غوستافو بيترو.. رئيس لم يترك غزة وحدها في مواجهة تَخاذُل العالم

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/26 الساعة 11:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/26 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو/ رويترز


خلال عقد الثمانينيات، وفي ليلة ساكنة تحت لمعان النجوم في صحراء ليبيا، كان يجلس شاب يُدعى "إنان لورا" بين مقاتلين لا تجمعهم لغة ولا عِرق. حوله كانت القيثارة تعزف ألحانها، وعلى الأرض ترقد الأسلحة وطلقات الرصاص.

كان إنان قد وصل من كولومبيا، يحمل همّ بلده الذي مزقته الحرب الأهلية، ليتلقى تدريبه العسكري جنباً إلى جنب مع حركات تحرر عالمية: إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادة نيلسون مانديلا. ربما لم يكن يعرف العربية، وربما ما سمعه هناك لم يكن غريباً عليه؛ كانت حكايات الاستعمار والمنفى والمقاومة تشبه ما يحمله في ذهنه وقلبه، لكنها جاءت من فم آخر، بلغة أخرى، أكدت له أن المعركة واحدة، وإن اختلفت الجغرافيا.

فبعد أكثر من أربعين عاماً، وتحديداً في مارس/آذار 2024، وقف غوستافو بيترو، أول رئيس يساري لكولومبيا، في منطقة قرطبة شمال البلاد، وذكر اسم رفيق السلاح القديم لورا في خطاب أمام شعبه، وقال: "إينان لورا، لمن أراد معرفة التاريخ، تلقى تدريبه مع حركة M-19 في صحراء ليبيا. تخيّلوا ذلك: تلقى التدريب مع مناضلي منظمة التحرير الفلسطينية. لماذا أدافع عن فلسطين؟ لأن لنا الجذر نفسه."

ذلك الجذر، على ما يبدو، ضارب في عمق روح الرئيس الكولومبي. ففي أواخر السبعينيات، التحق بيترو – وهو في السابعة عشرة – بحركة M-19، التنظيم اليساري المسلح الذي خاض حرب عصابات ضد الدولة الكولومبية وتحالفاتها من الميليشيات اليمينية الموالية للاستعمار.

وبرغم أن بيترو لم يكن حاضراً معهم في صحراء ليبيا، إلا أنه ظل يحمل حكايات رفاقه في السلاح ويؤمن بها. فبالنسبة له، لم تكن تلك الصحراء موقعاً للتدريب فحسب، بل مسرحاً التقت فيه أحلام شعوب مقهورة من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لذلك، حين يتحدث عن فلسطين، لا يستخدم لغة التضامن السطحي أو الشعارات الجاهزة، بل يستدعي تاريخاً مشتركاً من القمع والمنفى والمطاردة. فنجده يقول: "ذهبنا إلى هناك، إلى الصحراء الكبرى، تحت النجوم… نحن حلفاء العرب في نضالهم من أجل وطن. نحن أيضاً أردنا أن يكون لنا وطن."

لذلك، لا يتحدث بيترو عن غزة كأنها بلد بعيد منكوب، ولا يلفّها بخطاب الشفقة أو المجازفة السياسية. وعيه الأممي، الذي تشكّل مبكراً، قام على قناعة راسخة: كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني ليس معزولاً، بل هو جزء حي من نضال شعوب الجنوب في وجه الإمبريالية والظلم البنيوي الذي يعيد إنتاج القهر حول العالم. هذا الإرث اليساري، المتجذر في أعماقه، لم يفارقه؛ من ليالي النضال المسلح إلى قصر الرئاسة وأروقة القرار. وكما رأى في الاحتلال الإسرائيلي امتداداً لفضائع الإبادة في التاريخ، رأى في موت فلسطين موتاً للمعنى نفسه. فنراه يقول: "إذا ماتت فلسطين، تموت الإنسانية."

فمن هو غوستافو بيترو؟ وكيف انتقل من صفوف المتمردين إلى سدة الحكم؟

نشأته

وُلد غوستافو فرانسيسكو بيترو أوريغو في 19 أبريل/نيسان 1960 في مقاطعة قرطبة، شمالي كولومبيا، لأسرة ريفية دفعتها الحاجة والعنف إلى الهجرة نحو العاصمة بوغوتا. هناك، نشأ في بيت ينتمي إلى الطبقة الوسطى، لكن ما رسخ في وعيه السياسي لم يأتِ من الكتب وحدها، بل من لحظات شخصية تركت أثراً لا يُمحى. إذ يحكي بيترو أن بوادر تشكّل وعيه السياسي بدأت في صغره، عندما كان في التاسعة من عمره. يومها، رأى والده يبكي بحرقة على موت "المناضل" تشي غيفارا، وفي الثالثة عشرة، ارتجّ البيت على وقع الخبر القادم من تشيلي: انقلاب عسكري، ودخان يتصاعد من قصر لامونيدا، حيث قصف الجيش القصر الرئاسي، وقُتل داخله الطبيب والرئيس اليساري المنتخب، سلفادور أليندي.

مقاطعة قرطبة، شمالي كولومبيا – shutterstock

العارفون ببيترو في كولومبيا يقولون إن "وعيه السياسي في شبابه تأثر كثيراً بما عاشه بنفسه في بيته، وبحالة لاتينية أوسع اتسمت بغياب العدالة وبالتدخلات الأميركية في القارة".

تلقى بيترو تعليمه في مدارس كاثوليكية على يد رهبان، وواصل دراسته العليا في جامعة "كولومبيا إكسترنادو"، متخصّصاً في الإدارة العامة والبيئة والتنمية السكانية. ثم حصل على ماجستير في الاقتصاد، ثم دكتوراه في الاتجاهات الإدارية الحديثة.

بيترو المتمرد

في السابعة عشرة، انضم غوستافو بيترو إلى حركة التمرد اليسارية المسلحة "M-19"، المتأثرة بالثورة الكوبية، والتي رفعت شعار الاشتراكية وسعت إلى كسر قبضة الحكم الاستبدادي والهيمنة الأميركية على البلاد. في تلك اللحظة، اختار لنفسه اسم "أورليانو" – تيمّناً بلقب جنرال ثوري كان أحد شخصيات رواية "مئة عام من العزلة"، للكاتب الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي ترك بصمته العميقة في وجدان بيترو الشاب حينها.

ورغم حملة السلاح في مواجهة الاستبداد، لم يُعرف بيترو كمقاتل بارز. بعض رفاقه وصفوه بأنه كان "مقاتلاً ضعيفاً"، وهو لم ينكر ذلك لاحقاً في مذكراته، قائلاً إنه لم يكن يطمح إلى العمل المسلح، رغم اقتناعه بالعمل الثوري.

جاء المنعطف الأبرز في حياة بيترو في نوفمبر/تشرين الثاني 1985، حين وقعت "مجزرة وزارة العدل" في بوغوتا، حين احتجز مقاتلو "إم-19" نحو 350 رهينة داخل المبنى لمدة يومين. عملية اقتحام الجيش انتهت بمقتل 98 شخصاً، وكانت لحظة فاصلة في حياة بيترو، برغم أنه لم يكن حاضراً هناك، حيث كان وقتها يقضي حكماً بالسجن امتد لعام ونصف.

وقد رفض لاحقاً كل الاتهامات التي زُجّ باسمه في العملية. لكن ما حدث داخل قصر العدل شكّل نقطة تحول في وعيه، وبعد خروجه من السجن، وفي عام 1990، بعد اتفاق سلام، أُعلن رسمياً عن حلّ "M-19" ووقف الكفاح المسلح.

مساره السياسي

بعدها، أسهم بيترو مع آخرين في تأسيس حزب التحالف الديمقراطي الذي نشأ من حركة "M-19″، وأصبح ثاني أهم قوة سياسية في الجمعية التأسيسية (البرلمان) عام 1991، وانتُخب عضواً فيه، كما عمل دبلوماسياً في سفارة بلاده لدى بلجيكا (1994–1996) مكلّفاً بملف حقوق الإنسان. ثم أُعيد انتخابه لاحقاً في مجلس النواب عام 1998 بدعم من حركة "المسار البديل" التي أسسها مع أعضاء سابقين في حزب التحالف الديمقراطي.

في تلك الفترة، نال تقديراً واسعاً، ونال احترام زملائه وتقدير الصحافة الوطنية، بسبب مواقفه الصارمة في إدانة الفساد، ونقاشاته الجريئة في قضايا السيطرة السياسية والنفوذ، فتم اختياره "أفضل عضو في البرلمان" و"شخصية العام" عام 2010.

واصل بيترو مسيرته السياسية بنفس الروح التي حملها منذ بداياته، إذ وُصف بأنه من جيل اليساريين الذين ورثوا إرث ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وشكّلوا حلقة وصل نحو جيل جديد أكثر انخراطاً في قضايا البيئة، وحقوق المرأة، ومكافحة التمييز العنصري.

فصار عمدة العاصمة الكولومبية "بوغوتا" (2012–2015)، حيث طرح سياسات جذرية تتعلق بالعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروات، والتعليم المجاني، وحقوق الفئات المهمشة.

غوستافو بيترو.. رئيس لم يترك غزة وحدها في مواجهة تَخاذُل العالم
غوستافو بيترو – shutterstock

ترشّح غوستافو بيترو للرئاسة مرتين دون جدوى، إذ لم يتمكن من تجاوز الجدار المحافظ الذي شُيّد قبل قرنين تقريباً حول الرئاسة الكولومبية. ففي بلد مثل كولومبيا، ظل اليمين لعقود يضع يده على مفاصل الدولة، بدا وصول يساري إلى سدة الحكم أمراً مستبعداً، وربما مستحيلاً. وكما يقول المعلق السياسي خورخي هيرنانديز: "كولومبيا مجتمع محافظ للغاية، حيث سيطرت دوماً فكرة جماعية بأن أي تغيير هو قفز نحو الهاوية."

إذ كان يُشبَّه اليسار في المخيال العام الكولومبي بالرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، وتُستدعى دوماً المحنة الاقتصادية لفنزويلا كفزّاعة ضد أي مشروع إصلاحي. أما بالنسبة لكثيرين، فإن صعود بيترو، الذي قضى اثني عشر عاماً من شبابه في صفوف جماعة يسارية مسلحة، بدا مستحيلاً في بلد شهد أكثر من ستة عقود من الصراع الأهلي.

لذلك، لم تكن حملته سهلة. كان عليه أن يقنع الناخبين بأنه لن "يحوّل كولومبيا إلى فنزويلا أخرى"، كما ادّعى خصمه ورجل الأعمال الشعبوي رودولفو هيرنانديز، الذي ركز على ترهيب الجمهور.

فكان على بيترو أن يوازن في خطاباته بين سردية التغيير الجذري وحلمه بالعدالة، وطمأنة مؤسسات الدولة والنخب المالية. إذ كانت تثير خططه لإعادة تنظيم الاقتصاد الكولومبي بعيداً عن الوقود الأحفوري ونحو الزراعة مخاوف الأسواق.

بيترو من السلاح إلى قصر الرئاسة

ورغم ذلك، وفي 19 يونيو/حزيران 2022، فاز بيترو بالرئاسة بنسبة 50.8% من الأصوات، محققاً اختراقاً تاريخياً كأول رئيس يساري للبلاد، وهو في عمر الثانية والستين. خاطب الجماهير في بوغوتا ليلة النصر قائلاً: "لن نخون الناخبين الذين صاحوا في وجه التاريخ. فكولومبيا ستتغير ابتداءً من اليوم."

منذ توليه السلطة في 7 أغسطس/آب 2022، سعى بيترو إلى دفع أجندة طموحة تمزج بين الإصلاح الاجتماعي والتحول الاقتصادي. غير أن هذا المسار اصطدم سريعاً بمعادلات السلطة داخل الكونغرس وإرث اليمين الراسخ في البلاد، حيث لم يتمكن "الميثاق التاريخي" — الائتلاف الذي أوصله إلى الرئاسة والمكوّن من قوى يسارية ويسارية وسطية — من تأمين أغلبية برلمانية. ولتعويض هذا النقص، لجأ بيترو إلى ضمّ قوى من الوسط واليمين في تشكيلته الحكومية الأولى، ما مكّنه في البداية من تمرير إصلاح ضريبي تقدمي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، يُعدّ حتى اليوم أبرز إنجازاته التشريعية.

وقد فرض هذا القانون زيادات ضريبية على ذوي الدخل المرتفع، وأقرّ رسوماً إضافية على الأرباح الاستثنائية في قطاعات مثل التعدين والطاقة. ووفقاً لتقديرات وزارة المالية، كان من المنتظر أن يرفع هذا القانون إيرادات الدولة بنحو 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عامي 2023 و2024.

وحاول غوستافو بيترو إعادة تشكيل النموذج الاقتصادي والاجتماعي لرابع أكبر اقتصاد في القارة، كولومبيا، ساعياً إلى تقليص الاعتماد على الصناعات الاستخراجية، وتقليص التفاوت الطبقي، ومواجهة إرث النيوليبرالية الجديدة التي ترسّخت منذ دستور 1991.

ركّزت إصلاحاته على تعزيز دور الدولة في قطاعات الصحة والطاقة والمعاشات، مع تقييد مشاركة القطاع الخاص، معتبراً أن "الربح لا يجب أن يسبق الحقوق، وأن النيوليبرالية مسؤولة عن أزمات اجتماعية ومناخية متفاقمة".

فتمثلت أبرز نجاحاته في إصلاح نظام التقاعد الذي قلّص نفوذ الصناديق الخاصة، ودعّمه الكونغرس، على عكس مشروعات قوانين الصحة والعمل والتعليم، التي واجهت عراقيل سياسية وتشريعية. ورغم فشل مشروع قانون إصلاح الصحة، وضع شركات التأمين الخاصة تحت سيطرة الدولة، وباتت الحكومة تدير النظام الصحي لنحو نصف السكان.

في قطاع الطاقة، سعى بيترو إلى كسر هيمنة الشركات الخاصة وتوسيع التوليد المجتمعي، لكنه واجه أزمات تنظيمية وسجالات مع الهيئات المستقلة.

غوستافو بيترو.. رئيس لم يترك غزة وحدها في مواجهة تَخاذُل العالم
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو – رويترز

لكن ذلك الزخم لم يدم طويلاً. ففي أبريل/نيسان 2023، انهار هذا التحالف الهش بعد أن حاول بيترو الدفع بعدة إصلاحات أخرى، وقد رأى كثيرون، بمن فيهم مسؤول حكومي تحدّث لوسائل الإعلام شريطة عدم الكشف عن هويته، أن ذلك كان خطأً استراتيجياً، قائلاً: "كان من غير الحكيم الدفع بكل هذه الإصلاحات دفعة واحدة في الكونغرس، وكان إصلاح الرعاية الصحية هو الأكثر تعقيداً ومقاومة."

في جوهر الأمر، سعى بيترو إلى تعزيز دور الدولة وتقليص نفوذ القطاع الخاص في تمويل وتقديم الخدمات الصحية — وهو ما وُوجه برفض واسع من كتل اليمين. وفي ظل غياب أغلبية داعمة، اضطرت حكومته إلى تقديم تنازلات واسعة لتمرير أي مشروع إصلاحي. وهكذا، وُلدت إصلاحات العمل والمعاشات بعد مخاض طويل، أقل طموحاً بكثير مما وعد به بيترو. ووفقاً للمصدر ذاته، فإن "هذه الإصلاحات بدأت كمشاريع تقدمية، لكنها فقدت جزءاً كبيراً من مضمونها بفعل التعديلات والتسويات، ما قلل من قيمتها الفعلية."

فبدأت تتآكل شعبيته في استطلاعات الرأي، وتفاقمت الهجمات الإعلامية من اليمين ضده.

أما على الصعيد الأمني، فقد دشّن بيترو سياسة "السلام الشامل"، الهادفة إلى التفاوض مع الجماعات المسلحة كافة. لكنها عانت من غياب استراتيجية واضحة، واستغلتها التنظيمات الإجرامية لتوسيع نفوذها، ما أدى إلى تصاعد العنف.

أما في السياسة الخارجية، ففي انسجام واضح مع جذوره اليسارية ورؤيته النقدية للنظام الدولي، شرع الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في إعادة توجيه سياسة بلاده الخارجية، قاطعاً مع عقود من الاصطفاف التقليدي خلف الولايات المتحدة وحلفائها.

كولومبيا.. "إسرائيل أمريكا اللاتينية" وعلاقات عسكرية وثيقة

وهنا، اصطدم بيترو مجدداً مع إرث الدولة العميق، إذ ورث تاريخاً طويلاً من العلاقات الكولومبية الإسرائيلية، حيث لطالما اعتُبرت كولومبيا حليفاً وثيقاً لتل أبيب، حتى وُصفت ذات يوم بأنها "إسرائيل أمريكا اللاتينية".

فمنذ حقبة الحرب الباردة، اعتمدت الحكومات الكولومبية المتعاقبة على إسرائيل كمورّد أسلحة ومستشار أمني في حربها ضد المتمردين اليساريين. في الثمانينيات، استعان الرئيس الكولومبي فيرجيليو باركو فارغاس سرّاً بالجنرال الإسرائيلي المتقاعد رفائيل إيتان لوضع خطة لهزيمة حركة "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" التي تُسمى اختصاراً "فارك"، والتي كانت تعتبر نفسها تمثل فقراء الريف الكولومبي في مواجهة هيمنة النخب ورفض الهيمنة الأميركية والخصخصة الاقتصادية.

وكان إيتان قد لعب دوراً رئيسياً قبل ذلك في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982 في لبنان. وقدّم إيتان لحكومة بوغوتا خطة قذرة: استهداف واغتيال آلاف من أعضاء حزب الاتحاد الوطني اليساري (UP) الذي انبثق عن عملية سلام. وبحسب الباحث غابرييل ليفين-دريزين، نفّذت الحكومة الكولومبية حينها عمليات قتل خارج نطاق القضاء، واعتقالات تعسفية، واختطافات ممنهجة، إلى جانب حملة قمع شاملة استهدفت المجتمع المدني نفسه. وقد وصفت محكمة العدالة والسلام الكولومبية هذا العنف الممنهج لاحقاً بأنه "إبادة سياسية".

ويذكر أن المؤسسة العسكرية الكولومبية تبنت أساليب إسرائيل في قمعها للفلسطينيين. اعتمد الجيش على ميليشيات شبه عسكرية يمينية دموية مثل قوات الدفاع الذاتي المتحدة (AUC) لارتكاب المجازر. تدرّب زعماء تلك الميليشيات، وأبرزهم الأخوان كارلوس وفيديل كاستانيو، على أيدي شركة مرتزقة إسرائيلية يديرها ضابط سابق هو يائير كلاين.

وتلقّى كارلوس كاستانيو تدريباً عسكرياً إضافياً في إسرائيل نفسها أثناء الثمانينيات، واعترف في مذكراته صراحةً أنه "استنسخ فكرة القوات شبه العسكرية من الإسرائيليين". وأسفرت جرائم تلك الميليشيات عن مقتل نحو 100 ألف مدني خلال النزاع الكولومبي.

علم الاحتلال الإسرائيلي والعلم الكولومبي في العاصمة بوغوتا – shutterstock

ورغم إدانة كلاين غيابياً في المحاكم الكولومبية بتهمة تدريب فرق الموت، فقد رفضت إسرائيل تسليمه. وقد اتّهم بيترو صراحةً كلاً من إيتان وكلاين بالمشاركة في "مجازر وإبادة جماعية في كولومبيا".

وقد امتدت أذرع التعاون العسكري بين بوغوتا وتل أبيب إلى القرن الحادي والعشرين أيضاً، خاصة خلال ولاية الرئيس اليميني ألفارو أوريبي (2002–2010). أقام وزير دفاعه حينها (والرئيس لاحقاً) خوان مانويل سانتوس علاقات وثيقة مع إسرائيل، وبالفعل قدّمت الاستخبارات الإسرائيلية دعماً لعمليات تصفية لقيادات التمرد، بما في ذلك غارة عابرة للحدود إلى الإكوادور عام 2008. وعندما انتقد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز هذا الدور الإسرائيلي، قائلاً إن كولومبيا باتت "إسرائيل أمريكا اللاتينية"، ردّ سانتوس بفخر أنه يشعر بالاعتزاز بتلك المقارنة.

هذا الاعتماد التاريخي على إسرائيل لم يقتصر على التدريب والأساليب، بل ترسّخ أيضًا في بنية الجيش الكولومبي من خلال منظومة تسليح مصدرها تل أبيب. فقد أصبحت الطائرات الإسرائيلية "كفير" (Kfir) العمود الفقري لسلاح الجو الكولومبي منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث حصلت بوغوتا على أكثر من 20 طائرة تم تحديثها لاحقًا في صفقة تجاوزت قيمتها 150 مليون دولار. وقد لعبت هذه الطائرات دورًا محوريًا في استهداف قيادات "فارك"، خصوصًا خلال فترة التصعيد العسكري في عهد الرئيس ألفارو أوريبي.

كذلك اعتمد الجيش الكولومبي على بندقية "غاليل" الإسرائيلية، التي حصل على ترخيص لتصنيعها محليًا عبر شركة "إندوميل" الحكومية، لتصبح السلاح الفردي الأساسي لعناصر القوات المسلحة. بين عامي 2020 و2021 وحدها، تم إنتاج آلاف القطع من نسخة "غاليل كورذوفا"، بعضها صُدّر لدول أخرى في المنطقة.

هذا التحالف العسكري شمل أيضًا أنظمة متقدمة مثل منظومة الدفاع الجوي "باراك إم إكس" (Barak MX) ومدافع ATMOS المدولبة، في صفقات قاربت قيمتها الإجمالية 230 مليون دولار. كما استفادت بوغوتا من الخبرات الإسرائيلية في مجال الاستخبارات والمراقبة الإلكترونية، وصولًا إلى تقنيات تجسس متطورة مثل برنامج "بيغاسوس"، والتي استُخدمت أحيانًا لقمع المعارضة الداخلية.

بيترو يعيد توجيه بوصلة البلاد خارجياً

نشأ بيترو سياسياً في بيئة تُدرك تماماً أخطار الهيمنة الخارجية؛ فبلاده ذاتها خبرت تاريخاً مريراً من الاستعمار (الإسباني ثم الأميركي) والتدخلات الخارجية. هذه الخلفية هي التي صاغت نظرته البنيوية للظلم في العالم.

لذلك، منذ سنوات طويلة، عُرِف غوستافو بيترو كحليف صادق للقضية الفلسطينية — لا كشعارات، بل قناعة معمّقة تسبق وصوله إلى الحكم. ففي يوليو/تموز 2014، حين كان عمدة بوغوتا، نشر صوراً على حسابه في موقع X لضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة. وفي ذات الفترة، نشر صورة لمظاهرات في لندن داعمة لفلسطين، مُعلّقاً عليها: "لندن ضد الهمجية".

أثار ذلك ردّاً حادّاً من السفارة الإسرائيلية في كولومبيا، التي اتّهمته بنشر صور "مضلِّلة" وهاجمته علناً؛ وهي واقعة أعادت صحف ومواقع يهودية كولومبية التذكير بها بعد فوزه بالرئاسة في 2022، مؤكدة أن تل أبيب كانت "تعرفه جيداً" قبل أن يصبح رئيساً بسبب مواقفه المناهضة لها. وعندما قرّر دونالد ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2017 الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كان بيترو ضمن الأصوات اللاتينية البارزة الرافضة للقرار. وبعد عام، في مايو/أيار 2018، مع سقوط عشرات الشهداء خلال قمع الاحتلال الإسرائيلي لمسيرات العودة في غزة، اتّهم بيترو إسرائيل بارتكاب "مجزرة" ضد سكان القطاع. وأعرب عن رفضه لخلط الدين بالدولة، مؤكداً أن إسرائيل لا تمثل اليهودية، كما أن كولومبيا لا تمثل المسيحية.

ومع تولّيه الرئاسة، وتهنئة إسرائيل له فور فوزه، قامت كولومبيا في سبتمبر/أيلول 2023 – قبل اندلاع "طوفان الأقصى" مباشرة – بخطوة رمزية سياسية، إذ افتتحت شارعاً باسم "دولة فلسطين" في بوغوتا بحضور وزير الخارجية الفلسطيني، وعُزف النشيدان الفلسطيني والكولومبي في الحفل.

لكن بيترو لم يكن يدري بأنه على موعد مع حدث جلل أثناء رئاسته سيغيّر مشهد الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وسيدفعه إلى اتخاذ موقف مفصليّ وحاسم في تعبيره عن انحيازاته.

حتى تلك اللحظة، لم يكن هناك حدث جلل شهدته العلاقات الكولومبية مع دولة الاحتلال. فحتى حلول أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت كولومبيا لا تزال دولة حليفة لإسرائيل وتتمتع بعلاقات تجارية وثيقة معها، وكان بيترو وحكومته يُظهران ودّاً تجاه رجال الأعمال الإسرائيليين، رغم ما أبداه الرئيس اليساري من دعم لفلسطين يختلف عن أغلب سابقيه. ولكن كل ذلك تغيّر حين جاء "طوفان الأقصى" ليبعثر الأوراق ويقلب الموازين.

حينها، اندفع بيترو ليصبح أحد أجرأ الأصوات العالمية في مناصرة الفلسطينيين، متحدّياً نهج الغرب السائد. رفض منذ البداية الانضمام إلى جوقة القادة الذين هرعوا لإدانة مقاومة حماس بشكل أحادي. وفي 8 أكتوبر، غداة اندلاع الحرب، كتب بيترو على منصة X (تويتر سابقاً): "لو كنتُ حياً في ألمانيا عام 1933 لكنتُ قاتلت إلى جانب اليهود، ولو كنتُ في فلسطين عام 1948 لكنتُ قاتلت إلى جانب الفلسطينيين". ودعا في التغريدة نفسها إلى "أن ينعم الشعبان بالسلام والحرية".

وفي اليوم التالي، شنّ هجوماً لاذعاً على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق والمطلوب دولياً يوآف غالانت، التي وصف فيها الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، فشبّه بيترو ذلك بخطاب النازيين ضد اليهود، وحذّر قائلاً: "هذا النمط من التجريد من الإنسانية لن يجرّ سوى محرقة جديدة".

ورداً على مطالبة السفير الإسرائيلي في بوغوتا له بإدانة هجمات حماس، أجاب بيترو: "الإرهاب هو قتل الأطفال الأبرياء، سواء في كولومبيا أم في فلسطين".

أثارت هذه التصريحات غضب تل أبيب، فردّت فوراً بتصعيد دبلوماسي؛ فقد استدعت إسرائيل السفير الكولومبي للتوبيخ.

ورداً على ذلك، أعلنت إسرائيل تعليق صادراتها العسكرية إلى كولومبيا في منتصف أكتوبر، في حين كانت بوغوتا قد استدعت سفيرها من تل أبيب احتجاجاً على المجازر بحق المدنيين. وسرعان ما تفاقمت الأمور إلى أزمة دبلوماسية حادة.

وبينما تسابقت عواصم كبرى لإبداء التضامن مع إسرائيل في أسابيع الحرب الأولى، اختار الرئيس الكولومبي السير عكس التيار. وفي كلمة ألقاها خلال تظاهرة بمناسبة عيد العمال في بوغوتا في مايو/أيار 2024، وصف غوستافو بيترو مرة أخرى ما تقوم به إسرائيل بأنه "إبادة جماعية". وأعلن أن "غداً سيتم قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة إسرائيل… بسبب وجود رئيس مجرم"، وقال: "إذا ماتت فلسطين، فإن الإنسانية تموت، ولن نسمح لها بالموت".

وبالفعل، أوفت حكومته بالوعد؛ إذ أُغلقت السفارة الكولومبية في تل أبيب، وسُحب طاقمها بالكامل خلال الأيام التالية. بالإضافة لذلك، أعلن بيترو عن تعليق لمشتريات الأسلحة من إسرائيل صحيح أن هذا القرار استثنى العقود الموقعة سابقًا التزامًا بالقانون، لكنه مثّل تحولًا تاريخيًا؛ فقد كانت كولومبيا حتى وقت قريب من كبار زبائن الصناعات العسكرية الإسرائيلي، ومنذ ذلك القرار، بدأت كولومبيا مفاوضات مع السويد لشراء طائرات مقاتلة، تهدف إلى استبدال أسطولها من طائرات "كفير" الإسرائيلية.

معركة الفحم: تصعيد عملي ضد آلة الحرب الإسرائيلية

وسط التخاذل الرسمي الدولي أمام الإبادة في غزة، لم يكتفِ بيترو بالخطابات والدبلوماسية، بل حرص أيضاً على ترجمة ما يمليه ضميره إلى أفعال تنفيذية ملموسة، وتجلى ذلك حديثاً أيضاً في يوليو/تموز 2025 فيما يمكن تسميته "معركة الفحم" بين بوغوتا وتل أبيب. فبالرغم من قرار الحظر الصادر قبل عام، حاولت بعض شركات التعدين الالتفاف على المنع وتهريب الفحم الكولومبي إلى إسرائيل سرّاً. وفي أواخر يوليو، وردت أنباء عن إبحار سفينة شحن ترفع علم مالطا من ميناء سييناغا الكولومبي محمّلة بالفحم ومتجهة إلى إسرائيل – في تحدٍ واضح لقرار بيترو. وما إن وصله الخبر (عبر نقابات عمال قطاع الفحم التي بادرت بالتبليغ عن الشحنة المشبوهة)، حتى سارع الرئيس الكولومبي إلى الرد بشكل حازم وعلى الملأ.

في 25 يوليو 2025 (الجمعة)، أعلن غوستافو بيترو : "بصفتي القائد الأعلى للقوات المسلحة، أصدرتُ أمراً باعتراض أي سفينة تحمل فحماً وتتجه نحو إسرائيل". وقال إن "طالما يُسقطون القنابل على الأبرياء فإن كولومبيا لن تُساندهم"، وأكد أن القوات البحرية الكولومبية ستنفذ هذا الأمر لمنع خرق الحظر. اعتبر بيترو إرسال تلك السفينة "تحدياً لحكومته" يستوجب الرد، ملوّحاً حتى بإلغاء عقود الامتياز الممنوحة لشركات التعدين الدولية (مثل Glencore وDrummond) إن تورطت في استمرار الشحنات إلى إسرائيل. علماً بأن هاتين الشركتين تحديداً تؤمّنان نحو 60% من واردات إسرائيل من الفحم – وهو رقم يكشف مدى اعتماد إسرائيل على الفحم الكولومبي في تشغيل محطاتها الكهربائية.

بالإضافة إلى ذلك، يحاول بيترو توحيد أصوات الجنوب العالمي لاتخاذ موقف أكثر جرأة وتنسيقاً تجاه العدوان الإسرائيلي. وهكذا وُلدت فكرة "مجموعة لاهاي" في مطلع عام 2025 – وهو تكتل دبلوماسي جديد برعاية منظمة التقدمي الدولية (Progressive International) يضم دولاً من أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا اجتمعت على هدف: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين ودعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير وتنسيق الجهود للتصدي لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي.

كانت كولومبيا وجنوب أفريقيا المحركين الرئيسيين وراء إنشاء هذه المجموعة (وقد تولّتا رئاستها المشتركة)، في استعادة لتعاون جنوبي عابر للقارات له رمزيته؛ فكلا البلدين يحمل إرثاً تاريخياً في النضال ضد الفصل العنصري – جنوب أفريقيا بحكم تجربتها الخاصة، وكولومبيا عبر احتضانها قضايا التحرر حول العالم.

انطلقت المجموعة رسمياً باجتماع في لاهاي يوم 31 يناير/كانون الثاني 2025، وضمّ الاجتماع التأسيسي 9 دول أساسية هي: بوليفيا، كوبا، هندوراس، ماليزيا، ناميبيا، السنغال، جنوب أفريقيا، بليز، إضافة إلى كولومبيا. وسرعان ما توسّع الحشد بانضمام دول أخرى داعمة من خارج النواة، مثل إندونيسيا، الصين، قطر، الجزائر، إسبانيا، البرازيل وغيرها، بحيث وصل عدد المشاركين في قمّة المجموعة إلى أكثر من 30 دولة من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وحتى أوروبا. تحت اسم "المؤتمر الطارئ بشأن فلسطين"، اجتمعت وفود من أكثر من 30 دولة يومي 15 و16 يوليو/تموز للتنديد بالانتهاكات المنهجية للقانون الدولي والمطالبة بالعدالة للشعب الفلسطيني.

خلال افتتاح المؤتمر في القصر الرئاسي بوغوتا، ألقى الرئيس بيترو خطاباً، وقال فيه: "يجب أن تتحرر فلسطين"، وأضاف بيترو في خطابه الذي اختتمه بعبارة "عاشت فلسطين حرة!": "ستُهزم همجية اليوم إذا تحررت فلسطين. شعب الله المختار هو كلنا، ونحن لا نقتل بعضنا البعض. يجب أن تتحرر فلسطين".

وخرج مؤتمر بوغوتا في يوم 17 يوليو 2025 باتفاق على خطة عمل من ست نقاط وقّعتها في البداية 12 دولة (منها كولومبيا، كوبا، بوليفيا، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، ماليزيا وغيرها). تضمنت الخطة إجراءات غير مسبوقة في صرامتها بهدف كبح آلة الحرب الإسرائيلية ورفع كلفة استمرارها:

  • حظر تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر والوقود العسكري وجميع المعدات ذات الاستخدام العسكري أو المزدوج، منعاً لتورط دول المجموعة في دعم جرائم حرب. تعهّدت الدول المعنية بمنع تصدير أي عتاد حربي إلى إسرائيل أو عبور شحنات أسلحة عبر أراضيها باتجاهها. بل إن بعض الدول، مثل ناميبيا وماليزيا، كانت قد بادرت قبل المؤتمر بمنع رسوّ سفن تحمل أسلحة إلى إسرائيل في موانئها.
  • إغلاق الموانئ والأجواء أمام أي سفن أو طائرات محمّلة بالسلاح متجهة إلى إسرائيل، حتى لو كانت تابعة لدول أخرى. وهذا يشمل منع المرور أو الترانزيت لتلك الشحنات عبر أراضي دول المجموعة. وقد اعتُبر هذا الإجراء محاولة لعزل إسرائيل عسكرياً وقطع شريان الإمداد عنها، ولو جزئياً.
  • مراجعة عاجلة لكل العقود الحكومية مع الشركات المتواطئة في الاحتلال الإسرائيلي. إذ اتفقت الدول على تدقيق عقودها مع شركات لها أنشطة في المستوطنات أو تزود الجيش الإسرائيلي بمعدات، بهدف وقف أي تمويل عام مباشر أو غير مباشر لاستمرار الاحتلال. ويعني ذلك احتمال إلغاء عقود وصفقات بمليارات الدولارات مع شركات دولية متورطة في مشاريع المستوطنات أو تسليح الجيش الإسرائيلي.
  • تفعيل أدوات القانون الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. حيث اتفق المجتمعون على تعزيز الولاية القضائية العالمية بما يسمح بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية في فلسطين بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان الجريمة. كما دعوا إلى دعم المسار القانوني القائم في محكمة العدل الدولية التي تنظر في انتهاكات اتفاقية منع الإبادة الجماعية، مؤكدين ضرورة ألا يفلت أي مسؤول إسرائيلي متورط في جرائم غزة من العدالة.

بطبيعة الحال، أثارت هذه التحركات غضب واشنطن وحلفاء إسرائيل. فقد نقلت وسائل إعلام أن مسؤولاً في الخارجية الأميركية وصف تحالف بوغوتا بأنه "محاولة متطرفة لتسليح القانون الدولي لأجندة معادية للغرب".

غزة كمصير للجنوب العالمي

بينما ترى أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهم أن أي محاولة لوقف الإبادة أو محاولة لإفساح المجال للعدالة على الأرض تُعد تهديداً، لا يرى بيترو الحرب على غزة حدثاً معزولاً أبداً؛ فهو يعتبرها رسالة إنذار موجَّهة إلى كل دول الجنوب بأن مصائرها مترابطة في وجه منطق الهيمنة والقهر.

فخلال قمة (مجموعة لاهاي) التي استضافتها بوغوتا، وضح بيترو رؤيته قائلاً: "غزة هي ببساطة تجربة يجريها كبار أثرياء العالم ليُريوا كل شعوب الأرض كيف سيكون الردّ على أي تمرّد من قبل المقهورين". وتابع محذّراً: "يظنّون أنهم قادرون على قصفنا جميعاً – نحن الذين في الجنوب على الأقل – لكنهم سينتهون إلى قصف أنفسهم أيضاً كما حصل في غرنيكا" (مدينة غرنيكا في إقليم الباسك بإسبانيا، التي قام فيها سلاح الجو الألماني والإيطالي بمجزرة راح ضحيتها قرابة 2000 إنسان).

كانت كلمات بيترو مشبعة بالتاريخ، إذ قارن بين النضال الفلسطيني والتاريخ الاستعماري لكولومبيا. فقال، متذكّراً جراح الماضي: "لقد عشنا غزة بدمائنا، وتعرضنا أيضاً للغزو".

قال: "للشعب الفلسطيني الحق في التمرد لأن أرضه محتلة". وأضاف: "احتل الإسبان أيضاً أراضينا الكولومبية، وإحدى جزرنا احتلها الفرنسيون والإنجليز، وبنما احتلها الأميركيون، واستولوا على أراضينا. الشعب المحتل يستحق التمرد؛ فالتمرد ليس جريمة".

من هذا المنطلق، يؤمن بيترو أن خيانة فلسطين هي خيانة لفكرة الجنوب برمّتها؛ إذ إن خذلان الشعب الفلسطيني هو رضوخ لمنطق القوة الغاشمة الذي سيتجرّع جميع المستضعفين كأسه إن تُرك دون مقاومة.

رئيس من الجنوب يرفع راية الأخلاق في السياسة الدولية دون مساومة

هذه القناعة المبدئية دفعت بيترو لاتخاذ مواقف بالغة الجرأة، على الرغم من كلفتها الباهظة داخلياً وخارجياً.

قرارات بيترو الجسورة تجاه إسرائيل أثارت عواصف من ردود الفعل داخل كولومبيا نفسها، حيث المصالح الراسخة والعلاقات التقليدية مع الغرب. وجد الرئيس الكولومبي نفسه في مواجهة مؤسسات وجماعات ضغط نافذة اعتبرت خطواته تهديداً لمصالح كولومبيا الاستراتيجية. الجيش الكولومبي كان في مقدمة المعترضين، بحكم اعتماده الطويل على التكنولوجيا والتدريب الإسرائيليين – فلطالما اشترت القوات المسلحة طائرات ومعدات إسرائيلية متطورة (مثل مقاتلات كفير التي استخدمت ضد المتمردين لسنوات)، وأي قطيعة مع تل أبيب تعني بحثاً مكلفاً عن بدائل. كذلك، قطاع الطاقة وشركات الفحم التي تصدّر كميات كبيرة من الفحم الكولومبي إلى الأسواق الإسرائيلية والأوروبية رأت في قرارات بيترو خطراً على مصالحها، خصوصاً بعدما أصدر الرئيس في أغسطس/آب 2024 مرسوماً رئاسياً يحظر تصدير الفحم إلى إسرائيل احتجاجاً على حرب غزة. وقد مثّل ذلك سابقة تاريخية وضعته في صدام مباشر مع عمالقة التعدين مثل شركة غلينكور متعددة الجنسيات. ولم يكن مستغرباً أن يخرج اتحاد شركات الفحم والمعادن يُعرب عن قلقه من فقدان سوق تصديرية، رغم أن إسرائيل لا تشكّل سوى حوالي 5% من صادرات الفحم الكولومبي.

واجه بيترو غضباً عارماً من المعارضة اليمينية والوسطية على حد سواء. فغالبية البرلمان الكولومبي ذات التوجه المحافظ اعتبرت قطع العلاقات مع إسرائيل "طيشاً سياسياً" قد يكلّف البلاد اقتصادياً. أبرز منتقدي بيترو كان خوان كارلوس بينزون، وزير الدفاع الأسبق والشخصية الأمنية البارزة، الذي شنّ حملة تصريحات ضد الرئيس. إثر خطاب بيترو الذي تحدث فيه عن تدرّب مقاتلي M-19 سرّاً في صحراء ليبيا جنباً إلى جنب مع مقاتلين من حركة التحرير الفلسطينية، حيث حكى بيترو عن تلك الفترة قائلاً: "لماذا يدافع بيترو عن فلسطين؟ آه، لأن لدينا الجذر نفسه… كنا هناك، نحن حلفاء للعرب في نضالاتهم من أجل وطن".

فاتّهمه بينزون بالاتهامات الغربية المعلّبة، بأنه داعم للإرهاب وضع كولومبيا في صف إيران ومحور معادٍ للغرب، محذّراً من تبعات خطيرة على أمن البلاد واقتصادها.

بالرغم من كل التحديات، تمسّك بيترو بمبادئه بثبات. وتجدر الإشارة إلى أن الدستور الكولومبي يحدد الرئاسة بولاية واحدة فقط. وعلى الرغم من تراجع شعبيته نتيجة الاضطرابات الداخلية، استطاع أن يحشد دعم شريحة كبيرة من الكولومبيين الذين رأوا فيه صوتاً للعدالة والضمير الإنساني. وقد خرج الآلاف في مظاهرات مؤيدة لفلسطين، رافعين الأعلام الفلسطينية أمام سفارة إسرائيل، وهتفوا عندما أعلن قطع العلاقات معها.

هكذا، برز صوت بوغوتا نشازاً جميلاً وسط ضجيج النفاق العالمي، ليذكّر الجميع بأن العدالة ليست قابلة للتجزئة – وأن من حق المظلومين أن يجدوا من "يقاتل إلى جانبهم". ففي وقت تواطأت فيه حكومات كثيرة – غربية وعربية – بالصمت أو الدعم الخجول أمام مأساة غزة، اختار غوستافو بيترو "ابن الجنوب" الكولومبي ألا يخون قناعاته ولا رفاق الأمس في ساحات النضال. وبينما أدار كثر ظهورهم لمعاناة الفلسطينيين، وقف بيترو ليعلن أن مصير الإنسانية كلّها على المحك في شوارع غزة المحاصرة.

تحميل المزيد