بعد أن كشفت نتائج تعداد سكاني جديد أن إنجلترا لم تعد دولة ذات أغلبية مسيحية، تصاعدت دعوات لإنهاء دور الكنيسة وسلطتها، التي لَطالما سيطرت على شكل وروح المملكة على مر التاريخ.
وقال خبراء في الصحف البريطانية والوكالات العالمية إن هذا التحول يجب أن يؤدي إلى إعادة تفكير في الطريقة التي يتم بها ترسيخ الدين المسيحي في المجتمع البريطاني.
فاليوم، يوجد في المملكة المتحدة مدارس تابعة لكنيسة إنجلترا، تمولها الدولة، ويجلس الأساقفة الأنجليكان في الغرفة العليا بالبرلمان، والملك هو "المدافع عن الإيمان"، والحاكم الأعلى للكنيسة.
إلا أن هذا كله لم يعد معبّراً عن واقع الدولة، التي باتت غالبيتها تتَّبع ديانات مختلفة، أو لا دين لها على الإطلاق، فهل سيتغير شكل المملكة المتحدة "المتديّنة" التي نعرفها؟
تراجُع مسيحي غير مسبوق في تاريخ بريطانيا
لأول مرة في الإحصاء السكاني الذي يقام على مدى عقد كامل، وصف أقل من نصف سكان إنجلترا وويلز، بإجمالي 27.5 مليون شخص، أنفسهم بأنهم "مسيحيون"، أي أقل بنسبة 5.5 مليون شخص عما كانوا عليه عام 2011.
وأثار ذلك دعوات لإصلاح عاجل للقوانين التي تتطلب تعاليم وعبادة مسيحية في المدارس، ودور أساقفة كنيسة إنجلترا للجلوس في مجلس اللوردات بالبرلمان.
نمو تعداد المسلمين واللادينيين
في جميع أنحاء إنجلترا وويلز، نما عدد السكان المسلمين من 2.7 مليون شخص في 2011، إلى 3.9 مليون في 2021. وفي حين قال 46.2% من الناس إنهم مسيحيون، قال 37.2% إنهم لا دين لهم، أي ما يعادل 22 مليون شخص.
ويُتوقع أنه إذا استمرت النسب على شكلها الحالي من التراجع، سيصبح "اللادينيون" أكثر من المسيحيين، في غضون عقد واحد فقط من الزمن في بريطانيا.
علاقة الكنيسة بالدولة
تمتلك المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية كنيستين كبيرتين، هما الكنيسة الأنجليكانية في إنجلترا، والكنيسة المشيخية أو "Presbyterian" في اسكتلندا.
وهما بشكل عام تمثلان "المؤسستين" الرسميتين للعمل المشترك بين الكنيسة والدولة منذ قرون طويلة في تاريخ الإمبراطورية القديمة، وحتى بعد تطوير الدولة الحديثة بشكلها الحالي.
تأخذ هذه العلاقة أشكالاً مختلفة في إنجلترا عنها في اسكتلندا، فبينما الملك هو "الحاكم الأعلى" لكنيسة إنجلترا، فهي عضو فقط بكنيسة اسكتلندا.
كذلك فإن الأساقفة الأنجليك أعضاء في مجلس اللوردات، وهو المجلس الأعلى للبرلمان البريطاني، ولكن لا يوجد مكان مناسب لمدير الجمعية العامة لكنيسة اسكتلندا.
وبينما تتطلب إجراءات وقوانين كنيسة إنجلترا إشرافاً برلمانياً، فإن كنيسة اسكتلندا تتمتع بالحكم الذاتي تماماً، بحسب الموسوعة البريطانية "بريتانيكا".
وتأتي الأرقام المتراجعة بحدة للمسيحية بعد أن حصل الملك تشارلز على لقب "المدافع عن الإيمان والحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا"، بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية. وهو ما يشير إلى أنه من المحتمل أن يشكل ربط اسم الملك بالكنيسة المسيحية تحدياً لنوعية نظامه الملكي، رغم أنه قال في القَسم إنه سيخدم الناس "مهما كانت خلفياتهم ومعتقداتهم".
تاريخ إشراف الكنيسة على الحُكم البريطاني
تاريخياً، لَطالما تمت معارضة المؤسسات الدينية وسلطتها في أجزاء من المملكة المتحدة، حيث لم يكن معظم السكان من الأنجليكان. نتيجة للضغوط السياسية والدينية، وتم إلغاء تبعية السلطات للكنيسة في أيرلندا عام 1871، وويلز عام 1920.
اتخذت كنيسة إنجلترا شكلها الحالي في ثلاثينيات القرن الخامس عشر، عندما تخلّى الملك هنري الثامن عن السلطة البابوية، باعتباره رأس الكنيسة الديني. حتى عام 1919، كانت الكنيسة تعتمد على برلمان المملكة المتحدة للتشريع، الذي يحكم شؤونها.
ثم نقل التشريع السلطة من كاتدرائية وستمنستر آبي إلى "الجمعية الوطنية" الجديدة، التي امتلكت سيطرة أكبر على شؤون الكنيسة، ولاحقاً تم استبدال هذا بمجمع عام في عام 1969.
وبشكل عام، يمثل المفوض الثاني للكنيسة، كنيسة إنجلترا في مجلس العموم. ويتحتم على رئيس الوزراء (أو وزير مفوض آخر عنه) أن يقدم المشورة للملك بشأن التعيينات في الكنيسة.
في الجانب الآخر، ظهرت كنيسة اسكتلندا في وقت لاحق في القرن السادس عشر، وعلى أساس مختلف عن كنيسة إنجلترا. تم الاعتراف باستقلال "كيرك" في معاهدة الاتحاد لعام 1707 بين اسكتلندا وإنجلترا وفي التشريعات اللاحقة. وقد أقر قانون كنيسة اسكتلندا لعام 1921 استقلالية الكنيسة في المجال الروحي والديني.
دور الكنيسة اليوم "لم يعد منطقياً"
وحول هذا التطور الذي لم يكن وليد اللحظة، تقول الأستاذة ليندا وودهيد، رئيسة قسم اللاهوت والدراسات الدينية في كلية كينجز كوليدج بلندن: "حقيقة أن المسيحية ليست دين الأغلبية للمملكة، تعني أن السياسة لا تتماشى مع المجتمع اليوم".
وتأكيداً على أن سلطة الكنيسة المسيحية لم تعد تعبر عن الواقع الآن، قال الدكتور سكوت بيترسون، عالم الدين والدولة في كلية كوربوس كريستي بمدينة أكسفورد: "كان من الصعب الدفاع عن وجود كنيسة قائمة منذ بداية القرن العشرين، لكنها أصبحت الآن من نسج الخيال".
مضيفاً أنه عندما كان الملك على رأس كنيسة إنجلترا في العام 1650 كان أمراً منطقياً، لكنه لم يعد كذلك في 2022، بحسب تعبيره.
المملكة المتحدة أصبحت من الدول الأقل تديناً في العالم!
في السياق ذاته، يقول أندرو كوبسون، الرئيس التنفيذي لمنظمة Humanists UK الإنسانية لعلوم الاجتماع، إن "أكبر تغيير ديموغرافي في إنجلترا وويلز في السنوات العشر الماضية كان النمو الهائل لغير المتدينين"، وهذا يعني أن المملكة المتحدة هي بالتأكيد واحدة من أقل البلدان تديناً على الأرض، وفق تعبيره.
وأضاف بحسب صحيفة Telegraph البريطانية: "لا توجد دولة في أوروبا لديها مثل هذا التشوش الديني كما هو الحال لدينا، من حيث القانون والسياسة العامة".
وتابع أن إيران هي الدولة الأخرى الوحيدة في العالم التي لديها رجال دين يصوتون في مجلسها التشريعي، ولا توجد دولة أخرى في العالم تفرض العبادة المسيحية الإجبارية في المدارس كمعيار.
مختتماً بقوله إن "فشل القانون في مواكبة وتيرة التغيير يفرض تمييزاً ملحوظاً ضد عدد هائل من السكان غير المتدينين، أو من ذوي الديانات الأخرى في إنجلترا وويلز"، لذلك لا بد أن تشهد بريطانيا تغييراً ضخماً عما قريب.