عندما استسلم الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية، اكتشفت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مدى تقدم الترسانة العسكرية للرايخ الثالث، وأراد كلا الجانبين اقتطاع شيء من هذا التقدم والتطور لأنفسهما.
ونتيجة لذلك، بدأت الولايات المتحدة في تجنيد بعض ألمع عقول ألمانيا النازية ضم صفوفها، بعد أن منحتهم عفواً كاملاً عن جرائمهم خلال الحرب، وكان فون براون على رأس تلك القائمة.
فقد استطاع العالم العبقري الذي ساهم في تطوير ترسانة ألمانية عند قصف دول الحلفاء خلال الحرب، أن يشارك علومه مع أمريكا في مشروعها الفضائي، ما مكنها بالفعل من الفوز في سباق الوصول إلى القمر أمام الاتحاد السوفييتي. حتى إنه تم تعيينه رئيساً لـ"ناسا" في نهاية المطاف.
نشأة فيرنر فون براون
وُلد فيرنر ماغنوس ماكسيميليان، المعروف لاحقاً باسم الفهرر فون براون، في 23 مارس/آذار عام 1912، لعائلة بروسية ثرية، وهي الإمبراطورية التي شملت ألمانيا وبولندا ولتوانيا والتشيك والدنمارك وبلجيكا، عام 1871.
وبحسب صحيفة Los Angeles Times الأمريكية، كان والد فون براون يعمل في الحكومة الفيدرالية في عهد جمهورية فايمار، وكانت والدته مرتبطة بالسلالات الملكية لأوروبا في العصور الوسطى.
على هذا النحو، تميزت طفولة فيرنر فون براون بامتياز وثراء كبيرين.
فتلقى دروس العزف على البيانو والتشيلو، والتحق بمدرسة داخلية درَّست العلوم الحديثة، حيث أثار اهتمامه السفر إلى الفضاء. وفيها برع في الرياضيات والفيزياء.
عمله مع النظام النازي
في عام 1930، عرض الجيش الألماني تمويل أطروحة الدكتوراه الخاصة به مقابل أن يعمل معهم سراً على تصنيع وتطوير الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل.
وبعد عامين فقط، تم انتخاب هتلر زعيماً للدولة، وفجأة أصبح عمل فون براون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرايخ الثالث النازي.
قبل الحرب العالمية الثانية، كان فون براون يعمل في قاعدة عمليات في بلدية بنموند، وهي مركز الصواريخ التابع للجيش الألماني، وفيها بحث في مواصفات إطلاق الرؤوس الحربية ومقذوفاتها.
أولئك الذين عملوا معه في تلك البلدية يزعمون أنه كان يحلم دائماً باستخدام أبحاثه يوماً ما لإرسال طائرة على متنها بشر إلى الفضاء.
وبحسب ما ورد بموقع All that's Interesting، تقدَّم فون براون بطلب للحصول على عضوية داخل الرايخ الثالث عام 1939، وقد زعم لاحقاً أن ذلك كان لأغراض علمية بحتة، إذ لم يكن له شأن بالسياسة.
الألماني الذي وصف هتلر بالأحمق!
أضاف فون في تصريحات لاحقة له للصحف الأمريكية أنه تم اعتقاله من قبل الجستابو، البوليس السري الألماني، لإدلائه بتعليقات حول الحرب فُسرت على أنها معادية للنازية، وكذلك نتيجة للإدلاء "بتعليقات غير مبالية" حول استخدام الصواريخ لتحقيق النصر لألمانيا في الحرب.
كما صرح العالم الألماني أنه لم يحب هتلر أبداً، مشيراً إليه على أنه "أحمق مغرور بشارب تشارلي شابلن".
ومع ذلك، مع احتدام الحرب العالمية الثانية، واصل فون براون عمله دون توقف، واستخدم حتى سجناء مخيمات الاعتقال لبناء صواريخه في مختبر ميتلويرك. فأصبح أحد علماء الصواريخ الرائدين في ألمانيا.
وخلال معظم حياته المهنية المبكرة، عمل في برنامج تطوير الصواريخ الألماني، حيث ساعد في تصميم صاروخ V-2، وهو أول صاروخ باليستي طويل المدى موجه يتم تطويره في العالم، وفقاً لصحيفة Telegraph البريطانية.
ولكن كان كل هذا حتى استسلمت ألمانيا في عام 1945.
سقوط ألمانيا النازية ومرحلة التسابق على العلماء
عندما سقط الرايخ الثالث، هرب فيرنر فون براون إلى جبال الألب البافارية تزامناً مع استسلام القوات الألمانية للحلفاء. وقد أصبح من الواضح للحلفاء مدى تقدم الترسانة العسكرية الألمانية، ومدى أهمية أسلحتهم والمعلومات بحوزتهم.
فكانت تلك الفترة هي المرحلة الذهبية للسوفييت في تجنيد العلماء النازيين والألمان السابقين في صفوفهم بقوة، وفي بعض الأحيان يكون ذلك بتهديد لأسرهم، أو تحت تهديد السلاح.
حيث كان أملهم وقتئذٍ هو تعزيز برنامجهم الفضائي واكتساب ميزة في الحرب الباردة الوشيكة ضد الولايات المتحدة، بحسب موقع NASA الرسمي.
سباق أمريكا للوصول إلى القمر
في ذلك الوقت، بدأت الولايات المتحدة بدورها في تجنيد علماء نازيين سراً، مقابل العفو عنهم ومنحهم الإقامة والحماية. فبعد شهرين فقط من استسلام الألمان، أنشأت هيئة الأركان المشتركة للولايات المتحدة عملية "مشبك الورق" أو "Paperclip"، وهو برنامج تجنيد نازي سري.
وقد اشتُق الاسم من الطريقة السرية التي يستخدمها ضباط الجيش للإشارة إلى علماء الصواريخ الألمان الذين يريدون تجنيدهم.
وعندما يصادفون مرشحاً قابلاً للتجنيد، يقومون بإرفاق مشبك ورقي ملون معين بالمجلد الخاص به قبل تسليمه إلى رؤسائهم.
وبحلول سبتمبر/أيلول من عام 1946، تمت الموافقة رسمياً على عملية مشبك الورق من قبل الرئيس ترومان، وشهدت انتقال 1000 عالم صواريخ ألماني إلى الولايات المتحدة تحت "حجز عسكري مؤقت ومحدود" للعمل في برنامج الفضاء الأمريكي الجديد.
وكان فيرنر فون براون من أشهر هؤلاء العلماء. وبينما كان قد ابتكر صاروخ V-2 في ألمانيا، فإن معظم اختراعاته المهمة ستحدث خلال السنوات التي عمل فيها مع الولايات المتحدة بعد الحرب.
العمل مع وكالة الفضاء الأمريكية
وتحت إشراف الجيش الأمريكي، ساعد فون براون في إنشاء مواقع إطلاق تجريبية للصواريخ البالستية، بالإضافة إلى مركبات الإطلاق الفضائية Jupiter C و Juno II و Saturn I.
ولأن فون براون حظي بمزيد من الحرية في أمريكا أكثر من عهد الرايخ الثالث، فقد بدأ الترويج لطموحه الأكبر، وهو إرسال صاروخ مأهول بالبشر إلى الفضاء.
حتى إنه تكهن بإطلاق محطة فضائية من شأنها أن تكون مُعلقة في مدار كوكب الأرض تدار باستمرار من قبل فرق الفضاء الدولية.
حتى إن أفكاره ساهمت في العديد من أعمال الخيال العلمي في ذلك الوقت، وأبرزها فيلم 2001: A Space Odyssey، عام 1968.
كما ساهم، بالطبع، في المهام الواقعية لبرنامج الفضاء.
وأخيراً.. الوصول إلى الفضاء
عام 1957، تم ضغط المشروع الأمريكي نظراً لتقدم الاتحاد السوفييتي في سباق الفضاء مع إطلاق مركبة Sputnik 1، ما جعل الولايات المتحدة في حالة تأهب قصوى، بقيادة فون براون.
حتى إن الحكومة الأمريكية آنذاك خصصت فرعاً رسمياً لتكريس اهتمامها الكامل لاستكشاف الفضاء. يُعرف باسم الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء، أو ناسا باختصار.
استطاع فون براون مع كل تلك الإمكانات أن يجري اختبارات للتأكد من أن الصواريخ يمكن أن تدور حول الأرض بأمان وتعود إلى غلافها الجوي للاستعداد للمهام المأهولة بالبشر.
ثم أصبح أول مدير لمركز مارشال لرحلات الفضاء الأمريكي، وهناك، ابتكر برنامجاً لتطوير صواريخ Saturn لتتمكن من حمل أحمال ثقيلة خارج مدار الأرض.
كانت اختبارات إطلاق صواريخ Saturn بمثابة مقدمة لمهمات أبولو والصواريخ التي جعلتها ممكنة فعلاً للوصول إلى الفضاء بمهمات يؤديها البشر.
بعد عام واحد فقط من استخدام نيل أرمسترونج وباز ألدرين ومايكل كولينز تقنيته بنجاح للهبوط على سطح القمر، تم تعيين ويرنر فون براون نائباً للمدير المساعد للتخطيط في وكالة ناسا.
مواطن أمريكي بامتياز
ولمدة عامين، نفذ رؤاه وخططه لجلب الرجال إلى الفضاء، قبل تقاعده في عام 1972. لكنه مع ذلك أصبح أول رئيس ورئيس للجمعية الوطنية للفضاء ناسا، وحصل على الميدالية الوطنية للعلوم.
وفي النهاية توفي فيرنر فون براون في عام 1977، بسرطان البنكرياس، بعد أن أصبح مواطناً أمريكياً بامتياز، بعد مشاركة علومه وخبراته لتطوير أبرز مشاريع الفضاء التي عرفها العالم حتى اليوم.