غريتا تونبرغ والكوفية.. حين أبحرت فتاة من الشمال في وجه الإبادة

عربي بوست
تم النشر: 2025/10/06 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/10/06 الساعة 10:35 بتوقيت غرينتش
غريتا تونبرغ - عربي بوست

في مساءٍ بارد من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وبين هتافاتٍ ملأت بها ساحة ستوكهولم تضامناً مع غزة، وقفت فتاة سويدية، بشعرٍ مضفور وكوفيةٍ فلسطينية، تلوّح بيدها إلى جانب لافتة كُتب عليها: Stand With Gaza.لم تكن تلك سوى غريتا تونبرغ، الناشطة المناخية التي باتت وجهًا مألوفًا في ميادين الاحتجاج حول العالم. لكنها هذه المرة لم تحتجّ من أجل المناخ، بل انحازت بوضوح إلى المتظاهرين ضد الإبادة الجماعية التي يواصل الاحتلال الإسرائيلي ارتكابها في غزة حتى اليوم.

بعد سنوات من اعتصامها المنفرد على رصيف البرلمان السويدي من أجل المناخ، التحمت غريتا بصوتها مع أصواتٍ تطالب بالعدالة للفلسطينيين، تردّد مع الجموع هتافاتٍ غاضبة من جرائم إسرائيل، وتُعلن دون مواربة: "الصمت تواطؤ، ولا يمكنك أن تكون محايداً في إبادة جماعية".

وفي الوقت الذي راح فيه ساسة الغرب يتشدقون بتصريحات جوفاء، يبرّرون بها المجازر أو يتوارون خلف صمتٍ متواطئ، كانت ملامح النضج تتجذر في خطاب غريتا وروحها. إذ لم تعد تلك الفتاة الغاضبة التي اعتصمت وحيدة، بل غدت رمزاً أخلاقياً عالمياً يُربك دبلوماسية المؤسسات الدولية، ويُحرج قادة العالم وعجزهم السياسي والأخلاقي.

بالكوفية الفلسطينية التي تلتفّ حول عنقها، وبنظراتها الثابتة إلى كاميرات العالم، بدت وكأنها تعيد رسم خارطة التضامن من جذورها، وتعيد تعريف البديهيات: أن العدالة لا تُنتقى على مقاس الجغرافيا، ولا تُجزَّأ وفق العرق أو اللون أو الجنسية.

فالعدالة، كما تؤمن غريتا، لا تتجزأ – فالعدالة المناخية هي امتدادٌ للعدالة الإنسانية، وجهان لمبدأٍ واحد لا ينفصل. من أزمة المناخ إلى حرب الإبادة في غزة، ومن حماية الأرض إلى الوقوف إلى جانب المعذّبين عليها، تمدّ غريتا خيوط نضالها في خطٍ متصل لا ينكسر، حيث يصبح الدفاع عن الحياة موقفاً شاملاً لا يستثني أحداً.

ولم يكن ظهورها في ستوكهولم سوى بداية لمسار أكثر جسارة. فمع اتساع رقعة الدمار، واستمرار الإبادة والحصار حتى حواف التجويع، أبحرت غريتا مع أحد عشر ناشطاً على متن سفينة صغيرة لا يتجاوز طولها 18 متراً، أسموها "مادلين"، انطلقت من جنوب أوروبا نحو غزة، بلا سلاح، ولا حماية، سوى إيمانهم المتّقد بكسر الحصار الذي يُشرف عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – المطلوب أمام العدالة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.

ورغم ما أحاط هذه الرحلة من أخطار، لم تتردد تونبرغ ورفاقها في ركوب الأمواج، لمواجهة احتلال لا يتورع عن قصف كلّ من يحاول كسر طوق الموت المفروض على غزة. وكما كان متوقعاً، اعترضت قوات الاحتلال الإسرائيلية السفينة "مادلين" وصعدت على متنها في عرض المياه الدولية، قبل أن تبلغ وجهتها. نكّلت إسرائيل بالطاقم، ولم تستثنِ غريتا من الإهانة، وفي اليوم التالي تم ترحيلها خارج الأراضي المحتلة.

لكن ما حدث لم يُثنِ غريتا، بل بدا وكأنه زادها إصراراً. لم تكتفِ بما جرى، بل التحقت بعد ذلك بـ "أسطول الصمود العالمي" – أحد أكبر التحركات المدنية لكسر الحصار، يضم أكثر من خمسين سفينة من مختلف أنحاء العالم.

وكما في المرة الأولى، لم تتأخر آلة القمع في الرد. استولى جيش الاحتلال مجدداً على سفن الأسطول، واحتجز المشاركين في ظروف قاسية ومهينة، وصلت إلى حدّ التعذيب، وفقاً لشهادات متطابقة أدلى بها من تم ترحيلهم لاحقاً إلى تركيا. أما غريتا، فقد كانت هذه المرة هدفاً مباشراً للانتهاك، حيث أُجبرت أثناء احتجازها مع طاقم "أسطول الصمود العالمي" على الزحف وتقبيل علم الاحتلال.

فمن هي غريتا تونبرغ؟ وما الذي يدفعها لتجاوز حدود قضايا المناخ والانخراط في معارك تتجاوز التصنيفات التقليدية للنشطاء؟ لماذا لم تكتفِ بالدفاع عن الكوكب، وقررت أن ترفع صوتها في وجه الاستعمار، والإبادة، والظلم؟

حين بكت غريتا من أجل العالم

وُلدت غريتا تونبرغ عام 2003 في كنف عائلة فنية سويدية؛ والدتها، مالينا إيرنمان، مغنية أوبرا شهيرة لمع نجمها بعد فوزها في مسابقة غنائية متلفزة ومشاركتها في "يوروفيجن" عام 2009، ووالدها، سفانتي تونبرغ، كان ممثلاً في بداية مشواره. لكن رغم هذا المحيط المليء بالأضواء والشهرة، لم تكن طفولتها مريحة.

منذ أعوامها الأولى، بدت غريتا مختلفة. مصابة بحساسية مفرطة تجاه العالم، ورهافة شعورٍ كانت تُثقل كاهلها بإدراك لا يترك لها مهرباً من الشعور العميق لما حولها. في سن الثامنة، كما تروي بنفسها، تعرّفت لأول مرة على تغيّر المناخ. وفي شهادة والدتها، تحكي عن اليوم الذي عرضت فيه المدرسة فيلماً وثائقياً عن "رقعة القمامة الكبرى" الطافية في المحيط الهادئ. وبينما عاد التلاميذ إلى لهوهم كأن شيئاً لم يكن، بقيت غريتا مشدودة إلى الصور التي رأتها، لا تستطيع أن تنساها. وبدأ يطوف في ذهنها تساؤل، كيف يمكن للناس أن يواصلوا حياتهم اليومية بينما الكوكب يحتضر في صمت؟

غريتا تونبرغ
غريتا ثونبرغ حين كانت تتظاهر خارج البرلمان السويدي يوم الجمعة 2019 – shutterstock

في الحادية عشرة، تحوّلت هذه الأسئلة إلى عبء داخلي خانق. انسحبت من محيطها، وقلّ كلامها إلى حدّ الصمت، باستثناء تواصلها المحدود مع أفراد أسرتها، ودخلت في حالة اكتئاب حادة. وصفها والدها بأنها فقدت قدرتها على "التوفيق بين تناقضات الحياة الحديثة"؛ فبينما كان العالم يندفع نحو الاستهلاك واللا معنى، كانت هي تئن تحت ظل كارثة كوكبية لا يبالي بها الكثير.

ومن هنا، ربما نفهم ما أصاب غريتا ليس كأزمة نفسية معزولة، بل كنوع من الحساسية المفرطة تجاه اختلال العالم. وكأن روحها الشابة اصطدمت باكراً بحقيقة مُرة يصعب على كثيرين حتى الاعتراف بها. في هذا السياق، تستحضر حالتها مقولة الفيلسوف إريك فروم: "لا يمكن للمرء أن يكون عميق الاستجابة للعالم، دون أن يكون حزيناً." إذ لم يكن حزن غريتا علامة ضعف، بل تجلياً لوعي استثنائي، أو يقظة مبكّرة؛ جعلتها ترى ما يغض الآخرون الطرف عنه، وتشعر بثقل العالم على نحو لا يحتمله كثيرون.

في كتاب "منزلنا يحترق: مشاهد من عائلة وكوكب في أزمة"، وهو مذكّرات جماعية موقّعة باسم أفراد العائلة الأربعة – الأم مالينا، الأب سفانتي، والابنتان غريتا وبياتا – يبرز صوت الأم كراوية أساسية. تصف مالينا ابنتها بأنها كانت تمتلك ذاكرة تصويرية قوية، تحفظ عواصم دول العالم وأقاليمه، وتعلّق الجدول الدوري للعناصر فوق سريرها، تتلوه عن ظهر قلب. ومع ذلك، كانت عرضة للتنمّر في المدرسة، واضطرت إلى دعم استثنائي من معلمة عطوفة، كي تواصل تحصيلها الدراسي وتحافظ على درجاتها.

في عام 2014، حين كانت في الحادية عشرة من عمرها، بدأت غريتا تبكي باستمرار. "كانت تبكي ليلاً حين يفترض بها أن تنام، تبكي في طريقها إلى المدرسة، في الصفوف، وفي فترات الاستراحة. كانت المعلمات يتصلن بالمنزل تقريباً كل يوم"، تروي والدتها، مالينا. كيف توقفت غريتا عن العزف على البيانو، عن الضحك، وعن الكلام. ولم يبقَ لها ما يواسيها سوى الكلب الذهبي للعائلة.

في خريف العام ذاته، امتنعت عن الطعام. لم يكن واضحاً في البداية إن كان السبب نفسياً أم عضوياً. وفي أحد أيام سبتمبر/أيلول، وبينما كانت العائلة تخبز لفائف القرفة، حاول والداها إقناعها بتذوّق واحدة، لكنها رفضت. صرخا في وجهها، وأمراها أن تأكل. عندها، كما تصف الأم، أطلقت غريتا "عواءً بدائياً استمر أكثر من أربعين دقيقة." وحين أثبتت التحاليل سلامتها الجسدية، بدأت رحلة طويلة من التقييمات النفسية المعقّدة.

تقلص عالمها الخارجي، حتى توقفت عن الحديث مع أي أحد خارج نطاق أسرتها الصغيرة. ومع نهاية العام، أصبحت على شفا دخول المستشفى. وكانت مالينا تركض إلى المنزل على دراجتها بعد عروضها المسرحية في ستوكهولم، تزيل مساحيق مكياجها على عجل، بينما يبقى سفانتي، الأب، ملازماً للبيت، لا يغادر جانبي طفلتيه.

وفي أوائل 2015/كانون الثاني، جاءت التشخيصات: متلازمة أسبرغر، توحد عالي الأداء، اضطراب وسواس قهري، وصمت انتقائي. وبدأت غريتا تناول مضاد اكتئاب يُدعى "سيرترالين". رغم ذلك، رفضت والدتها اختزال ما مرت به ابنتها إلى مجموعة أحرف باردة، إذ ترى أن "ما أصاب غريتا لا يمكن تفسيره بمجرد تشخيص طبي"، وتقول: لقد كان، في نظرها، رد فعل وحيداً ومعقولاً على عالم فقد بوصلته. "في النهاية، لم تستطع ببساطة أن تتصالح مع تناقضات الحياة الحديثة."

لم تحدد مالينا لحظة التحول التي جعلت من المناخ هوس ابنتها، لكنها لم تشك لحظة في صواب إحساسها، إذ ترى أن: "غريتا لديها تشخيص، لكن هذا لا ينفي أنها على حق، وأننا نحن – الباقين – من أخطأ." بالنسبة للأسرة، كان انهيار غريتا النفسي بسبب أزمة المناخ، كان في جوهره استجابة عقلانية لواقع غير عقلاني. لقد أدركت غريتا حقيقة علمية وأخلاقية يتغافل عنها الكبار، وانهارت نفسياً لأن أحداً لم يكن يصغي للإنذار الداهم.

ومع مرور الوقت، تحوّلت ما كانت تُعتبر نقاط ضعف في شخصية غريتا إلى مصادر قوة فريدة. فقد منحتها إصابتها باضطراب طيف التوحّد، كما تقول، قدرة استثنائية على التركيز، ورؤية الأشياء بوضوح أخلاقي لا يعرف المناطق الرمادية.

غريتا تونبرغ
غريتا – shutterstock

تتحدث غريتا بصراحة عن أثر هذا التشخيص على مسارها ووعيها، ولم تخجل يوماً من إصابتها بـ "متلازمة أسبرغر" – وهو المصطلح الذي كان يُستخدم قبل دمجه رسمياً في طيف التوحّد عام 2013. بل حولته إلى جزءٍ من هويتها النضالية، موقعةً على بعض منشوراتها بوسم #AspiePower (قوة الأسبرغر)، في إشارة إلى أن اختلافها العصبي ليس عيباً، بل مكمن بصيرتها، وما يمنحها القدرة على رؤية زيف العالم وفضحه.

ولم يكن ذلك مجرد شعار. فكما يوضح توني أتوود، أحد أبرز الخبراء العالميين في متلازمة أسبرغر، غالباً ما يتميّز الأشخاص المصابون بهذا الطيف بصراحةٍ حادة، ورفضٍ للمساومة، وحسٍ أخلاقي عالٍ تجاه العدالة الاجتماعية. هذه السمات بدت جلية في شخصية غريتا منذ سنوات مراهقتها الأولى، حين بدأت ترى العالم بلغة الحقائق المجردة، دون رتوش الخطاب السياسي أو مبرّرات التباطؤ الأخلاقي.

وقد بدأ تأثيرها من الدائرة الأقرب. والدتها، مغنية الأوبرا الشهيرة، تخلّت عن السفر جواً – وبالتالي عن جزء مهم من حياتها المهنية الدولية – استجابةً لقلق غريتا من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن الطائرات. أما والدها، فكان أول من دعم خطواتها الاحتجاجية الأولى، رغم ما بدت عليه من غرابة.

بهذه الخلفية، تشكّلت لدى غريتا علاقة فريدة بالحقيقة؛ علاقة لا تحتمل التنازل أو التواطؤ. وكأن لا شيء يثير غضبها أكثر من التناقض بين الخطاب والممارسة لدى صنّاع القرار، وأكثر ما يدفعها إلى الفعل هو شعورها أن الجميع، بدرجات متفاوتة، يكذبون على الجميع بشأن خطرٍ وجوديّ محدق.

في العشرين من أغسطس/آب 2018، وقفت غريتا تونبرغ، ذات الخمسة عشر عاماً، وحدها أمام مبنى البرلمان السويدي في ستوكهولم. تحمل لافتة كرتونية كتبَتْ عليها بخط يدها الطفولي الواثق: "إضراب مدرسي لأجل المناخ" (Skolstrejk för klimatet). كانت خطتها بسيطة: أن تعتصم يومياً أمام البرلمان، بدءاً من أول يوم في الفصل الدراسي الخريفي وحتى موعد الانتخابات البرلمانية بعد ثلاثة أسابيع.

وفي كل صباح، كانت تستقل دراجتها متجهة إلى البرلمان، في نفس التوقيت الذي يفترض أن تكون فيه على مقعدها في الفصل. تلتقط صورة لنفسها، تنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تطفئ هاتفها — كما لو أنها داخل الصف فعلاً. تقضي ساعات اليوم جالسة على الأرض، تراجع كتبها المدرسية، رغم أنها لم تكن تؤمن بجدوى ما تدرسه. في مقابلات لاحقة، صرّحت أنها تعتبر الاستعداد للمستقبل أمراً عبثياً في ظل الصمت العالمي: "لماذا يُطلب من أي شاب أن يدرس من أجل مستقبلٍ لا أحد يفعل ما يكفي لحمايته؟".

لم تكن تتوقع الكثير؛ ربما بعض النظرات الفضولية أو تجاهل تام من المشرّعين. لكن خلال أيام وأسابيع قليلة، بدأ النشطاء المحليون بالانضمام إلى اعتصامها تضامناً، وانتشرت صورة اللافتة التي تحملها كالنار في الهشيم. بحلول الأسبوع الثاني، أصبحت غريتا شخصية معروفة في السويد، تتحدث عنها الصحف بوصفها "التلميذة التي أحرجت السياسيين".

ولعل اللحظة التي منحتها صوتاً عالمياً جاءت في ديسمبر/كانون الأول 2018، حين وقفت على منصة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (COP24) في كاتوفيتسه، بولندا. وهناك، خاطبت قادة العالم بصراحة لاذعة تقطع حين قالت: "أنتم لستم ناضجين بما يكفي لتقولوا الحقيقة كما هي. حتى هذا العبء تتركونه لنا نحن الأطفال. لكنني لا أهتم بأن أكون مشهورة، ما يهمني هو العدالة المناخية، وكوكبٌ حيّ… إن حضارتنا تُضحّى بها من أجل إتاحة الفرصة لقلة قليلة من الناس لمواصلة جني مبالغ هائلة من المال. يتم تدمير محيطنا الحيوي ليتمكن الأثرياء في بلدان مثل بلدي من العيش في رفاهية. معاناة الكثيرين هي الثمن الذي يُدفع مقابل رفاهية القليلين… في عام 2078، سأحتفل بعيد ميلادي الخامس والسبعين. وإذا كان لدي أطفال، ربما يقضون ذلك اليوم معي، وربما يسألونني عنكم. ربما يسألونني: لماذا لم تفعلوا شيئاً؟"

بهذا الخطاب، خرج اسم غريتا تونبرغ من كونه خبراً طريفاً عن فتاة تحتج، إلى شعارٍ لحركة شبابية آخذة في التشكل. فأطلقت "Fridays for Future"، حركة إضراب طلابي لأجل المناخ، سرعان ما ألهمت ملايين الطلبة حول العالم للمشاركة في إضرابات منتظمة كل يوم جمعة.

ففي 15 مارس/آذار 2019، شارك أكثر من مليون طالب في أكثر من 2000 احتجاج عبر 125 دولة – من ألبانيا وقيرغيزستان إلى بيرو وتايلاند وزامبيا – في أول إضراب عالمي من أجل المناخ. وفي غضون سبعة أشهر فقط، أصبحت غريتا أيقونة في الفضاء الرقمي، يتابعها أكثر من مليون شخص على إنستغرام، و400 ألف على تويتر، وتحولت إلى رمز عالمي للعمل المناخي.

بدأت الدعوات الرسمية تنهال عليها لتتحدث في المحافل الدولية. في يناير/كانون الثاني 2019، دُعيت إلى منتدى دافوس الاقتصادي العالمي – قلب المؤسسة الرأسمالية – فجلست هناك أمام حفنة من رجال الأعمال والسياسيين تُحذرهم بلا مواربة: "منزلُنا يحترق… أريدكم أن تشعروا بالهلع الذي أشعر به كل يوم، ثم أن تتحركوا كما لو كانت داركم تشتعل." لم يملك أولئك المسؤولون إلا الإصغاء إلى تلك الفتاة الصغيرة، المرتجفة قليلاً، الحادّة في صدقها.

خلال عامٍ وبضعة أشهر، كانت غريتا قد خاطبت رؤساء دول في الأمم المتحدة، والتقت البابا في الفاتيكان، وتجادلت مع رئيس أكبر قوة في العالم (دونالد ترامب)، وألهمت حوالي 4 ملايين شخص للمشاركة في إضرابات المناخ حول العالم.

وفي خضم ذلك، عبرت المحيط الأطلسي على متن قارب صغير لتصل إلى نيويورك لحضور قمة الأمم المتحدة للمناخ في سبتمبر/أيلول 2019، رافضةً السفر الجوي لكي لا تزيد انبعاثات الكربون. وهناك، صعدت المنصة، وواجهت زعماء العالم بعيون دامعة وصوت غاضب قائلة: "كيف تجرؤون؟ لقد سرقتم أحلامي وطفولتي بكلماتكم الفارغة… كل هذا خطأ. ما كان ينبغي أن أكون هنا. كان ينبغي أن أعود إلى المدرسة على الجانب الآخر من المحيط. ومع ذلك، أنتم جميعاً تأتون إلينا نحن الشباب بحثاً عن الأمل!"

لم تكن غريتا تسعى لتأسيس منظمة هرمية، ولا لقيادة جماعة منظمة بالمعنى التقليدي. لقد بدأت وحيدة، وهذا ما منح حراكها طابعاً مختلفاً منذ البداية. فـ "أيام الجمعة لأجل المستقبل" نشأت كحركة لامركزية تماماً، قوامها طلاب يستوحون الفكرة ويفعلونها محلياً بطريقتهم. لا يوجد مكتب قيادي، ولا مجلس إدارة عالمي يصدر الأوامر؛ فقط غريتا، تغرّد، تلقي خطابات، وتواصل إشعال شرارة التغيير.

في ذروة صعودها، كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي السلاح الأبرز لغريتا تونبرغ. فرغم طبعها الانطوائي، واعتمادها الشحيح على الكلام في حياتها اليومية، استخدمت تويتر وإنستغرام بمهارة استراتيجية لنشر رسالتها. وقد قالت لاحقاً: "من دون وسائل التواصل، لما كان لأي من هذا أن ينجح."

حيث استطاعت خلال أشهر قليلة حشد مئات الآلاف من المتابعين حول العالم. كانت تنشر صور إضرابها الأسبوعي أمام البرلمان السويدي – تلك الصورة الثابتة لها وهي جالسة بصمت تحمل لافتتها – فتحصد تفاعلاً هائلاً، ويكرّر عشرات الآلاف حول العالم المشهد ذاته في مدنهم. هذا التواصل الرقمي صنع شبكة تضامن عالمية غير مسبوقة بين شباب لا يجمعهم دين، أو لغة، أو عِرق، بل وعيٌ مشترك بكارثة مناخية وشيكة، وإيمانٌ بعدالة القضية.

هكذا، صنعت غريتا – دون أن ترفع صوتها – شبكةً متشابكة من الفعل والموقف، عابرة للحدود والهويات، لا يتوسطها حزب، ولا يمليها برنامج، بل تُبنى على فعل بسيط: الجلوس في المكان الصحيح، في اللحظة الأخلاقية المناسبة.

بحلول أواخر 2019/كانون الأول، اختارت مجلة "تايم" غريتا تونبرغ شخصية العام، مشيدةً بها كصوتٍ يجسّد "سلطة أخلاقية شبابية" في مواجهة الأزمة الكوكبية. لم تكن فتاةً تصرخ فحسب، بل رمزاً أخلاقياً يعيد تعريف المسؤولية، حتى في غياب السلطة السياسية. الكاتبة الكندية مارغريت أتوود شبّهتها بـ جان دارك العصر الحديث – فتاة تقود جيلها في معركة مصيرية من أجل النجاة، لا بالسيف، بل بالحقيقة.

ورغم هذا الزخم الإعلامي الهائل، بقيت غريتا متحفّظة، متشككة في جدوى تلك "النجومية المفروضة". قالت مرة: "لا أرى نفسي كمشهورة أو رمز… أنا فعلياً لم أفعل شيئاً سوى قول الحقيقة."

وتابعت: "لن أكون مثيرةً للاهتمام طويلاً. سيتلاشى هذا الاهتمام قريباً، لكنني آمل فقط أن يظل مرتبطاً بالحركة."

من المناخ إلى فلسطين.. كيف أعادت غريتا تعريف نُبل النضال؟

في بداياتها، حاول البعض اختزال غريتا تونبرغ في صورة الناشطة البيضاء الصغيرة، القادمة من شمال أوروبا، تدافع عن البيئة بخطاباتٍ لا تُربك النظام العالمي. قُدِّمت بوصفها رمزاً لـ "نضال آمن" – صديق للمؤسسات، قابل للهضم، لا يمسّ جوهر الظلم ولا يزعزع ميزان الهيمنة.

كان المناخ، وفق هذا التصوّر، قضية مثالية لفتاة مثلها: تغيّر المناخ، حماية الأنواع، تدوير البلاستيك، والتنوّع البيولوجي. كلها عناوين تُناسب أذواق صُنّاع القرار، وتسكن في سرديات اجتماعية مخففة، لا تطال البنية العميقة للسلطة، ولا تربط بين العدالة البيئية والعدالة التاريخية أو الاستعمارية.

لكن تلك الفتاة خيّبت هذا التوقع النمطي عنها. فعاماً بعد عام، راحت ملامح تصورها تتبلور نحو رؤية أكثر جذرية للعدالة. فلم تعد ترى أزمة المناخ معزولة عن بقية أزمات العالم، بل امتداداً لمنظومات القهر الكبرى: الاستعمار، الاضطهاد، الحروب، والفقر.

وقد بلغ هذا التحوّل ذروته مع اندلاع حرب الإبادة في غزة عام 2023. حينها، لم تلزم الصمت، ولم تكتفِ بالتصريحات المتحفظة. أعلنت بوضوح انحيازها إلى فلسطين، وخرجت إلى الميادين، تضع الكوفية الفلسطينية حول عنقها، وتهتف وسط الحشود في شوارع أوروبا، مؤكدة أن: "العدالة المناخية لا تنفصل عن العدالة الإنسانية."

رفضت الحذر، وتجاوزت الخطوط التي تفضّل المؤسسات الغربية ألا تُمسّ. لم تعد فقط تحاجج من أجل الكوكب، بل من أجل الإنسان الذي يُسحق على سطحه.

في إحدى التظاهرات المناهضة للإبادة في غزة، قالت: "إذا كنتِ، كناشطة في مجال المناخ، لا تقاتلين أيضاً من أجل فلسطين الحرة وإنهاء الاستعمار والقمع في جميع أنحاء العالم، فلا ينبغي أن يكون بإمكانكِ تسمية نفسكِ ناشطة في مجال المناخ." ثم أتبعت قولها: "الصمت تواطؤ. لا يمكنك أن تكون محايداً في إبادة جماعية."

أثار موقفها هذا دهشةً لدى البعض، وغضباً لدى آخرين. وُجهت إليها اتهامات بـ "تسييس" قضية المناخ، وبالخروج عن المسار البيئي المفترض. لكن غريتا لم تتراجع، بل ردّت بحزم في مقال رأي مشترك مع ناشطين آخرين: "لم نكن يوماً غير سياسيين… نحن حركة من أجل العدالة، والوقوف إلى جانب الفلسطينيين وكل المدنيين المتضررين ليس أمراً قابلاً للنقاش."

بالنسبة لغريتا تونبرغ، لم يكن دعم الشعب الفلسطيني خروجاً عن مسار النضال البيئي، بل امتداداً طبيعياً له، ومنطقياً في جذوره. فالعدالة المناخية، كما شددت مراراً، لا تُبنى في فراغ، ولا يمكن تصوّر إنقاذ الكوكب على حساب أجساد البشر. "لا عدالة مناخية دون حقوق الإنسان" – جملة كررتها لتعيد ضبط البوصلة الأخلاقية لحركتها، وتوسّع حدود الاشتباك بين الأرض والإنسان، بين المناخ والسيادة، بين المستقبل والكرامة.

بكلماتٍ بسيطة، لكنها شديدة الإضاءة، وضعت تونبرغ سؤالها المركزي أمام العالم: أي كوكبٍ نريد إنقاذه، إذا لم نكترث بمن يُدفنون تحته؟

غير أن مواقفها هذه لم تمرّ دون ثمن. في ألمانيا، دعا سياسيون إلى منعها من دخول البلاد بسبب مشاركتها في احتجاجات مؤيدة لفلسطين. اتهمها بعض ناشطي المناخ بأنها "تحرّض على الكراهية"، بل مُنعت من حضور فعالية جامعية خشية أن تجتذب جمهوراً واسعاً. أما دير شبيغل، فقد خصّصت مقالاً مطوّلاً في نسختها الدولية لـ "إعادة وضعها في مكانها"، بعد أن رأت فيها فتاةً باتت ساذجة بعد أن كانت أيقونة.

في الوقت نفسه، باشرت ماكينة دعاية الاحتلال الإسرائيلي في شيطنتها، لا لشيء إلا لأنها أدمجت الضحايا البشر ضمن أولويات البيئة والضمير. تحرّكت حملة كراهية ضارية ضدّها، مشفوعة بتصريحات ومنشورات تصمها بالعداء للسامية، ومرفقة بتصميمات رسومية أغرقت مواقع التواصل، صوّرتها في هيئة ازدراء بشعة تنزع عنها الإنسانية، أو ترميها بالنزعة النازية، أو تُظهرها في أنفاق المقاومة الفلسطينية التي كانت حينها موضوع تشويه واسع النطاق في الدول الغربية.

وأعلنت سلطات الاحتلال أن اسم غريتا تونبرغ سيختفي فوراً من الكتب المتداولة في المدارس الإسرائيلية.

لم يكن دخول غريتا تونبرغ على خط التضامن مع فلسطين فعلاً استعراضياً عابراً، بل تجلّياً أخيراً لقناعة تراكمت ببطء وعمق، حتى بلغت حدود الجسد والفعل. واجهت القمع والغرامات، واعتُقلت وسُجنت، ووُصفت بأنها "معادية للسامية" لمجرد وقوفها في صف الضحية. لكن تلك الفتاة الخجولة التي بدأت رحلتها وحيدة على رصيف البرلمان، كانت قد تحوّلت إلى امرأة واثقة، تعرف موقعها في الصراع وتختار جانبها بوضوح.

في يونيو/حزيران 2025، أبحرت غريتا على متن زورق صغير يُدعى "مادلين"، برفقة أحد عشر ناشطاً من جنسيات متعددة، رافعة راية فلسطين. لم يكن الزورق يتجاوز طوله 18 متراً، ولم تحمه أي جهة رسمية، لكنه كان مشبعاً برمزية كثيفة؛ رمزٌ لضمير عابر للحدود، يتّجه نحو غزة في محاولة لكسر الحصار المفروض عليها. بدا المشهد وكأنه أقرب إلى أسطورة إسكندنافية تُعاد كتابتها من جديد؛ لكن هذه المرة لا تبحر شمالاً لفتح أرض، بل جنوباً لفضح حصار. و"مادلين" – وهو اسم فتاة فلسطينية كانت تصطاد السمك لإطعام أطفالها تحت نيران الاحتلال – أصبح اسماً مركزياً في هذه الرحلة.

لم تتأخر إسرائيل في اعتراض القارب عند اقترابه من شواطئ فلسطين، واعتقال من كانوا على متنه، بمن فيهم غريتا. وبعد عملية قرصنة واعتداء على المتطوعين، سارعت سلطات الاحتلال إلى إبعادها، خشية أن تتحول قضيتها إلى ملف دولي يُحرج الحلفاء ويوقظ الرأي العام العالمي من سباته.

لكن غريتا لم تتراجع، ولم يعد الاحتلال يبالي بصورة حلفائه ولا بردود الفعل الدولية، فأبحرت غريتا مجدداً، هذه المرة ضمن "أسطول الصمود العالمي"، الذي ضم العشرات من السفن التي تحمل الناشطين والمتطوعين من مختلف الجنسيات. ومجدّداً، استولى جيش الاحتلال على الأسطول واعتقل طواقمه.

وكما في المحاولة الأولى، جرى احتجاز المشاركين في ظروف قاسية ومهينة، وصلت إلى حدّ التعذيب، وفقاً لشهادات متطابقة أدلى بها من تم ترحيلهم لاحقاً إلى تركيا.

وأكد الناشط والصحافي التركي أرسين تشليك، الذي كان ضمن "أسطول الصمود العالمي"، أن الإسرائيليين عذّبوا الناشطة السويدية غريتا تونبرغ "تعذيباً شديداً" أمام أعين بقية الناشطين. وقال تشليك إن الإسرائيليين "عذّبوا بشدة غريتا أمام أعيننا. عاملوها بظلم، غريتا طفلة صغيرة. أجبروها على الزحف وعلى تقبيل العلم الإسرائيلي، فعلوا الشيء نفسه الذي فعله النازيون".

دعم هذه الشهادات تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، أكّد أن غريتا كانت تتعرض لمعاملة سيئة للغاية أثناء احتجازها من قبل السلطات الإسرائيلية. ونقلت الصحيفة عن رسالة إلكترونية اطّلعت عليها، صادرة عن وزارة الخارجية السويدية، وُجّهت إلى مقربين من غريتا، تفاصيل صادمة بشأن أوضاع احتجازها.

وجاء في الرسالة أن مسؤولاً من السفارة السويدية زار غريتا، وأفاد بأنها "تتلقى كميات غير كافية من الماء والطعام"، كما اشتكت من ظهور طفح جلدي تعتقد أن سببه يعود إلى حشرات الفراش، وأضافت أنها أُجبرت على الجلوس فترات طويلة على أرض صلبة.

ووفقاً للصحيفة، أبلغ أحد المحتجزين مسؤولاً دبلوماسياً بأنهم شاهدوا السلطات الإسرائيلية تُجبر غريتا على التصوير وهي تحمل أعلاماً إسرائيلية.

السلطة الأخلاقية

لم يكن إبحار غريتا إلى غزة سوى ذروة طبيعية لمسار أخلاقي طويل، بلغ أقصى اتساعه حين لامس المحرّمات السياسية في الغرب، وواجه البنى السلطوية التي تخشى الكلمة أكثر مما تخشى السلاح. لم تملك غريتا حزباً، ولا سلطة، لكنها حملت ما هو أندر: السلطة الأخلاقية.

في مقالة أكاديمية صادرة عن جامعة جافل السويدية بعنوان "غريتا ثونبرغ وتوليد السلطة الأخلاقية: مراجعة منهجية للأدبيات حول خصائص قيادة ثونبرغ"، عرّف الباحثون هذا المفهوم بأنه قدرة فرد على التأثير والإلهام وقيادة الآخرين استناداً إلى مبادئ أخلاقية راسخة، دون اللجوء إلى أدوات القهر أو الموقع الرسمي. وقد استخدم الباحثون تحليلاً نوعياً استنتاجياً للمحتوى لرصد الخصائص الخمس التي تجسّد هذه السلطة في حالة غريتا: التضحية، الثقة، الشجاعة، الأمل، والانتماء.

فالتضحية، مثلاً، تتجلّى في قرارات حاسمة اختارت فيها أن تتخلّى عن امتيازات المراهقة العادية: رفضت السفر جواً بسبب انبعاثات الكربون، وقطعت المحيط الأطلسي في قارب شراعي لحضور قمة المناخ في نيويورك، فقط لتبقى منسجمة مع مبادئها. اختارت أيضاً أن تضحّي بسنوات الراحة والخصوصية، لتكرّس حياتها لقضية كبرى تتجاوزها.

أما الصدق، فقد كان سلاحها الأبرز. نهجها المباشر في قول الحقيقة "كما هي" بلا تزيين أو مواربة، أكسبها ثقة الملايين من الشباب الذين ضاقوا ذرعاً بوعود السياسيين الجوفاء. في إحدى خطاباتها الشهيرة، قالت بوضوح: "لا يمكنكم خداعنا بعد الآن… الشباب بدأوا يفهمون خيانتكم." تلك العبارة لم تكن فقط تلخيصاً لحالة السخط، بل إعلاناً عن ولادة جيل جديد يرى في غريتا صوتاً نقياً في مشهد مشبع بالضجيج.

الشجاعة، بدورها، لم تكن خطاباً بل ممارسة. من طفلة في سن المراهقة تواجه دون تردد رؤساء دول – من ترامب الذي سخر منها، إلى بولسونارو الذي وصفها بـ "الصعلوكة" (Pirralha) – إلى منابر الأمم المتحدة حيث صرخت، بدموع صادقة وغضب مكبوت: "كيف تجرؤون؟"… عبارة تحوّلت إلى صدى عالمي، وشعار يتردّد في وجه أصحاب القرار، مطالباً بالفعل أو التنحي.

أما الأمل والانتماء، فقد منحتهما غريتا لجيلٍ بأكمله. لم تكن مجرد قائدة، بل بوصلته الأخلاقية. جعلت الشباب يشعرون أنهم ليسوا وحدهم، وأنهم قادرون على التغيير إن تخلّوا عن الصمت.

لقد فعلت ذلك دون منصب، دون جيش، دون مؤسسة. وحدها الحقيقة، مدعومة بشجاعة نادرة، كانت كافية لتحرّك ملايين البشر. ومن خلال هذه السلطة الأخلاقية، فرضت غريتا تونبرغ على العالم أجندة لا تُشترى، وصوتاً لا يُسكَت، ونموذجاً قيادياً جديداً: لا يُبنى على الخوف أو النفوذ، بل على المبدأ وحده.

تحميل المزيد