الأحد الأول من شهر أغسطس/آب 2020، وكان الجو شديد الحرارة، كنت في باريس لزيارة معرض "بومبي" في صالة العرض الكبرى "غران باليه". وعلى الرغم من أن مدينة بومبي الرومانية غُمرت تحت الرماد بعدما دمرتها كارثة "ثوران بركان فيزوف" في عام 79 ميلادياً، فإن المدينة لا يزال لديها ما تكشفه لعلماء الآثار وتبهر به العالم حتى اليوم. ما يميز العرض كان محاكاته الافتراضية لقلب الأحداث، ولا سيما مرحلته المحورية، وهو فيديو ثلاثي الأبعاد يعرض لحظات ثورة البركان. كانت الصور حية للغاية والمؤثرات الصوتية واقعية للغاية، حتى أننا كنا جميعاً نلهث من فرط التأثر بالأحداث المعروضة حولنا.
بعدها بيومين، في دولة لبنان التي كانت تقع تحت الاستعمار الفرنسي سابقاً، حدث ثوران بركاني لكن من نوع آخر: انفجار هائل بفعل شحنة ضخمة من نترات الأمونيوم اشتعلت فيها النيران في مرفأ بيروت، وذلك بعدما خزنتها السلطات اللبنانية في أحد المستودعات على نحو لا يراعي شروط السلامة العامة لسنوات.
الحقيقة سلعةٌ مكلفة
أنا محامية أعمل في مجال تسوية المنازعات الدولية. على مدار 12 عاماً من مسيرتي المهنية، مثّلتُ أفراداً وشركاتٍ ودولاً في بعض المناطق الأكثر خطورة في العالم. وقد درست القانون في الأصل لأنني آمنت بأن ثمة عدالة في هذا العالم.
لكن الآن، إذا سألتني هل ما زلت أومن بأن ثمة عدالة؟ هل أؤمن بها بعد ما حدث في بيروت؟
بعد عدة مهام في عملي، اكتشفت أن العدالة محض رفاهية تُمنح في الغالب لمن هم في مواقع القوة، مالية أو سياسية. وعبر مهامي التي شملت صياغة قواعد التحكيم الخاصة بمركز أفغانستان لحل المنازعات إلى تمثيل حاملي السندات القبرصية في نزاع ينطوي على مقاضاة بشأن مليارات الدولارات بين مستثمرين ودولة اليونان، كان ثمة أمر واحد مشترك في تلك المنازعات كلها، هو أن الحقيقة سلعةٌ مكلفة ومرنة وقابلة للتلاعب بها. وواقع الأمر أنه لا يهم أين تكمن الحقيقة، ولا يهم ما إذا كان المرء يقاتل من أجل قضية نبيلة.
والأهم من كل ذلك، الأشخاص أو الجهات التي تقع مصالحهم على المحك، وما إذا كانت لديهم القدرة على حماية تلك المصالح، وحجم قدراتهم تلك. والأمر لا يتعلق بكوني محامية فقط، بل بوصفي صحفية أيضاً، فقد وجدت أنه منذ السبعينيات، لم تُحلّ أي قضية اغتيالٍ لمسؤول سياسي رفيع المستوى في لبنان. وعلى ما يبدو، فإن القوانين الدولية الكثيرة التي من المفترض أنها تعمل على ضمان حقوق الإنسان الخاصة بنا، والتي شُرحت وفُصلت لي في مؤتمرات دولية لا حصر لها كنت قد حضرتها، هي مجرد قواعد رقابية عامة لا مخالب لها لتفرض سيادتها.
مثل معظم العرب، أفجعني ما حدث في لبنان. وعلى الرغم من أن سجل مصائب لبنان لا يمكن مقارنته بالأهوال التي تعرض لها بلدي الأصلي العراق، وهو الذي عانى غزواً أجنبياً وقبلها ثلاثة عقود من حكم نظام ديكتاتوري وحشي، فإن أحزان بلدان الشام المجاورة لطالما كانت قريبة ومتصلة بنا بدرجة تبعث الأسى. ولبنان، الذي وقعت قسمته في يوم من الأيام من نصيب الانتداب الفرنسي، بموجب معاهدة سايكس بيكو السرية لعام 1916، ما انفك يعاني عديداً من الأشياء، التي يرتبط كثير منها بالنظام الفاسد الذي يحكمها.
حتى في عام 2016، عندما كنت في آخر زياة لي إلى بيروت لحضور مؤتمر في قصر سرسق، الذي بات مدمَّراً الآن، أتذكر صعوبة تسيير المرء لشؤونه في العاصمة. ففي كل مرة توقفنا فيها في أي فندق أو مبنى عام، كان حراس مثيرون للريبة يفتشون حقائب سياراتنا والأسلحة موجهة إلينا. وكانت العادة انقطاع التيار الكهربائي، أحياناً لعدة مرات في الساعة الواحدة. وقد تُركت القمامة متعفنةً في عديد من الشوارع، وظلت دون أن تُجمع، ربما لأشهر. وثمة خدمات أساسية أخرى كانت غائبة. سادنا شعور بعدم الراحة، رغم أنها كانت مجرد زيارة مؤقتة، وبهدف العمل فحسب.
فرنسا لا تملك الحل
هل ثمة فرق بين حرب وكارثة إذا كانت العواقب واحدة؟ لقد كان انفجار مرفأ بيروت تجسيداً رمزياً لفشل الدولة اللبنانية. إنه أبلغ تعبير عن مدى سوء الإدارة الذي انتهجته طبقة سياسية لا تخضع للمساءلة، والتي من المحتمل الآن أن تهرب إلى ملاذاتها المعفية فيها من الضرائب، في الوقت الذي تتفاقم فيه معاناة سكان البلاد.
كان من المفترض أن أتحمس لإعلان حل الحكومة اللبنانية يوم الإثنين 10 أغسطس/آب، لكنني منهكة من الخيبات السابقة مع بلدي العراق. لا يزال الوضع يثير القلق في نفسي، فالاضطرابات تعم المنطقة، وهي منطقة تحظى بأهمية استراتيجية وجيوسياسية كبيرة، إلا أنها غارقة في الفوضى والانقسامات. وكما تعلمنا من العراق، فإنه حتى بعد إزاحة الحكومة (أو استقالتها، كما هو الحال هنا)، ما لم تكن هناك حكومة معدة بالفعل لتولي مكان الحكومة المغادرة، فإن المحصلة تكون مزيداً من الفوضى. كما أنه في حالة لبنان، فإن استقالة الحكومة ليست سوى استقالة رمزية لأنه، وكما أشار بعض الخبراء في شؤون المنطقة، من المرجح أن يكون لعديد من الأشخاص الذين شاركوا فيها أدوار في الحكومة الانتقالية التالية.
بصفتي محامية، لا تتمثل مهمتي في صياغة استراتيجيات سياسية، بل بتنفيذ حلول موضوعة. ومع ذلك، فأنا لا أرى حلاً قصير المدى لهذه المشكلة. حدسي يقول إنه من السذاجة والتبسيط المخل الاعتقاد بأن الجواب هو النظر إلى فرنسا بوصفها منقذاً للبلاد، في حين أنها الدولة ذاتها التي كان لها دور في جلب الأوضاع الحالية على البلاد، من خلال زرعها لهيكل الحكم القائم على الزبونية وعلاقة "الرعاة والعملاء" patron-client.
مؤسسات مستقلة وديمقراطية مختلفة
ومن ثم فأنا أؤيد، بدلاً من ذلك، خطةَ عمل طويلة المدى. تتضمن تلك الخطة وضع أسس نظام ديمقراطي، لا يقتصر بناؤه على تصوراتنا عن مفهوم النظام الديمقراطي، بل يستند إلى ثقافة وتاريخ المنطقة، الذي ينطوي على كثير من المضامين العلمانية إلى حد بعيد. وعلى المستوى العالمي، يتطلب الأمر تعزيز مؤسساتنا الدولية (مثل آليات الإنفاذ في معاهدات حقوق الإنسان، والولاية القضائية لمحاكمنا الجنائية)، بحيث يمكن محاسبة القادة والحكومات على الأخطاء التي ارتكبت بحق مواطنيهم.
لكي تكون تلك المؤسسات مستقلة حقاً عن أي دولة أو فصيل ديني أو سياسي، يجب تمويلها من القطاع الخاص، وليس من الدولة. ومع ذلك، فأنا متأكدة أنني لست أول من اقترح هذا الأمر، وأن القول هنا أسهل بكثير من الفعل.
في الختام، ذكرني معرض بومبي أن ثمة دروساً يمكن تعلمها من أسلافنا الرومان. ظلت بومبي مجمدة على حالها، في انتظار أن نعيد اكتشافها كما كانت تماماً. كل ثروات الإمبراطورية ومكانتها لا تعني شيئاً، ففي غضون دقائق، كل شيء قد يتحول إلى رماد. الرومان لديهم قول مأثور: Credo che nui arimo piu bon taglieri، معناه: "لن نتشارك نفس الطاولة بعد الآن"، ويشيرون به إلى انتهاء الصداقة.
حان الوقت الآن لإعادة النظر في روابط الصداقة الزائفة، وهذا لا ينطبق على لبنان فحسب، بل يشمل كثيرين في العالم العربي.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.