جاء خطاب جو بايدن المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية الإثنين الماضي ملفتاً للانتباه من عدة أوجه جعلته خطاباً استثنائياً في تاريخ المرشحين للانتخابات الرئاسية. الخطاب الذي استغرق 11 دقيقة جاء ضمن فاعلية قمة "مليون صوت مسلم" عبر الإنترنت. حمل في طياته وعود قاطعة بإلغاء قرار ترامب حول حظر سفر مواطنين سبع دول ذات أغلبية مسلمة في اليوم الأول، إضافة التأكيد على إشراك قيادات مسلمة في إدارته الرئاسية ودعم الأقليات المسلمة في العالم كالروهينغا والإيغور، ودعم المسلمين في اليمن وسوريا وغزة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. حاثاً المسلمين على التصويت باستخدامه لحديث نبوي شهير رفض المنكر والسعي لتغييره عبر اليد واللسان والقلب.
خطاب تاريخي
انتبه الأمريكيون لوجود المسلمين وتأثيرهم في مجتمعهم عن قرب خلال واقعتين رئيستين الأولى هي الثورة الإيرانية وما تلاها من مواجهات مع أمريكا كواقعة احتجاز الرهائن الأمريكيين في إيران والثانية خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهما واقعتان جعلتا النظرة للمسلمين والتعامل معهم إيجابياً ليست محل تشجيع كبير لذلك ظل المسلمون بعيداً عن المغازلة المباشرة أو كأقلية تؤخذ في الاعتبار عبر وعود جدية. فحتى في الانتخابات التي فاز بها أوباما في عام 2008 كان المسلمون جزءاً من خطاب عام مس كل الأقليات. وهنا أتذكر واقعة، ذكرها لي أحد الناشطين في حقل العمل الإسلامي، في فترة انتخابات أوباما الأولى حينما ضمت صفوف الجماهير خلفه مباشرة فتاة محجبة، فخرجت أصوات ناقدة بشكل كبير الأمر الذي اضطر الحملة لتبرير الموقف بأنها "واحدة ضمن كثير حضروا" في إشارة إلى عدم التفرد أو سابق نية لأي إشارة تخص امتيازاً للمسلمين مستقبلاً. وحتى خطابيا أوباما الشهيران اللذان وجههما للمسلمين سواء في جامعة القاهرة عام 2009 أو خطابه في المركز الإسلامي في بالتيمور، فبراير/شباط 2016، كانا ذا أبعاد مختلفة عن علاقة رجال السياسة بالمسلمين الأمريكيين، فالخطاب الأول كان خطاباً تصالحياً يحاول أن يحتوي جزءاً من إرث جورج بوش الذي وَلَدَ كراهية وضغينة اتجاه أمريكا والأمريكيين، ولذلك تم اعتباره خطاباً ضمن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية للسياسة الخارجية وهو خطاب لم يكن يحتوي على وعود حاسمة تمس المسلمين بصفتهم الدينية. أما الخطاب الثاني فكان خطاباً مكرراً عن أهمية عدم الخلط بين الإسلام والإرهاب وحمل مطالب للمسلمين للتصدي للإرهاب وتنديداً بخطابات ترامب كمرشح رئاسي ضد المسلمين.
لذلك فإن خطاب بايدن هذه المرة يُعد الأول من نوعه بسبب توقيته ومحتواه ووعوده والمناسبة التي ألقي فيها، وهي قمة "مليون صوت مسلم" والتي نظمت من قبل جمعية "إيماجيج أكشن" المؤسسة منذ سبع سنوات في فلوريدا لحث المسلمين على التسجيل للتصويت أو المشاركة الانتخابية بالترشح.
السر وراء الخطاب
يدفعنا هذا الاستثناء الجديد لطرح جملة من الأسئلة عن الدوافع الخاصة خلف هذا الخطاب سواء على مستوى شخص بايدن كمرشح رئاسي أو على مستوى وزن المسلمين، فلا توجد دوافع أخلاقية كبيرة تحرك السياسيين في العالم وفي أمريكا، قد يكون لسياسي أيدولوجية ما مخالفة جزئياً عن سياسي آخر، لكن في عالم السياسة عادة ما تكون الأيديولوجيات هي مساحات للتمايز عن الغير بأكثر منها اختلافاً أخلاقياً في سبيل تحقيق المصالح والمجد الشخصي. لذا فإن جانب الرغبة في التمايز عن ترامب واضحة، لاسيما عداء الأخير للمسلمين واستناده إلى قاعدة تصويتية تعادي المسلمين ووجودهم في الولايات المتحدة.
لكن بايدن لم يكن معروفاً عنه سابقاً أنه صاحب مواقف جذرية أو واضحة في تمثيل مصالح مسلمي أمريكا أو التصدي للدفاع عنهم بوصفهم مسلمين تعرضوا لمعاملة سلبية من نوع خاص طوال فترة جورج بوش الابن التي تلت تفجيرات 11 سبتمبر، بل على العكس كان الرجل مؤيداً لغزو العراق وصوت بذلك في الكونغرس ولم يكن له أي آراء مخالفة لأوباما في دعم إسرائيل غير محدود حيث منحت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مساعدات مادية في تاريخها لإسرائيل في عهد أوباما.
لذا فعلى مستوى السياسات العملية وليس التصريحات الوردية في المناسبات فإن الكثيرين يتحسسون رؤوسهم. وبالتالي لا أعتقد أن الخطاب لا يعبر عن رؤية عميقة وجذرية لدى الرجل في تغيير التعامل مع المسلمين بقدر ما هي رؤية براغماتية لحملته في التعامل مع اللحظة الراهنة التي تصطف فيها جميع الأقليات ضد ترامب، وأثبت المسلمين أنهم باتوا كتلة تصويتية ذات وزن نسبي يؤخذ في الاعتبار حينما وصل عدد أصوات المسجلين في جداول الناخبين حتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي نحو مليون صوت من أصل ما يقرب من ثلاثة ملايين ونصف المليون مسلم في الولايات المتحدة الأمريكية يشكلون ما يقرب من 1.1% من إجمالي سكان الولايات المتحدة، فضلاً عن نجاحهم في إيصال عضوتين مسلمتين للكونغرس هما الفلسطينية رشيدة طليب والصومالية إلهان عمر، إضافة لنجاح عدد من المسلمين في انتخابات مناصب كثيرة مختلفة على مستوى مناصب محلية تبدأ من مجالس إدارات المدارس وحتى مجالس نواب بعض الولايات بصورة ملفتة بدأً من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، الذي يعد عام الانقلاب في شعبية الجمهوريين والذي بات بعده ليس كما قبله.
ولادة لوبي مسلم في أمريكا
لكن في هذا السياق ثمة سؤال يطرح دائماً، إذا كانت أصوات المسلمين تذهب للديمقراطيين بشكل شبه مضمون للديمقراطيين منذ انتخابات عام 2004، لماذا يأخذ بايدن هذا المنحى الذي بحسب مراقبين قد يُستخدم ضده من قبل العنصريين أو بعض المتوجسين خيفة من المسلمين؟
في الحقيقة فإن الإجابة على هذا السؤال تأخذنا لإلقاء نظرة على كيف يتحرك المسلمون في المجتمع الأمريكي خلال الانتخابات. لم يكن ثمة أي تحرك جماعي للمسلمين في أي انتخابات على مستوى القطر الأمريكي، فلا مركزية الولايات المتحدة جعلت المسلمين على ضعف مواردهم وقلة عددهم غير مهتمين كثيراً بالخروج للتصويت في الاستحقاقات العامة، وقليلاً ما يتجمع المسلمون كقوة صوتية ضاربة في بعض الانتخابات شديدة المحلية. فلا ثمة قيادة عليا لمنظمة موحدة تمثل مصالح المسلمين مثلما هو حاصل مع اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل والذي ينضوي تحت منظمة واحدة هي "إيباك" والتي يكون لها موقف موحد من التصويت وتمثل جماعة ضغط فاعلة على كافة المستويات السياسية بأجندة مركزية واحدة جعلت منها اللوبي السياسي الأقوى في أمريكا. فثمة مؤتمران كبيران يعقدان سنوياً لمناقشة أمور المسلمين في أمريكا هما مؤتمر "إكنا" و"إسنا" إلا أنهما لا يمثلان ولا يعكسان كل رؤية المسلمين، فيمكن القول إن بعض المسلمين يسعون لإقامة أنشطة كأنشطة اللوبيات من آن لآخر إلا أنه لا يوجد بالفعل لوبي خاص بالمسلمين يمثل مصالحهم بشكل خاص داخلياً وخارجياً.
من هنا نفهم لماذا ذهب بايدن لمغازلة المسلمين رغم ضمان أصواتهم. فالخشية من عدم الخروج للتصويت أو التشتت أو ضعف العزيمة باعتبار أن بايدن كغيره أو أنه ليس ذا تاريخ ناصع مع المسلمين، دفع بايدن للقلق من تكرار تجربة هيلاري كلينتون التي خسرت بسبب بعض الأصوات القليلة في الولايات المتأرجحة كفلوريدا وبنسلفانيا، وهي ولايات يوجد بها عدد من المسلمين لا بأس به، والأهم هي خسارتها في ولاية ميتشغن، معقل المسلمين في أمريكا، بفارق ضئيل جداً. وبالتالي تنظيم صفوف المسلمين ودفعهم للخروج للتصويت هما مصلحة بايدن المباشرة قبل أي شخص آخر.
وعود حقيقية أم بروباغندا؟
لا أعتقد أن وعود بايدن ستكون جادة وستنفذ على النحو الأمثل إلا إذا أثبت المسلمون أنهم كتلة صوتية فارقة قادرة على الترجيح في اللحظات الحاسمة وفي الولايات المتأرجحة، ما عدا ذلك لن يكون ثمة دافع لبايدن لتنفيذ وعوده أو تبني أجندتهم فالمجتمع السياسي الأمريكي لا يعرف سوى لغة قوة المصالح وقوة "البروباغاندا" المصاحبة لها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.