات البلدين، وحمّلت ليتوانيا مينسك المسؤولية.
انتقل لوكاشينكو إلى خطوة تصعيدية أكبر مع الاتحاد الأوروبي، إذ سهلّت السلطات في البلاد وصول المهاجرين إلى بولندا، وهي الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، والتي إذا اجتازها المهاجرون يكونون قد وصلوا إلى ألمانيا.
لذا ومنذ شهر أغسطس/آب 2021، حاول آلاف المهاجرين الذين ينحدر معظمهم من منطقة الشرق الأوسط عبور الحدود بين بيلاروسيا وبولندا.
مقاطع فيديو نُشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، وتحقق منها "عربي بوست"، أظهرت مرافقة عناصر من قوات حرس الحدود البيلاروسية للمهاجرين، وصولاً إلى الحدود البولندية، وهو ما أكدته أيضاً صحيفة The Guardian البريطانية، التي قالت إن القوات البيلاروسية رافقت نحو ألف مهاجر.
الطريق إلى بيلاروسيا
وجد يائسون في الشرق الأوسط فرصة في التوتر بين بيلاروسيا وجيرانها، وسعي الأخيرة إلى الانتقام من أوروبا بورقة اللاجئين، فقرروا خوض التجربة، مستغلين التسهيلات التي تقدمها السلطات في مينسك.
تفرض بيلاروسيا فيزا على عدد من الدول العربية في الشرق الأوسط، أبرزها سوريا، التي خرج منها ملايين اللاجئين السوريين موزعين على دول عربية وأوروبية، هرباً من عمليات القصف التي شنّها النظام وحلفاؤه ومن المعارك، وبسبب تردي أوضاع الاقتصاد بالبلاد.
سفارة بيلاروسيا في العاصمة السورية دمشق كانت قد فتحت أبوابها لاستقبال طلبات الفيزا، وحصل "عربي بوست" على صورة للأوراق المطلوبة، التي كان على المتقدمين تأمينها مقابل الحصول على الفيزا، وتبلغ تكلفة الفيزا 60 يورو.
العاصمة البيلاروسية مينسك بدأت تشهد منذ سبتمبر/أيلول 2021، مزيداً من رحلات الطيران القادمة من الشرق الأوسط، ومن خلال عدة مواقع من المصادر المفتوحة توصل "عربي بوست" إلى بيانات توضح كيف وصل مواطنون من دول عربية إلى الأراضي البيلاروسية.
في البداية توجّهنا إلى المواقع المفتوحة المصدر التي تقدم بيانات عن رحلات الطيران بين البلدان، وتشير البيانات إلى أن سوريا التي تعد من الدول الصديقة لبيلاروسيا زادت بشكل ملحوظ من أعداد رحلاتها الجوية إلى مينسك، عبر خطوط "أجنحة الشام"، التي فرضت أمريكا عقوبات عليها عام 2016 بسبب دعمها لنظام الأسد.
تشير أرقام الرحلات التي توصلنا إليها إلى أن هناك على ما يبدو اتفاقاً ضمنياً بين نظام بشار الأسد والسلطات في مينسك على استقدام سوريين إلى الأراضي البيلاروسية، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي وجدناً عدداً كبيراً من الإعلانات السياحية التي تروج للذهاب إلى بيلاروسيا، وبعض الإعلانات كانت تعود إلى مكاتب في دمشق.
عند البحث حول خطوط "أجنحة الشام" وجدنا أن لديها 3 طائرات وهي بحسب موقع Flight Radar:
- Airbus A320-231
- Airbus A320-211
- Airbus A320-212
تتبعنا سير رحلات الطائرات وتوصلنا إلى أن الطائرة Airbus A320-211 التابعة لـ"أجنحة الشام"، أجرت 18 رحلة من وإلى بيلاروسيا، بدءاً من تاريخ 28 سبتمبر/أيلول 2021، وحتى 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أي في الفترة التي بدأت الدول المجاورة لبيلاروسيا تشهد مزيداً من التدفق للحدود.
اللافت أن هذه الطائرة لم تتوجه إلى بيلاروسيا منذ بداية العام 2021، ولم تبدأ أولى رحلاتها إلا في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي.
أما الطائرة Airbus A320-212، والتابعة أيضاً لخطوط "أجنحة الشام"، فإنها أجرت 36 رحلة من وإلى العاصمة البيلاروسية مينسك، وانطلقت الرحلة الأولى يوم 10 سبتمبر/أيلول 2021، وآخر رحلة في يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021. ولم تنظم هذه الطائرة أي رحلة إلى بيلاروسيا منذ بداية العام الجاري.
بذلك تكون خطوط "أجنحة الشام" قد أجرت 54 رحلة من وإلى بيلاروسيا منذ نهاية سبتمبر/أيلول 2021 وحتى 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
ويبدو أن تدفق السوريين إلى بيلاروسيا لن يتوقف قريباً، فموقع "أجنحة الشام" لا يزال ينظم المزيد من الرحلات، وعندما دخلنا إلى الموقع الرسمي للخطوط الجوية وحاولنا حجز تذكرة من دمشق إلى مينسك لمعرفة الرحلات المقبلة، وجدنا أن عدداً من الرحلات المقبلة أصبحت ممتلئة بالكامل.
كان من اللافت عند محاولة شراء تذكرة طيران "ذهاباً وعودة" عبر خطوط "أجنحة الشام" أنه رحلات العودة المجدولة للشركة من بيلاروسيا إلى دمشق قليلة، وتفصل بينها أيام عدة، كما أن آخر رحلة عودة مجدولة في يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وليس على جدول الشركة رحلات أخرى على الأقل حتى بداية الشهر المقبل، ما يشير إلى أن من سافر إلى بيلاروسيا من سوريا ويريد العودة للأخيرة سيبقى عالقاً لأيام.
على إثر هذا النشاط الجوي الكثيف من سوريا إلى بيلاروسيا، أصبح مطار دمشق الدولي نقطة عبور مركزية نحو مينسك، وأظهر مقطع فيديو انتشر يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على موقع تويتر، طابوراً من المسافرين وهم ينتظرون عند بوابة مطار دمشق الدولي.
الرجل الذي كان يصور الفيديو تحدث بالكردية، وقال إن المسافرين وجهتهم إلى بيلاروسيا، وذكر الحساب الذي نشر الفيديو أنهم من الأكراد العراقيين وينحدرون من مدينتي دهوك وزاخو.
تظهر بيانات رحلات الطيران أن عدد الرحلات من مطار بغداد إلى مطار مينسك، منذ أغسطس/آب 2021، وحتى يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بلغت 10 رحلات، فيما وصل عدد الرحلات بين بغداد وسوريا إلى 7، خلال الفترة من 8 إلى 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
ثمة عامل آخر ساهم في تشجيع مهاجرين على توجه المهاجرين إلى بيلاروسيا، وهي شبكات التواصل الاجتماعي، فخلال استقصائنا هذا وجدنا عدداً كبيراً من المجموعات على "فيسبوك"، التي أُنشئت بغرض الاستفسار عن السفر إلى بيلاروسيا، وتزامن تاريخ إنشاء بعضها مع بدء أزمة بيلاروسيا مع الاتحاد الأوروبي في الصيف الماضي.
تمكّنا من الدخول إلى عدد من المجموعات الخاصة التي انضم عليها نحو عشرات الآلاف من عدة بلدان عربية، وكان الكم الأكبر من الاستفسارات حول طريقة السفر من سوريا، والعراق، والأردن، وتركيا.
وجدنا في بعض المجموعات كمّاً هائلاً من المعلومات حول السفر إلى بيلاروسيا، ومن ثم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي، ومنشورات احتوت على شهادات قال أصحاب المنشورات إنها تعود لأشخاص هاجروا إلى بيلاروسيا، تحدَّث بعضهم فيها عن الوضع عند الحدود، وآخرون عن عنف قوات حرس الحدود، إضافة إلى بعض النصائح.
على سبيل المثال يتحدث أحد الأشخاص إلى أعضاء المجموعة حول طريق صعب للعبور من الحدود البيلاروسية إلى البولندية.
أيضاً يتبادل أعضاء المجموعات أرقاماً لمهربين موجودين عند الحدود، إضافة إلى أرقام أشخاص يؤمّنون شققاً مفروشة في بيلاروسيا، حيث تحدث عدد من أعضاء المجموعات عن أن الفنادق في بيلاروسيا يرفضون استقبال المهاجرين، ولم يتسنّ لنا التأكد من صحة ذلك.
ينتعش في هذه المجموعات عمل "السماسرة"، الذين يعرضون مساعدة المهاجرين على الوصول إلى ألمانيا مقابل المال، فعلى سبيل المثال تحدث عضو في إحدى المجموعات عن وجود طريق من بيلاروسيا إلى ألمانيا مقابل دفع 3200 دولار.
يُحذر أعضاء في المجموعات من عمليات نصب واحتيال تعرّض لها أُناس حاولوا استخراج الفيزا من مكاتب سياحية، ليتبين أنها مزورة، ويشتكي آخرون من ارتفاع الأسعار مقابل الحصول على فيزا، بينما تحدثت منشورات عن تعرض أشخاص للإيقاف في بيلاروسيا، وظلوا عالقين بالمطار.
المعاناة عند الحدود
بمجرد وصول المسافرين إلى مطار مينسك تبدأ رحلة التوجه إلى الحدود البولندية، إذ تبلغ المسافة بين المطار والحدود قرابة 326 كيلومتراً، ويتطلب قطع هذه المسافة نحو 3 ساعات و45 دقيقة.
عند الحدود يجد المهاجرون أنفسهم ملقون على طول السياج الحدودي، إذ ترفض بولندا وجارتها ليتوانيا إدخال أي منهم، كما يصعب عودتهم إلى الداخل البيلاروسي.
يحتشد حالياً على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا آلاف المهاجرين ويعيشون في أجواء غاية في البرودة، إذ تبلغ درجة حرارة الجو اليوم، الأربعاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، -2 درجة مئوية.
أحد مقاطع الفيديو المنشورة على شبكات التواصل يختصر حال المهاجرين على الحدود، ويعكس صورة لكيفية استغلالهم من قبل بيلاروسيا واستخدامهم كورقة لإزعاج دول الاتحاد الأوروبي.
يظهر في الفيديو مجموعة من المهاجرين عند سياج حدودي، ومن خلفهم يوجد عناصر مسلحون وملثمون تابعون لبيلاروسيا، وهم يدفعون بالمهاجرين نحو السياج الحدودي مع بولندا، وعلى الضفة البولندية المقابلة من الحدود يقف جنود رافضون إدخال المهاجرين إلى أراضيهم.
تمثل مقاطع الفيديو المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي المصدر الرئيسي لمعرفة ما يجري على الحدود، إذ ممنوع على الصحفيين دخول الموقع، وذلك بالإضافة إلى المشاهد التي تبثها سلطات بيلاروسيا وبولندا على الحدود.
تُظهر لقطاتٌ محاولة مهاجرين إزالة السياج الحدودي الذي وضعته القوات البولندية، كما أظهرت فيديوهات أخرى إطلاق الغاز المسيل للدموع تجاه صفوف المهاجرين.
اتّهم حرس الحدود البيلاروسيون القوات البولندية باستخدام الغاز المسيل للدموع وبممارسة "ضغوط نفسية" على المهاجرين من خلال استخدام "مكبرات الصوت والأضواء والمصابيح الكاشفة طوال الليل"، وأفاد كذلك عبر تطبيق تليغرام عن "سماع طلقات"، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية.
في ذات الوقت تُشير تصريحات رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو، حليف موسكو، إلى أن بلاده ليست بصدد إنهاء تدفق المهاجرين إلى الحدود، إذ قال إن "بلاده لن تركع" أمام الاتحاد الأوروبي.
روسيا لم تسلم من الاتهامات بالتواطؤ في أزمة المهاجرين، واتهم رئيس الوزراء البولندي ماتوش مورافيتسكي الرئيس الروسي بالوقوف وراء ما يجري عند حدود الاتحاد الأوروبي.
وسط هذا المشهد، وبينما يأمل المهاجرون بأن تكون رحلتهم المحفوفة بالمخاطر أكثر من مجرد تصفية حسابات بين الدول، فإن التوترات على حدود بيلاروسيا مع جيرانها تثير المخاوف من اندلاع مواجهة عند حدود الاتحاد الأوروبي، حيث حشد البلدان قوات عسكرية.