تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر وأقوى قوة عسكرية في العالم ٨٠٠ قاعدة عسكرية في شتى بقاع الكرة الأرضية.
هذا الحجم الخرافي من القواعد العسكرية مع حجم الأسطول البحري العابر للمحيطات المتمثل في أكبر عدد تمتلكه أمريكا من حاملات الطائرات بالإضافة إلى ما يزيد عن ٦٨٠٠ صاروخ نووي تستطيع أمريكا أن تقهر الصين في حرب عالمية ثالثة.
في حقيقة الأمر هذا العنوان لا يمت للواقع بصلة، على الأقل من وجهة نظري، فعلى الرغم من أني أقرأ أسبوعياً في كل الصحف العربية تقريباً أخباراً وتحليلات عن الحرب القادمة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف أن العداء المتنامي بينهما سوف يؤدي إلى صدام عسكري لا محالة.
هذه التحليلات السياسية في حقيقة الأمر تعتمد على نظرة أحادية في العلاقة بين القوتين العالميتين، وهي حدة التجاذب السياسي بينهما، وترسم مسار الحرب من قوة التصريحات الإعلامية المعادية بين الطرفين والعقوبات الاقتصادية التي فرضها ترامب مؤخراً ووصلت لحوالي ٢٠٠ مليار دولار، وترى هذه التحليلات أن نهاية هذا المسار هي الحرب لا محالة، ولا تكتفي فقط بهذه الرؤية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك في رؤية أن الصين هي الطرف الفائز وأن أمريكا في طريقها إلى الانهيار.
وهنا لابد من النظر إلى الصورة من أْعلى حتى نستطيع أن نرى أركانها بوضوح، فأمريكا هي من قررت أن تجعل الصين مصنعاً رخيصاً وكبيراً لها، ثم تحول هذا المصنع الصيني من مصنع أمريكا إلى مصنع العالم، بسبب الاستثمارات الأمريكية، وببساطة لن تجد الصين سوقاً استهلاكية مبنية على الرفاهية أكثر من المجتمع الأمريكي.
أحدهم سيقول سريعاً الهند لأن عدد سكانها أكبر من أربعة أضعاف عدد سكان أمريكا، ولكن الرد السريع هو أنه مع متوسط دخل الفرد في أمريكا، يتخطى ٦٠ ألف دولار سنوياً، تكون أمريكا هي أكبر سوق استهلاكية للمنتجات الصينية بلا منازع.
ومع وضع بعض الأرقام الصحيحة ضمن الرؤية الأشمل، نجد أن حجم التجارة بين الدولتين وصل في عام 2018 إلى 737 مليار دولار، منها 179 ملياراً صادرات أمريكية مقابل واردات من الصين بلغت 558 مليار دولار، أي بعجز تجاري لصالح الصين بلغ 378 ملياراً.
وينقسم حجم التجارة الكلي بين الدولتين إلى منتجات وخدمات، وتتمتع الصين بفائض في الفئتين.
وبلغ حجم تجارة المنتجات بين الدولتين 660 مليار دولار العام الماضي، منها 120 ملياراً صادرات أمريكية مقابل واردات من الصين بلغت 539 مليار دولار، أي أن هناك فائضاً تجارياً بلغ 419 ملياراً.
أما حجم تبادل الخدمات بين الدولتين فوصل العام الماضي إلى 77 مليار دولار، منها 59 مليار دولار واردات خدمية من الصين، مقابل صادرات خدمية أمريكية بلغت 18 مليار دولار، أي أن هناك فائضاً قيمته أربعون مليار دولار لصالح الصين.
وتشير بيانات وزارة التجارة إلى أن قطاع الصادرات الأمريكية للصين يعمل به 911 ألف شخص في مختلف الولايات الأمريكية.
إذاً كيف يمكن للصين أن تتخلى عن شريكها الأول في العالم وتقرر فجأة أن تقاتله وليس له بديل؟ بالطبع هذا لن يحدث، بل إن في حقيقة الأمر أن ما سيحدث حالياً هو تعديل بعض الخلل من أجل علاقة تشاركية أكبر تتناسب مع حجم الدولتين كأكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وإلا كيف نفسر موافقة الصين على شراء ما قيمته ٢٠٠ مليار دولار من المواد الغذائية من أمريكا خلال المفاوضات التجارية الأخيرة، وهي بذلك تبتعد أكثر عن أسواق مثل الاتحاد الأوروبي وآسيا وروسيا لتقترب وتعتمد أكثر على أمريكا.
يعني أن الصين ليس لديها مشكلة حيوية في الاعتماد على السوق الأمريكية، بل إن جل هذه المفاوضات تتلخص في ضغط أمريكي لتقليل نسب الفائض الكبير لصالح الصين ليكون متوازناَ إلى حد ما لصالح الصين أيضاً، بمعنى أن أمريكا لا تريد الفوز في الحرب التجارية كما يحلو للإعلام استخدام هذا المصطلح، بل كل ما تريده هو تقليل هذا الفارق الذي أصبح مزعجاً والصين هي الفائزة في كل الأحوال.
وفي نهاية المطاف، نجد أن الطرفين بالفعل قد توصلا إلى اتفاق تجاري بينهما دخل حيز التنفيذ بالفعل، بل اكتشف الطرفان خلال هذه المفاوضات أن تقليل حجم التبادل التجاري بينهما أضر ضرراً بالغاً بالسوق الداخلية لكلا الطرفين.
بل إن أمريكا تعرف جيداً أن من مصلحتها التجارية البحتة تنامي وتعافي المجتمع الصيني وزيادة مستوى الرفاهية ليقبل أكثر على استخدام منتجات التكنولوجيا الأمريكية، فهي ترغب في زيادة مستوى انفتاح الشعب الصيني وزيادة دخله وتحسين أوضاعه، لأنه ببساطة ليس له بديل.
إذاً فالطرفان يدركان تماماً أن العلاقة لابد أن تكون تشاركية تراكمية مستمرة، وأن كل طرف لن يستطيع أن يستغني عن الآخر، لأنهما في حقيقة الأمر في زواج تجاري لا يمكن حدوث الطلاق فيه، وأن هذه العلاقة أبعد ما تكون عن سياسة الاستقطاب أو الانعزالية، لسبب بسيط للغاية هو أن القادة السياسيين في كلتا القوتين يدركون تماماً أبعاد هذا العالم السياسية والاقتصادية، وأن انطلاق مجموعة صواريخ بالخطأ قد يؤدي إلى دمار لا يمكن إصلاحه، إذاً فالحل هو كيف نعمل على تلافي حدوث هذا الخطأ وليس على دخول حرب حقيقية واقعية، فأمريكا تملك ٨٠٠ قاعدة عسكرية حول العالم، بمعنى أنها تمتلك زمام هذه الكرة المستديرة بلا منازع أو منافس، حتى على المستوى المتوسط وليس القريب، هذه القواعد تضمن لها استمرار تدفق مصالحها الاقتصادية.. إذاً لماذا الحرب؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.